أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون [ ص: 275 ] أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون
* * *
ذكر الله تعالى أحوال بني إسرائيل عقب ما كان من إبليس لآدم عليه السلام ، وقد كان ذكرهم بعد آدم وإن لم يكونوا أول أولاد آدم في الأرض ، بل جاءوا بعده بمئات الألوف فيما نزعم ، لأنهم أوضح صورة إنسانية ، لتحكم إبليس في ابن آدم ، فقد قامت بين أيديهم الأدلة ، والآيات الحسية ، والنعم ، ومع ذلك كفروا وإذا كانت تلك حالهم في الماضي ، والحاضرون يوافقونهم ويعتزون بهم مع هذه المآثم ، ويحسبون أنهم بماضيهم الذي نسوه مفاخرون العرب ، ويقولون فيهم : ما علينا في الأميين من سبيل ، فإنه لا مطمع في إيمانهم ; لأن الجاهل يطمع في إيمانه إذا علم وقامت البينات الداعية ، أما المغتر المعاند في ماضيه وحاضره ، فإنه لا مطمع في إيمانه .
ولذا قال الله تعالى مخاطبا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ومن اتبعه من المؤمنين : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه .
الفاء مؤخرة عن تقدم ، لأن الاستفهام له الصدارة ، والفاء للإفصاح عن شرط متضمن ما كان في ماضيهم منذ آدم ، وكفر متوال بأنعم الله تعالى ، والاستفهام إنكاري بمعنى النهي ، لأنه إنكار للواقع ، إذ الواقع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه رسول يدعو إلى الهدى يطمع في إيمان من يدعوهم ، فينكر الله تعالى عليه ذلك ، ويكون الاستنكار بمعنى النهي ، أي لا تطمعوا في أن يؤمن هؤلاء فإن ماضيهم الذي يراه حاضرهم ويؤمنون به ليس من شأنه أن يطمعكم في إيمانهم ، بل إنه يلقى باليأس من الإيمان في قلوب الذين يدعونهم ، ويخلصون في دعوتهم .
وقوله تعالى : أن يؤمنوا لكم التعدية باللام ; لأنها تتضمن معنى الاستجابة ، والمعنى أتطمعون أن يؤمنوا مستجيبين لكم . وآمنوا تتعدى بالباء إذا كان [ ص: 276 ] ما بعدها هو الذي يؤمن به كقولك آمنوا بالله ورسوله ، ومثل قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . وتتعدى باللام إذا كانت متضمنة معنى الاستجابة للداعي ، ومن ذلك : فآمن له لوط ومثل قوله : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم
ولذلك كان التعدي هنا باللام : إما لتضمن الإجابة معنى الاستجابة ، وإما لأن اللام للتعليل ، أي لا تطمعوا في إيمانهم لأجل دعوتكم ، فهم ميئوس من إيمانهم لا كان منهم في الماضي ، وما يكون منهم في الحاضر .
وقد بين سبحانه سبب الغواية في جملة حالية وهي وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه هذا الفريق أكان في عهود سابقة في عهد موسى أم حالهم الحاضرة .
قال كثير من مفسري السلف : إنهم كانوا في عهد موسى عليه السلام ، وقد كانوا يحاولون أن يسمعوا كلام الرب سبحانه وتعالى ، كما يسمعه كليم الله موسى عليه السلام ، ولكن ذلك بعيد ، إنهم سمعوا كلام الله تعالى من لسان موسى في التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام ، وعقلوه ، وفهموه ثم حرفوه قاصدين تشويه ما سمعوا ، وإفساد الحقائق وقد فهموها .
وبعض المفسرين يرون أن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه ، وأن الفريق الذي سمع كلام الله تعالى بتبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من اليهود الذين عاصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسمعوا ما يدعوهم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقلوه ، وأدركوا مراميه وغاياته وما يدعوهم إليه ، ثم بعد ذلك يحرفونه ، وينقلونه إلى إخوانهم محرفا ، غير دال على حقيقة ما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهم فريقان : سامع محرف ، ومعرض ابتداء لا يحضر في المجلس النبوي ، وما التحريف وكيف يكون ؟ فنقول : التحريف في الكلام له معنيان : أحدهما التغيير في معناه ، بأن يحرفوه على طرف من المعنى ، بأن يخرجوه [ ص: 277 ] عن لب معناه إلى طرف من أطرافه ; لأن الحرف أصله الطرف دون اللب والوسط فهم يتجهون إلى التعلق بغير لب القول .
والتحريف إمالة القول إلى غير معناه ، وهذا هو النوع الثاني ، وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته ونص كلامه " تحريف الكلام " أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين . قال عز وجل : يحرفون الكلم عن مواضعه يحرفون الكلم من بعد مواضعه وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون .
والتعريض بـ " ثم " يفيد البعد المعنوي بين ما سمعوه وعقلوه ، وتدبروه ، وعرفوا غايته ، وبين التحريف الذي حرفوه مما يدل على فساد نفوسهم ، وضلال قلوبهم .
وأخبر سبحانه وتعالى أن التحريف من بعد ما عقلوه ، وعرفوه عرفان الخبير المدرك ، الفاهم ، لا أنهم حرفوا عن غير علم ومن غير معرفة بمدلولات الألفاظ ومراميها ، ومقاصدها ، وغاياتها ، فتحريفهم بقصد التضليل ، ومن يقصد التضليل يكون قلبه مصروفا عن الحقائق فلا يدركها ، ولا يذعن لها إن أدركها ، بل هو يصد عن سبيلها .
ثم أكد سبحانه وتعالى سوء مقصدهم ، وغاية عملهم ، فقال تعالى : وهم يعلمون أي وهم يدركون الكلام الذي سمعوه ، ويعرفون مرماه ومقصده ، ومع ذلك يحرفونه آثمين فاسدين مفسدين .
هذا على اعتبار أن الذي خاطب الفريق محمد - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه .
ويجب في مقام ذكر معاني هذه الآية أن نذكر أمورا ثلاثة :
أولها : أن الذين حرفوا القول عن مواضعه فريق منهم ، وليسوا جميعهم ، فكيف يكون اليأس من إيمان كلهم بعمل فريق والجواب عن ذلك أن الفريق الذي سمع أرضى بقوله الفريق الذي لم يسمع ، بل إن الفريق الذي لم يسمع كان معرضا [ ص: 278 ] عن سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو كان قابلا لاستماع القول المحرف راضيا به مصدقا له ، فهم كانوا على سواء ، وكذلك الأمر على التفسير بأن السماع كان من فريق من قوم موسى سمعوا من موسى وحرفوه ، فقبله الآخرون وهم راضون ، فكانوا مع غيرهم على سواء ، ولا فرق بينهم .
الأمر الثاني : أنه إذا كان الفريق الذي حرف في عهد موسى أو بعده ، فإن ذلك سائغ بعد موسى ثابت ، والراجع للتوراة القائمة بين أيدينا يجد أمارات التحريف تلوح ، وقد بينا ذلك في بحث رددنا به على بعض الكذابين ، الذين قالوا في القرآن ما قالوا من افتراء وكذب رددناه في نحورهم .
وقد أثبت كتاب النصارى أن التحريف لا يزال يجري في الكتب عندهم ما بين كتب العهد القديم ، والجديد ، واقرأ في ذلك كتاب " ذخيرة الألباب " لأحد كتاب النصارى ، فإنه بين بطريق لا يقبل الشك أن ، وأثبت الشيخ رحمة الله التحريف حدث في التوراة والإنجيل الهندي في كتابه " إظهار الحق " أن التغيير والتبديل لا يزال يجري إلى الآن في كتبهم .
الأمر الثالث : الذي نشير إليه أن أثارة باقية في كتبهم ربما تكون صادقة ، ولكن اختلطت بباطل كثير .
كان اليهود يسمعون كلام الله تعالى ، ثم يحرفونه من بعد أن يعقلوه ، وهم يعلمون موضع التحريف . وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالا أخرى من أحوالهم ، وهي أنهم كانوا يظهرون الإيمان في حضرة المؤمنين فإذا خلوا مع أحد منهم تلاوموا على إظهارهم الإيمان ; ولذا قال تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم .
هذا وصف للمنافقين ذكره الله تعالى من قبل في قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون إلى آخر الآيات التي ساقها القرآن الكريم ، والأمثلة التي ضربها في كشف حالهم .
[ ص: 279 ] وهذه الآية التي نتكلم في معناها أتت بأمر خاص باليهود الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي أنهم لفرط غرورهم يحسبون أن الله تعالى لا يعلم خفي أمرهم ، فهو نوع من النفاق أضلهم .
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا أي صدقنا وأذعنا لكل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - آمنا بأنه الحق من عند الله وبأن ما جئت به هو الحق .
وقد حسبوا أنهم بذلك قد نجوا من الملامة ، فحفظوا المظهر بما أظهروه ، وحفظوا كفرهم فلم يعلنوه ، ولكن إخوانهم وهم على ملتهم ، وعلى جحودهم لم يرضوا بالظهور بهذا المظهر .
فإذا خلا بعضهم إلى بعض ، فالتقى الذين أظهروا ما لم يبطنوا ، والذين لم يلقوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، كان التلاوم فيقول الذين لم يلقوا المؤمنين أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ، أي بما حكم الله تعالى به عليكم ، فالفتح في لغة العرب هو الحكم بأمر القضاء ، كما قال تعالى : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق
وما حكم الله تعالى به في هذا المقام هو بشارة التوراة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال تعالى : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وقد أخذ العهد عليهم بأن يتبعوه ويؤمنوا به إذا جاءهم ، فالاستفهام إنكاري لإنكار فهم الوقوع فهم يوبخونهم على أنهم حدثوهم بما قضى الله تعالى عليهم بأن يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم ، وإنه كان يجب عليهم أن يستمروا في جحودهم ، وعللوا لوم إخوانهم بقولهم : ليحاجوكم به عند ربكم أي ليكون حجة عليكم عند ربكم ، يحاجونكم به ، والاعتراف حجة ظاهرة .
وإنهم بذلك يزعمون أمرين كلاهما باطل :
أولهما - أنهم يحسبون أن الله تعالى يحتاج في معرفة ما هم عليه إلى إقرارهم ، وهو عالم الغيب والشهادة ، وعالم السر والجهر ، وأنهم مأخوذون بما واثقهم عليه ، وبالحق الذي أمرهم باتباعه .
[ ص: 280 ] وثانيهما أنهم يحسبون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما كانوا يعلمون ما عند اليهود إلا بإقرارهم أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمؤمنون يعرفون ما في كتبهم من بشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أنفسهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .
ولقد بين الله تعالى بطلان كلامهم وبعده عن العقول فقال تعالى : أفلا تعقلون الفاء مؤخرة عن تقديم لأن صيغة الاستفهام لها الصدارة ، والفاء للإفصاح ، والاستفهام داخل على نفي ، فهو من قبيل نفي النفي وهو في نتيجته يدعوهم سبحانه وتعالى إلى أن يعقلوا ، ويتفكروا ويتدبروا ، ويدركوا ما يؤدي إليه كلامهم ، وهو بعده عن كل معقول ، فهم يتصورون أن الله تعالى لا يعلم حالهم ، وما أخذ عليهم من مواثيق ، وما وضع من إشارات إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم ، يتصورون ذلك ويحسبون أن المؤمنين يحاجونهم عند الله بهذا الاعتراف ، ولا يعرفون أن الله تعالى يعرف سرهم ونجواهم . وقد يفسر قوله تعالى : أفلا تعقلون على أنه من كلام بعضهم ، ويكون معناه على أنه من لسانهم ، أفلا تعقلون وتتدبرون نتيجة كلامكم من أنهم يحاجونكم به عند ربكم ، ويكون هذا إمعانا في الجهل بحالهم وعلم الله تعالى ، ونحن نميل إلى احتمال توجيهه من الله تعالت كلماته .
وإنهم ممعنون في الجهل بالله سبحانه وتعالى ، وظنهم أن الله تعالى لا يعلم ما يخفون وما يبدون ، وإنه لا فائدة في أن يحدثوا النبي والمؤمنين ، لأن الله تعالى بكل شيء عليم ، ولذلك قال تعالى : أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون هذا استفهام إنكاري لجهلهم ، وتوبيخ لهم على عدم علمهم ، فالاستفهام داخل على فعل محذوف دل عليه عطف ما بعده والمعنى أيقولون ما يقولون من ذلك القول ، ولا يعلمون أن الله - جل جلاله - وقد أحاط بكل شيء علما ويعلم ما يسرونه وما يجهرون به ، وما يعلنونه للناس ، يعلم ما تخفي صدورهم ، ويعلم ما يجهرون ، وفي بيان ذلك العلم تهديد بالجزاء الذي ينتظرهم ، فهو سبحانه يعلم ما يفعلون ، وما يخالفون به مواثيقهم وعهودهم ، وما ينكثون به في أيمانهم ، ومؤاخذهم به .
[ ص: 281 ] وقد ذكر سبحانه وتعالى حال اليهود ، فأشار سبحانه إلى أن اليهود قسمان : أحبار أو علماء ، وأميون يضلون الآخرين بدعوى أنهم وحدهم أوتوا علم الكتاب ; ولأن الآخرين لا يعرفون الكتاب إلا أماني يتمنونها ، فيشبعوا أمانيهم وأهواءهم ، ولذلك قال تعالى : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني .
الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأمة الأمية التي لا يسودها العلم ، وكان الأحبار من أهل الكتاب يقولون : ليس علينا في الأميين سبيل وقد ينسب الأمي إلى الأم على اعتبار أنه على أصل ولادة أمه ، فهو لم يزد علما عما ولدته عليه أمه .
وهؤلاء الأميون لا يقرأون الكتاب ، ولا يعرفون أحكامه ، وما اشتمل عليه من تكليفات اجتماعية وعبادية ، وإنهم لفرط جهلهم بالكتاب لا يعلمون إلا ما يكون فيه إرضاء لأمانيهم ، والأماني جمع أمنية ، وهي ما يتمناه القلب ويحبه ، وما يتمنونه أهواء مسيطرة عليهم كقول عامتهم وخاصتهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، ولقد قال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم أي ما يتمنونه ويقول تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا .
وفي الجملة الأماني التي يعلم الأميون من أهل الكتاب مضمون كتابهم بها هي ما يكون متفقا مع ما يتمنون ، فلا يعلمونه تكليفات وأحكاما ، فيها حساب ، وثواب أو عقاب ، إنما يعلمونه رغبات تتحقق ، وأهواء تثبت ، ومثلهم كمثل عوام المسلمين ، الذين يقولون أمة الإسلام على خير ، ولو لم يعملوا أي عمل ، بل لو لم يعملوا عملا صالحا قط ، ولو زنوا أو سرقوا ، وسكروا ، وعبثوا في كل معبث ، ولم يتركوا منكرا إلا ارتكبوه ، وسدوا باب الجهاد ، وكانوا كلا على أعدائهم يتصرفون في مصائرهم .
وقوله تعالى : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني قالوا : إن الاستثناء منقطع ، فيكون المعنى لا يعلمون شيئا من الكتاب الذي يتلونه ولا يفهمونه ، ولكن [ ص: 282 ] يعلمونه أماني يتمنونها وأهواء يبتغونها ، ولا يدركون التكليفات والأحكام ، ولا يعلمون المواثيق التي أخذت عليهم .
ولا مانع أن يكون الاستثناء متصلا ، ويكون المعنى أنهم لا يعلمون من علم الكتاب إلا ما يرضي أمانيهم ، ويشبع أهواءهم . ويرشح لذلك قوله تعالى من بعد : وإن هم إلا يظنون أي إن علمهم ظن ، وليس بيقين له مقدمات يقينية ينتج علما يقينيا ، وإنما تنتج ظنا ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ، فعلمهم أوهام في أوهام ، وهل تنتج الأهواء التي تنبعث من الأماني يقينا أو علما صادقا ؟
لقد قال بعض العلماء : إن الأماني من التمني ، وهو لا يكون إلا كاذبا ، ولقد قال تعالى : وإن هم إلا يظنون أي ليس علمهم إلا ما يظنونه علما ، وما هم بمتيقنين ، وقد أكد الله تعالى قصر علمهم على الظن الذي يتجدد لهم آنا بعد آن ، فنفى عنهم العلم وقصره على الظن ، أي ما عندهم من علم إلا الظن الذي تدفع إليه أوهامهم ، وعبر بالمضارع للإشارة إلى أن ظنهم يتجدد ويستمرون في أكاذيب يبتدعونها ، وظنونا يختلقونها أو يختلقها لهم أحبارهم .
* * *