فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
* * * [ ص: 283 ] إذا كان من أهل الكتاب أميون لا يعلمون من علم الكتاب إلا الأماني التي يشبعون بها أهواءهم ، ويدخلون بها الكذب والتمويه على نفوسهم ، فإن أولئك الأحبار أو العلماء يمالئون نفوسهم من الأكاذيب ، ويكتبون بأيديهم ما ليس من الكتاب ، ويوهمونهم أنه من الكتاب ، وما هو من الكتاب ، وفي ذلك رد على الذين يزعمون أن القرآن يقر كل ما جاء في كتبهم ، فهل هو يقر ما يكتبونه بأيديهم ، ويقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ; كذبوا وبهتوا ، وأعظموا الفرية على كتاب الله تعالى .
ولقد أخبر سبحانه أن أولئك الذين يجلسون مجلس العلماء فيهم ينتهزون أن فيهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وأن علمهم ظن والظن لا يغني من الحق شيئا ، فيكتبون الكتاب بأيديهم حاذفين ما شاءوا ويزيدون عليه ما شاءوا ، فقال تعالى : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله .
الفاء في قوله تعالى : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم وقعت في جواب شرط مقدر ، تقديره : إذا كان الأمر كذلك فويل ، والويل الدعوة بالهلاك وترفع عندما لا تضاف كقوله تعالى : ويل للمطففين ، وتنصب إذا أضيفت فتقول : ويلك وويل نفسي على أنها بمعنى المصدر ، وتستعمل " وي " منها في معنى التعجب كقوله تعالى : ويكأنه لا يفلح الكافرون .
والمعنى أن الهلاك نازل لا محالة بأولئك الظالمين للحق في ذاته ولأنفسهم الذين يكتمون ما أنزل الله تبعا لأهوائهم ، ويكتبون الكتاب بمحض أهوائهم ، ولإثبات ما يريدون إثباته ومحو ما يريدون محوه وكتمان ما يريدون كتمانه لما قال تعالى : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير فهم بكتابة ما يكتبون قد أخفوا كثيرا ، وقد بينه القرآن الكريم أو بين ما وجب بيانه . وقوله تعالى : يكتبون الكتاب بأيديهم فيه تأكيد لبيان أنهم هم مصدر الإعلام به ، وأنه لا مصدر له من الله تعالى ، يضلون به الأميين منهم ، ويعلنونه [ ص: 284 ] على أنه من عند الله تعالى ، وهم الذين كتبوه وصنفوه ، وقد يكون فيه بعض ما جاء عن طريق موسى والنبيين من بعده ، ولكنه في جملته ليس صادقا في كل ما كتبوا ، ويكون قوله تعالى : بأيديهم بيان لأنهم كتبوه حقيقة لا مجاز فيه ، وفيه تصوير لحالهم ، وهم يكتبون بأيديهم .
هذا الوجه يكون فيه قوله تعالى عنهم : يقولون هذا من عند الله الإشارة إلى المكتوب لا إلى التأويلات التي يتأولونها خارجين بالكلام عن مواضعه ، ويكون معنى قوله تعالى : وما هو من عند الله أي ليس ما كتبوه بأيديهم من عند الله ، وهناك تأويل آخر في الإشارة في قوله : يقولون هذا الإشارة فيه ليست إلى المكتوب ، ولكن إلى التأويلات التي يحرفون بها الكلام عن مواضعه ، ويتجهون به إلى أوهام توهموها ، وكذبوا على الحقائق الثابتة ، ويكون المكتوب هو كتابهم . والمعنى على هذا : ويل لهم إذ يكتبون الكتاب بأيديهم ، ومع أنهم يكتبونه بأيديهم يحرفونه عن مواضعه ، ويقولون عن تحريفهم إن هذه التأويلات هي من عند الله ، والحقيقة أنه وقع منهم الأمران ، فهم كتبوا كتابهم محرفا زادوا فيه ، ونقصوا منه ، ونسوا حظا مما ذكروا به ، وعبثوا بحقائقه ، وتأولوا ما صدقوا من نقله منه بغير متأوله .
كان منهم الأمران ، وعبثوا بما أنزل الله تعالى عبثا بينا ، وغيروا وبدلوا ، وأولوا تأويلات باطلة . وقد علل الله تعالى الباعث لهم بأنه ثمن قليل ، وهو أعراض الدنيا ، بأن يكون لهم سلطان ورياسة ، وأن يكون اختصاص باطل بالنبوة ، وأن يمالئوا أهواء الناس ، ولقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن الدنيا بحذافيرها ثمن قليل بالنسبة للحق الذي ضيعوه ، والباطل الذي زيفوه .
ليشتروا به ثمنا قليلا وهنا نجد النص الكريم يفرض معاوضة قامت بين أحبار اليهود في أفعالهم ، اشتروا بالبضاعة الثمينة الغالية التي في أيديهم بأن دفعوها في نظير ثمن ضئيل هو أعراض الدنيا ، أو نقول أن اشترى هنا معناها باع أي باعوا ما في أيديهم من حقائق اؤتمنوا عليها وأخذوا ثمنا قليلا مهما حسبوه كثيرا .
[ ص: 285 ] وقد أكد سبحانه وتعالى الهلاك النازل بهم يوم القيامة فقال تعالت كلماته : فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون . ومعناها ويل لهم أي هلاك بسبب ما كتبت أيديهم ، لأنها بهذه الكتابة حرفت وبدلت وسجلت في الكتاب هراء وأباطيل ، فكانت في ذاتها إثما ، وهذا يرجح أن موضع إفكهم الكتابة الباطلة نفسها لا تأويلاتهم فقط ، وويل لهم من الكسب الذي كسبوه من أعراض الدنيا ، لأنه سحت في ذاته ، إذ إن ما دفع في سبيله كان باطلا ، وهو أخذ لمال الله بالباطل ، وما يكسبونه من جاه أو سلطان أو رياسة أمر باطل ; لأنه دفع الحق عن سبيله ، وإن الله تعالى لا يبارك شيئا أخذ بغير حله ، فهو كالاغتصاب لا يطيب لنفسه ، وكذلك عد سبحانه وتعالى الكتابة سببا للعقاب الشديد ، والكسب الذي كسبوه بالتضليل سببا للويل ، وقال تعالى : يكسبون بالمضارع للدلالة على تجدد ما يكسبون ، وكذلك الويل يكون متجددا مثله ، وقد بين سبحانه بعض هذه التأويلات الفاسدة ، والتفسيرات الكاذبة ، فحكى سبحانه وتعالى عنهم فقال : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة .
هذا القول من التأويلات الفاسدة ، وهو مبني على قولهم نحن أبناء الله تعالى وأحباؤه ، وأنهم لا يعذبون ، ولكن يمتعون ولا يأثمون وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قالوا : لن تعذبنا النار إلا أياما معدودة ، بل قالوا : لن تمسنا النار ، كأنهم لا يدخلونها حتى في هذه الأيام ، بل تمسهم ريحها أو نحو ذلك مما يفتري المفترون كما تقول أنت تهديدا بالضرب أو نحو ذلك : لن تلمسنا بيدك قط إلا مسا خفيفا .
فهم نفوا نفيا مؤكدا - بـ لن - أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة تمسهم مسا ، ذلك قولهم ، وتلك أمانيهم ومعنى معدودة أنها عدد قليل يعد وليس عددا كبيرا تجاوز الحسبة . وهذا القول يدل على أمرين :
أولهما - بيان أنهم صنف مختار والعذاب والحساب على غيرهم ، فهم الذين يحاسبون ويعاقبون ، أما هم فهم فوق الحساب ، وفوق العقاب .
[ ص: 286 ] وثانيهما - الاستهانة بأوامر الله تعالى ، وما يكون وراء ذلك من حساب أو عقاب .
ويبين سبحانه أن ذلك الوهم الذي يتوهمونه ، ويغترون به ليس له أساس يعتمدون عليه ، وأنهم لا عهد لهم بذلك فقال سبحانه : أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع ، وتوبيخهم على فعلهم الواثقين به في ذات أنفسهم الموقنين به كأن الله عاهدهم ، والمعنى أن الله تعالى لم تأخذوا منه عهدا عاهدكم عليه ، وهو وحده الذي يملك العقاب ومقداره ، بألا يعاقبكم إلا بهذا القدر ، وهو أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة ، فالاستفهام يتضمن النفي ، ويتضمن التوبيخ لهم على ما هم عليه ، ويتضمن التعريض بنقضهم للعهود التي أخذت عليهم والمواثيق التي وثقها وأكدها ، ومنها رفع الطور عليهم ، وأخذهم ما أوتوا بقوة .
ولقد بين سبحانه وتعالى أن العقاب يكون على قدر العمل ، والثواب يكون على قدر العمل ، فلا ينظر فيه إلى الذات ، بل الجميع خلق الله تعالى ، ولا يريد سبحانه إلا العمل الصالح ، والامتناع عن الشر فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . ولذا قال تعالت كلماته : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار فتضمن الإجابة على قولهم ورده ، والإضراب عنه ، فالمعنى : تبين كلامكم ، وهو باطل مخالف لما شرعه الله سبحانه وتعالى من عقاب وثواب أنه للأعمال من غير نظر إلى الذوات ، بل الجميع على سواء أمام الله سبحانه وتعالى ، في الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
وذكر العقاب في الرد دون الثواب ، - لأنهم اجترءوا على الله تعالى فخالفوه ، وكفروا بنعمه ، وعصوه ظاهرا وباطنا فقال : من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته . الكسب العمل الذي يصير حالا ثابتة قائمة مستمرة ، فمن عمل خطأ لا يقال إنه كسبه ، ومن عمل إثما عن جهالة وضلالة ثم تاب من قريب لا يقال إنه كسبه ، إنما [ ص: 287 ] يقال إنه كسبه إذا عمل قاصدا مستمرا ، حتى يكون له مجرى في قلبه ، وينكت فيه نكتا سوداء ، فهذا هو الذي يقال له كسب السيئة ، والسيئة فيعلة من ساء يسوء سيوئة فهي في أصلها سيوئة ; اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء بمقتضى القاعدة الصرفية ، والسيئة كل فعل يكون أثره سيئا في الناس أو في الجماعة أو في النفس ، فيفسد التقدير ، ويكون وبالا ، فيظلم نفسه ، والناس ، ومن حوله .
والخطيئة فعيلة من الخطأ ، ولكن هناك فرقا بينهما فالخطأ يقع من غير قصد ابتداء ، ولكن لا يتكرر ، أما الخطيئة فهي الفعل المقصود الآثم المتكرر الذي يخط في النفس خطوطا ، حتى يصير الذنب عادة له أو كالعادة فيصدر الشر عنه وباستمرار من غير قصد خاص إليه ، وكأنه يقع غير مقصود ، وفي الحال تكون النفس قد أركست بالشر إركاسا ، فالخطيئة حال نفسية للنفس الآثمة التي تمرست بالإثم ; ولذا قال تعالى : وأحاطت به خطيئته أي أن الخطيئة استولت على النفس ، وصارت كأنها قبة قد أحاطت بالنفس الآثمة من كل جوانبها .
وفي هذا إشارة إلى أحوال بني إسرائيل ، وأنهم أحاطت بهم خطاياهم .
وقد ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء وهو محقق بالنسبة لبني إسرائيل فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون الإشارة إلى الذين كان منهم كسب العمل الخبيث ، وأحاطت بهم خطيآتهم ، واستغرق الشر نفوسهم ، فالإشارة إلى الذين فيهم هذه الحال ، وقد حكم سبحانه وتعالى بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون .
وقد أكد خلودهم في النار بأنهم أصحابها أي الذين يلازمونها ، والذين حكم عليهم بصحبتها ، وأكد سبحانه وتعالى خلودهم فيها بالجملة الاسمية ، وبضمير الفصل هم . وكان تأكيد خلودهم وملازمتهم بالصحبة ردا على ادعائهم أنها لن تمسهم إلا أياما معدودة ، وأنهم غير مخلدين بل هم أصحابها الخالدون فيها .
وإن الرد على أولئك الذين دلاهم الشيطان بالغرور فقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ينتهي إلى هنا إن كانوا يتدبرون ويعقلون .
[ ص: 288 ] ولكن سنة الله تعالى في كتابه الحكيم أن يقرن ببيان العقاب لأهله ، وبيان الثواب لمن عمل الخير وداوم عليه لتكون العظة كاملة ، فيها جزاء الخير وجزاء الشر ، وكل بما كسب رهين .
قال تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة . وقد ذكر الإيمان في تأويل بعض الآي الكريمة التي تلوناها آنفا ، ومقام العمل الصالح ، وقلنا إن الإيمان والإذعان للحق بالإيمان بالله وحده ، ورسوله محمد الأمين والرسل أجمعين ، والملائكة والجن والغيب كله . وإن الإيمان يستكن في القلب ، والعمل ينميه ويزكيه ، وقلنا : إن الإيمان كالبذر الطيب الذي يلقى في الأرض لا بد له من سقي ورعي وجو صالح ينمو فيه ويزكو ، ولا يكون ذلك إلا بالعمل بموجب الإيمان ، والإيمان من غير عمل كالبذر من غير إنتاج ، وإنه يجف بل يموت إن لم يسق بالعمل ، ولذلك لا يؤكد القرآن على الإيمان وحده بل يكون معه العمل الصالح ، وهو المعمل الذي يكون صالحا مصلحا للنفس وللناس ، فيه استجابة لداعي الإيمان . وكثيرا ما ذكر المعمل بوصف الصالح من غير أن يبين ما هو العمل الصالح ، وذلك ليضمن كل ما فيه خير للإنسان في الآحاد ، والجماعات والأقاليم ، والإنسانية كلها ، وذلك مع القيام بالعبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة ، وتعاون اجتماعي في الأسرة والجماعة والدولة ، والإنسانية عامة .
وقد قال تعالى : أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . الإشارة إلى الذين آمنوا وعملوا صالحا أي أنهم متصفون بهذه الصفات ، وقد أكد سبحانه وتعالى استحقاقهم للجنة وأنهم خالدون فيها بعدة مؤكدات :
أولها - الجملة الاسمية لأنها تدل على قوة الحكم ، وبقائه .
وثانيها - بالملازمة بينهم وبين الجنة بأنهم أصحابها الملازمون . وأكد سبحانه وتعالى الخلود بضمير الفصل الذي يدل على القصر ، والله سبحانه وتعالى يجزي الإحسان بإحسان ، وجزاء سيئة سيئة مثلها .
[ ص: 289 ] اللهم اجعلنا ممن ترضى عنهم ، وإن كنا لا نرجو أن نكون أحسنا ، حتى ننال جزاء الإحسان ، ولكن نرجو أن تتغمدنا برحمتك الواسعة التي تسع الذين يؤمنون ويتقون .
* * *