الميثاق الإنساني على بني إسرائيل
nindex.php?page=treesubj&link=18003_19797_28633_28662_31931_32416_32424_33313_34189_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون
* * *
يذكر الله تعالى نبيه والمؤمنين بالميثاق الذي أخذ الله تعالى عليهم ، وهو ميثاق يصلح نفوسهم ، ويهذب جماعتهم ويجعلهم يتآلفون فيما بينهم ، ويألفهم الناس ، ويأتلفون ، ولكن رضوا النفور بدل الائتلاف ، والمنازعة بدل الالتقاء في ظل الرحمة والمودة الجامعة ، وإن ذلك الميثاق الذي يذكره الله تعالى لهم هو ميثاق كل الأنبياء .
قال .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل أي اذكروا أيها المؤمنون الميثاق الذي أخذناه على بني إسرائيل ، فـ " إذ " تدل على الوقت الماضي ، فاذكروا وقت ذلك الميثاق الذي أخذناه عليهم ، وذكر الوقت ذكر ما يقع فيه واضحا بينا يتصور وجوده ، كأنه موجود قائم وليس متخيلا غير واقع .
هذا ميثاق بني إسرائيل ، وهو محكم يشتمل على تهذيب النفس والجماعة الإنسانية كلها ، وهو ميثاق النبيين في كل العصور وقد اشتمل على أمور :
أولها : وهو لبها عبادة الله تعالى وحده لا يشرك به شيئا ، وقد عبر سبحانه عنه بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83لا تعبدون إلا الله أي لا تعبدوا غير الله ، فالله وحده هو المعبود
[ ص: 290 ] ولا يعبد سواه ، والصيغة في ظاهرها خبرية وهي طلبية بمعنى النهي عن عبادة غير الله تعالى كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وكقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=228والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن وكقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة والتعبير عن الجملة الطلبية بصيغة الجملة الخبرية فيه إشارة إلى أن الإجابة أمر فطري طبيعي ، وأنه كان الطلب وكانت الإجابة ، فعبر بما هو دال على الإجابة .
والتوحيد دعوة النبيين أجمعين ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=25وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=36ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين
وإن الأمر الثاني - الذي ولي الأمر بالعبادة لله وحده ، وهي تطهير النفوس من رجس الوثنية ، والأوهام الفاسدة . الثاني - هو ما يتعلق بالأسرة لأن الأسرة قوام المجتمع يقوم عليها بناؤه ، فلا يمكن أن يتكون مجتمع فاضل إلا من أسر قوية متماسكة برباط المودة ، والمحبة والإحسان الذي هو غاية المحبة ، وإن أولى رباط في الأسرة هو رباط الولد بأبويه ، بالإحسان إليهما ; ولذا قال سبحانه بعد الأمر بعبادة الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وبالوالدين إحسانا والإحسان زيادة في المعاملة عن المعاملة بالمثل أو بالعدل ، وإنه زيادة عن العدل ، بل فيه المحبة والرحمة ; ولذا يقول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=90إن الله يأمر بالعدل والإحسان والإحسان أصله مصدر أحسن ، وهو الإتقان والإجادة ، وبلوغ أقصى الغاية في الإجادة ، فالإحسان في العبادة أن تبلغ أقصى درجات التجرد لله تعالى بأن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، والإحسان إلى الأبوين أن تبلغ أقصى درجات الوفاء لهما في البر والمكافأة ، وأن تزيد في المعاملة الحسنة ، عما كان يكون منهما ، احتياطا للرعاية والشفقة ، والإحسان إلى الناس أن تعاملهم بالمودة الظاهرة ، وإفشاء السلام بينهم فخير الإسلام
[ ص: 291 ] أن تقرأ السلام على من تعرف ومن لم تعرف ، وإحسان العمل إتقانه
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=30إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا
وإن الإحسان إلى الوالدين ابتدأ بهما لأنهما رأس الأسرة ، وهما أصل تكوينها ، فمنهما تتشعب ، وتمتد من الأصول إلى الفروع ثم إلى الحواشي ; ولذلك كان الإحسان واجبا لكل من يربطهم بهما رحم ، وذكر الإحسان إلى ذوي القربى ، فكان الميثاق الإنساني العالي الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وذي القربى والقربى مؤنث أقرب ، والمعنى أن بعد الوالدين ذو القربى ، صاحب القرابة الأقرب مترتبة الأقرب فالأقرب ، وذلك يتفق مع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد سئل :
nindex.php?page=hadith&LINKID=655514من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله ؟ قال : " أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك " ثم الأقرب فالأقرب ، فمعنى ذي القربى ، القريب الأقرب ثم يتوالى الأقرب فالأقرب .
والأسرة في الإسلام ممتدة ، ليست مقصورة على الأبوين أو الزوجين ، بل إنها ممتدة تشمل الأقرباء أجمعين ، يحسن إليهم الأقرب فالأقرب حتى يعمهم ويبرهم جميعا ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=655527من أراد أن يبارك له في رزقه ، وينسأ له في أثره ، فليصل رحمه " ، وإن ذلك كله تقوية لبناء الأسرة على التواصل والمودة والرحمة فإن المجتمع الكامل يتكون من أسر قوية وهي لبنة البناء ، ولا يتكون بناء قوي إلا من لبنات قوية .
وإن العناية بالأسرة عناية بالجماعة ، وإن الوطن لا تتربى محبته إلا في بناء الأسرة ، والنزوع الجماعي ، والتربية الاجتماعية هي التي تودع النفس الإنسانية محبة الجماعة وحسن التبادل العادل بينها وإنما يبدأ ذلك بالأسرة ، وقد أراد بعض الفلاسفة - وسارت وراءهم بعض النظم - أن يمحو الأسرة ويربي الأطفال مع غير آبائهم
[ ص: 292 ] ليكونوا جميعا منتمين للجماعة . . فنمت أجسامهم ، ولكن من غير عواطف إنسانية فمحوا الأسرة ، والجماعة معا .
الأمر الثالث - أنه قد اتجه الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل إلى الإحسان إلى الضعفاء فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83واليتامى والمساكين nindex.php?page=treesubj&link=19814واليتيم هو من فقد أباه ، فإن الأب هو العائل الكالئ الحامي ، ومن فقده فقد انفرد في هذا الوجود ، والأم وإن كانت هي الحانية العاطفة التي تغذيه بأنبل العواطف ، لا تحميه ، وبالفطرة الأولى لا تعوله ; ولذلك لا تعوض حماية الأب ، وكلاءته .
nindex.php?page=treesubj&link=3140والمسكين هو الذي أسكنته الحاجة ، أو المرض المزمن ، وإن كلمة المسكين بعمومها تشمل الفقير ، لأن الفقير أسكنته الحاجة وأذلته ، وهؤلاء جميعا الضعفاء ، وإنه قد يشمل ابن السبيل أيضا ، وهو الذي ينقطع عن ماله ، ويكون في بلد بعيد عن بلده فهو قد أذلته الحاجة أيضا .
وفي الحقيقة إن اليتامى والمساكين بهذا العموم هم الضعاف في الجماعة ، ورعاية الضعفاء وقاية لبناء الأمة من الانهيار ، وإلا كانوا أشتاتا غير متراحمين يأكل بعضهم بعضا . وقدم الإحسان على اليتامى وإن كانوا أغنياء على المساكين ; لأن اليتيم ضعيف ، وإن كان كثير المال وهو ذو حاجة وإن كان غنيا ، والإحسان إليه أن يقوم القائم عليه بتربيته ، وألا يقهره ولا يذله ، وأن يضمه إلى عياله .
فإنه إن لم يحط بالعطف والرعاية والمحبة تربى على النفرة من الجماعة فيكون الشذاذ والكارهون للمجتمعات ; ولذلك كانت النصوص الكثيرة الداعية إلى
nindex.php?page=treesubj&link=19814إكرام اليتيم ، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم ، وشر بيوت المسملين بيت يقهر فيه يتيم " . فاليتامى إكرامهم فيه تقوية للأمة بإنشاء نشء على الخلق القويم .
الأمر الرابع - بعد إقامة الأسرة ومراعاة الضعفاء في هذا الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل وليس خاصا بهم دعا سبحانه وتعالى إلى بناء مجتمع
[ ص: 293 ] إنساني سليم يعم الإقليم والجنس والناس أجمعين فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وقولوا للناس حسنا وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وقولوا معطوف على لا تعبدون إلا الله ، لأنها مرادف هذا الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل ، وهو يحمل في نفسه موجب تنفيذه ، لأنه حقيقة الدين ، وهو في أعلى درجات المعاملات ، فهل استجابوا وأقروا به ، وقد أخذ عليهم بقوة ، ورفع الجبل فوقهم ليخضعوا للحق ويذعنوا له ; إنهم أعرضوا عنه ; ولذا قال تعالى في حالهم بعد أخذه عليهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون
التولي الإعراض الذي تدل عليه مظاهر حسية ، ومنه قوله تعالى .
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=83أعرض ونأى بجانبه فالأصل فيه أنه إعراض يدل عليه مظهر حسي ، وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وأنتم معرضون معناه أنهم تولوا بأجسامهم ونأوا عنه بحسهم ، والمعنى أنهم معرضون مقاطعون لمبادئه وهذا تأكيد للإعراض وأنهم تركوه جملة وتفصيلا من غير أن يقبلوا منه شيئا ، وقد أكد سبحانه الإعراض بالتصريح بالإعراض مع أن التولي يتضمن معناه ، وأكده بالجملة الاسمية ، أي أنه مع أنه ميثاق مؤكد ، ومعناه قويم ترتضيه ، العقول وتطلبه - أعرضوا عنه .
والخطاب للذين كانوا في عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن سبقوهم ، لأنهم شاركوهم في ملتهم ، واتبعوهم في توليهم ، فكانوا صالحين لأن يخاطبوا بما خوطب به أسلافهم ، وبيان حالهم وأمرهم .
وإن الله تعالى حكم عدل يحصي عمل الفاسدين ، ويسجل خير الأخيار ; ولذلك استثنى في الإعراض فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83إلا قليلا منكم فهم استجابوا لمقتضى الميثاق ولم يعرضوا وإن الحكم بالتولي ابتداء عليهم جميعا ، ثم استثنى سبحانه الذين استجابوا ولكن لقلتهم كان الخطاب لهم جميعا .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83ثم توليتم التعبير بـ ( ثم ) في موضعه من البعد بين الميثاق وما اشتمل عليه من أمور معمولة مطلوبة في حكم الشرع والعقل ، ثم يكون من بعد ذلك الإعراض الجافي الشديد منكم ، إنه لأمر غريب لو كان من غيرهم .
* * *
الْمِيثَاقُ الْإِنْسَانِيُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
nindex.php?page=treesubj&link=18003_19797_28633_28662_31931_32416_32424_33313_34189_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
* * *
يُذَكِّرُ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ مِيثَاقٌ يُصْلِحُ نُفُوسَهُمْ ، وَيُهَذِّبُ جَمَاعَتَهُمْ وَيَجْعَلُهُمْ يَتَآلَفُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَيَأْلَفُهُمُ النَّاسُ ، وَيَأْتَلِفُونَ ، وَلَكِنْ رَضُوا النُّفُورَ بَدَلَ الِائْتِلَافِ ، وَالْمُنَازَعَةَ بَدَلَ الِالْتِقَاءِ فِي ظِلِّ الرَّحْمَةِ وَالْمَوَدَّةِ الْجَامِعَةِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ الَّذِي يَذْكُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ هُوَ مِيثَاقُ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ .
قَالَ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيِ اذْكُرُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذْنَاهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَـ " إِذْ " تَدُلُّ عَلَى الْوَقْتِ الْمَاضِي ، فَاذْكُرُوا وَقْتَ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذْنَاهُ عَلَيْهِمْ ، وَذِكْرُ الْوَقْتِ ذِكْرُ مَا يَقَعُ فِيهِ وَاضِحًا بَيِّنًا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ ، كَأَنَّهُ مَوْجُودٌ قَائِمٌ وَلَيْسَ مُتَخَيَّلًا غَيْرَ وَاقِعٍ .
هَذَا مِيثَاقُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَهُوَ مُحْكَمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى تَهْذِيبِ النَّفْسِ وَالْجَمَاعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا ، وَهُوَ مِيثَاقُ النَّبِيِّينَ فِي كُلِّ الْعُصُورِ وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أُمُورٍ :
أَوَّلُهَا : وَهُوَ لُبُّهَا عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَقَدْ عَبَّرَ سُبْحَانَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ أَيْ لَا تَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ ، فَاللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ
[ ص: 290 ] وَلَا يُعْبَدُ سِوَاهُ ، وَالصِّيغَةُ فِي ظَاهِرِهَا خَبَرِيَّةٌ وَهِيَ طَلَبِيَّةٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=228وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ بِصِيغَةِ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِجَابَةَ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ طَبِيعِيٌّ ، وَأَنَّهُ كَانَ الطَّلَبُ وَكَانَتِ الْإِجَابَةُ ، فَعَبَّرَ بِمَا هُوَ دَالٌّ عَلَى الْإِجَابَةِ .
وَالتَّوْحِيدُ دَعْوَةُ النَّبِيِّينَ أَجْمَعِينَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=25وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=36وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
وَإِنَّ الْأَمْرَ الثَّانِيَ - الَّذِي وَلِيَ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، وَهِيَ تَطْهِيرُ النُّفُوسِ مِنْ رِجْسِ الْوَثَنِيَّةِ ، وَالْأَوْهَامِ الْفَاسِدَةِ . الثَّانِي - هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُسْرَةِ لِأَنَّ الْأُسْرَةَ قِوَامُ الْمُجْتَمَعِ يَقُومُ عَلَيْهَا بِنَاؤُهُ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَوَّنَ مُجْتَمَعٌ فَاضِلٌ إِلَّا مِنْ أُسَرٍ قَوِيَّةٍ مُتَمَاسِكَةٍ بِرِبَاطِ الْمَوَدَّةِ ، وَالْمَحَبَّةِ وَالْإِحْسَانِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْمَحَبَّةِ ، وَإِنَّ أَوْلَى رِبَاطٍ فِي الْأُسْرَةِ هُوَ رِبَاطُ الْوَلَدِ بِأَبَوَيْهِ ، بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا ; وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَالْإِحْسَانُ زِيَادَةٌ فِي الْمُعَامَلَةِ عَنِ الْمُعَامَلَةِ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْعَدْلِ ، وَإِنَّهُ زِيَادَةٌ عَنِ الْعَدْلِ ، بَلْ فِيهِ الْمَحَبَّةُ وَالرَّحْمَةُ ; وَلِذَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=90إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَالْإِحْسَانُ أَصْلُهُ مَصْدَرُ أَحْسَنَ ، وَهُوَ الْإِتْقَانُ وَالْإِجَادَةُ ، وَبُلُوغُ أَقْصَى الْغَايَةِ فِي الْإِجَادَةِ ، فَالْإِحْسَانُ فِي الْعِبَادَةِ أَنْ تَبْلُغَ أَقْصَى دَرَجَاتِ التَّجَرُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْأَبَوَيْنِ أَنْ تَبْلُغَ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْوَفَاءِ لَهُمَا فِي الْبَرِّ وَالْمُكَافَأَةِ ، وَأَنْ تَزِيدَ فِي الْمُعَامَلَةِ الْحَسَنَةِ ، عَمَّا كَانَ يَكُونُ مِنْهُمَا ، احْتِيَاطًا لِلرِّعَايَةِ وَالشَّفَقَةِ ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ أَنْ تُعَامِلَهُمْ بِالْمَوَدَّةِ الظَّاهِرَةِ ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ بَيْنَهُمْ فَخَيْرُ الْإِسْلَامِ
[ ص: 291 ] أَنْ تَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ تَعْرِفُ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ ، وَإِحْسَانُ الْعَمَلِ إِتْقَانُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=30إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا
وَإِنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْوَالِدَيْنِ ابْتَدَأَ بِهِمَا لِأَنَّهُمَا رَأْسُ الْأُسْرَةِ ، وَهُمَا أَصْلُ تَكْوِينِهَا ، فَمِنْهُمَا تَتَشَعَّبُ ، وَتَمْتَدُّ مِنَ الْأُصُولِ إِلَى الْفُرُوعِ ثُمَّ إِلَى الْحَوَاشِي ; وَلِذَلِكَ كَانَ الْإِحْسَانُ وَاجِبًا لِكُلِّ مَنْ يَرْبُطُهُمْ بِهِمَا رَحِمٌ ، وَذَكَرَ الْإِحْسَانَ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى ، فَكَانَ الْمِيثَاقُ الْإِنْسَانِيُّ الْعَالِي الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَذِي الْقُرْبَى وَالْقُرْبَى مُؤَنَّثُ أَقْرَبَ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ ذُو الْقُرْبَى ، صَاحِبُ الْقَرَابَةِ الْأَقْرَبِ مُتَرَتِّبَةٌ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ ، وَذَلِكَ يَتَّفِقُ مَعَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَقَدْ سُئِلَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=655514مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " أُمُّكَ . قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّكَ ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّكَ ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أَبُوكَ " ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ ، فَمَعْنَى ذِي الْقُرْبَى ، الْقَرِيبُ الْأَقْرَبُ ثُمَّ يَتَوَالَى الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ .
وَالْأُسْرَةُ فِي الْإِسْلَامِ مُمْتَدَّةٌ ، لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْأَبَوَيْنِ أَوِ الزَّوْجَيْنِ ، بَلْ إِنَّهَا مُمْتَدَّةٌ تَشْمَلُ الْأَقْرِبَاءَ أَجْمَعِينَ ، يُحْسِنُ إِلَيْهِمُ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ حَتَّى يَعُمَّهُمْ وَيَبِرَّهُمْ جَمِيعًا ، وَلَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=655527مَنْ أَرَادَ أَنْ يُبَارَكَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " ، وَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَقْوِيَةٌ لِبِنَاءِ الْأُسْرَةِ عَلَى التَّوَاصُلِ وَالْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ فَإِنَّ الْمُجْتَمَعَ الْكَامِلَ يَتَكَوَّنُ مِنْ أُسَرٍ قَوِيَّةٍ وَهِيَ لَبِنَةُ الْبِنَاءِ ، وَلَا يَتَكَوَّنُ بِنَاءٌ قَوِيٌّ إِلَّا مِنْ لَبِنَاتٍ قَوِيَّةٍ .
وَإِنَّ الْعِنَايَةَ بِالْأُسْرَةِ عِنَايَةٌ بِالْجَمَاعَةِ ، وَإِنَّ الْوَطَنَ لَا تَتَرَبَّى مَحَبَّتُهُ إِلَّا فِي بِنَاءِ الْأُسْرَةِ ، وَالنُّزُوعِ الْجَمَاعِيِّ ، وَالتَّرْبِيَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ هِيَ الَّتِي تُودِعُ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ مَحَبَّةَ الْجَمَاعَةِ وَحُسْنَ التَّبَادُلِ الْعَادِلِ بَيْنَهَا وَإِنَّمَا يَبْدَأُ ذَلِكَ بِالْأُسْرَةِ ، وَقَدْ أَرَادَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ - وَسَارَتْ وَرَاءَهُمْ بَعْضُ النُّظُمِ - أَنْ يَمْحُوَ الْأُسْرَةَ وَيُرَبِّيَ الْأَطْفَالَ مَعَ غَيْرِ آبَائِهِمْ
[ ص: 292 ] لِيَكُونُوا جَمِيعًا مُنْتَمِينَ لِلْجَمَاعَةِ . . فَنَمَتْ أَجْسَامُهُمْ ، وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ عَوَاطِفَ إِنْسَانِيَّةٍ فَمَحُوا الْأُسْرَةَ ، وَالْجَمَاعَةَ مَعًا .
الْأَمْرُ الثَّالِثُ - أَنَّهُ قَدِ اتَّجَهَ الْمِيثَاقُ الْإِنْسَانِيُّ الَّذِي أُخِذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الضُّعَفَاءِ فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ nindex.php?page=treesubj&link=19814وَالْيَتِيمُ هُوَ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ ، فَإِنَّ الْأَبَ هُوَ الْعَائِلُ الْكَالِئُ الْحَامِي ، وَمَنْ فَقَدَهُ فَقَدِ انْفَرَدَ فِي هَذَا الْوُجُودِ ، وَالْأُمُّ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْحَانِيَةَ الْعَاطِفَةَ الَّتِي تُغَذِّيهِ بِأَنْبَلِ الْعَوَاطِفِ ، لَا تَحْمِيهِ ، وَبِالْفِطْرَةِ الْأُولَى لَا تَعُولُهُ ; وَلِذَلِكَ لَا تُعَوِّضُ حِمَايَةَ الْأَبِ ، وَكِلَاءَتَهُ .
nindex.php?page=treesubj&link=3140وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ ، أَوِ الْمَرَضُ الْمُزْمِنُ ، وَإِنَّ كَلِمَةَ الْمِسْكِينِ بِعُمُومِهَا تَشْمَلُ الْفَقِيرَ ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ وَأَذَلَّتْهُ ، وَهَؤُلَاءِ جَمِيعًا الضُّعَفَاءُ ، وَإِنَّهُ قَدْ يَشْمَلُ ابْنَ السَّبِيلِ أَيْضًا ، وَهُوَ الَّذِي يَنْقَطِعُ عَنْ مَالِهِ ، وَيَكُونُ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ عَنْ بَلَدِهِ فَهُوَ قَدْ أَذَلَّتْهُ الْحَاجَةُ أَيْضًا .
وَفِي الْحَقِيقَةِ إِنَّ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ بِهَذَا الْعُمُومِ هُمُ الضِّعَافُ فِي الْجَمَاعَةِ ، وَرِعَايَةُ الضُّعَفَاءِ وِقَايَةٌ لِبِنَاءِ الْأُمَّةِ مِنَ الِانْهِيَارِ ، وَإِلَّا كَانُوا أَشْتَاتًا غَيْرَ مُتَرَاحِمِينَ يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . وَقَدَّمَ الْإِحْسَانَ عَلَى الْيَتَامَى وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ عَلَى الْمَسَاكِينِ ; لِأَنَّ الْيَتِيمَ ضَعِيفٌ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ وَهُوَ ذُو حَاجَةٍ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا ، وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ أَنْ يَقُومَ الْقَائِمُ عَلَيْهِ بِتَرْبِيَتِهِ ، وَأَلَّا يَقْهَرَهُ وَلَا يُذِلَّهُ ، وَأَنْ يَضُمَّهُ إِلَى عِيَالِهِ .
فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُحَطْ بِالْعَطْفِ وَالرِّعَايَةِ وَالْمَحَبَّةِ تَرَبَّى عَلَى النُّفْرَةِ مِنَ الْجَمَاعَةِ فَيَكُونُ الشُّذَّاذُ وَالْكَارِهُونَ لِلْمُجْتَمَعَاتِ ; وَلِذَلِكَ كَانَتِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=19814إِكْرَامِ الْيَتِيمِ ، وَلَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " خَيْرُ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ يُكْرَمُ فِيهِ يَتِيمٌ ، وَشَرُّ بُيُوتِ الْمُسْمِلِينَ بَيْتٌ يُقْهَرُ فِيهِ يَتِيمٌ " . فَالْيَتَامَى إِكْرَامُهُمْ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْأُمَّةِ بِإِنْشَاءِ نَشْءٍ عَلَى الْخُلُقِ الْقَوِيمِ .
الْأَمْرُ الرَّابِعُ - بَعْدَ إِقَامَةِ الْأُسْرَةِ وَمُرَاعَاةِ الضُّعَفَاءِ فِي هَذَا الْمِيثَاقِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي أُخِذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَيْسَ خَاصًّا بِهِمْ دَعَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى بِنَاءِ مُجْتَمَعٍ
[ ص: 293 ] إِنْسَانِيٍّ سَلِيمٍ يَعُمُّ الْإِقْلِيمَ وَالْجِنْسَ وَالنَّاسَ أَجْمَعِينَ فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَقُولُوا مَعْطُوفٌ عَلَى لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ، لِأَنَّهَا مُرَادِفُ هَذَا الْمِيثَاقِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي أُخِذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِي نَفْسِهِ مُوجِبَ تَنْفِيذِهِ ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الدِّينِ ، وَهُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمُعَامَلَاتِ ، فَهَلِ اسْتَجَابُوا وَأَقَرُّوا بِهِ ، وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمْ بِقُوَّةٍ ، وَرُفِعَ الْجَبَلُ فَوْقَهُمْ لِيَخْضَعُوا لِلْحَقِّ وَيُذْعِنُوا لَهُ ; إِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَالِهِمْ بَعْدَ أَخْذِهِ عَلَيْهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
التَّوَلِّي الْإِعْرَاضُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ مَظَاهِرُ حِسِّيَّةٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى .
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=83أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ إِعْرَاضٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَظْهَرٌ حِسِّيٌّ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا بِأَجْسَامِهِمْ وَنَأَوْا عَنْهُ بِحِسِّهِمْ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ مُقَاطِعُونَ لِمَبَادِئِهِ وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْإِعْرَاضِ وَأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ شَيْئًا ، وَقَدْ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ الْإِعْرَاضَ بِالتَّصْرِيحِ بِالْإِعْرَاضِ مَعَ أَنَّ التَّوَلِّيَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَاهُ ، وَأَكَّدَهُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ ، أَيْ أَنَّهُ مَعَ أَنَّهُ مِيثَاقٌ مُؤَكَّدٌ ، وَمَعْنَاهُ قَوِيمٌ تَرْتَضِيهِ ، الْعُقُولُ وَتَطْلُبُهُ - أَعْرَضُوا عَنْهُ .
وَالْخِطَابُ لِلَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ سَبَقُوهُمْ ، لِأَنَّهُمْ شَارَكُوهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ، وَاتَّبَعُوهُمْ فِي تَوَلِّيهِمْ ، فَكَانُوا صَالِحِينَ لِأَنْ يُخَاطَبُوا بِمَا خُوطِبَ بِهِ أَسْلَافُهُمْ ، وَبَيَانُ حَالِهِمْ وَأَمْرِهِمْ .
وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمٌ عَدْلٌ يُحْصِي عَمَلَ الْفَاسِدِينَ ، وَيُسَجِّلُ خَيْرَ الْأَخْيَارِ ; وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى فِي الْإِعْرَاضِ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ فَهُمُ اسْتَجَابُوا لِمُقْتَضَى الْمِيثَاقِ وَلَمْ يُعْرِضُوا وَإِنَّ الْحُكْمَ بِالتَّوَلِّي ابْتِدَاءً عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ، ثُمَّ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا وَلَكِنْ لِقِلَّتِهِمْ كَانَ الْخِطَابُ لَهُمْ جَمِيعًا .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ التَّعْبِيرُ بِـ ( ثُمَّ ) فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْبُعْدِ بَيْنَ الْمِيثَاقِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورٍ مَعْمُولَةٍ مَطْلُوبَةٍ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْإِعْرِاضِ الْجَافِي الشَّدِيدِ مِنْكُمْ ، إِنَّهُ لَأَمْرٌ غَرِيبٌ لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ .
* * *