يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا
النداء للمؤمنين بالوصف الذي ميزوا به، واختصوا به دون الناس، وهو مناط رفعتهم وجامع وحدتهم، وإذا كان الدين هو الجامع لهم فالذين يسخرون منه، ويستهزئون به يصيبونهم في صميم ما عليه يجتمعون، وبه يعملون، وفي سبيله قدموا، ويقدمون الفداء، والمعنى: يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان، لا تتخذوا نصراء وأحبابا أولئك الذين يسخرون من دينكم بجعله لعبة يلعبون بها، ومسلاة يتسلون في عبثهم بها، ويستهزئون به مستخفين، فهذا النص تحريض على عدم الانتماء إليهم [ ص: 2259 ] بذكر ما هو سر اجتماعهم، وفيه إشارة جلية إلى أنهم لا يمكن أن يكونوا نصراء يريدون العزة لهم; لأن ما به عزتكم واجتماعكم يتخذونه سخرية يلهون به ويعبثون.
وهنا مباحث لفظية في بيانها تقريب لمعنى النص السامي.
أول هذه المباحث: التفرقة بين الهزء واللعب; فهما في النص الكريم معطوف أحدهما على الآخر، وبمقتضى هذا العطف هما متغايران، وإن كانا ينتهيان إلى معنى واحد، وهو السخرية بالاستهزاء، والعبث، فهم يسخرون من الدين، ويسخرون من أهله، ويستهزئون بأهله، ويتعابثون به ويلعبون بحقائقه.
والهزء معناه المزح في خفة، أو المزح في مقام الجد للسخرية بموضوعه، والعبث به، وقد يكون بالقيام بظاهر بعض الأعمال، وهو يخفي نقيضها، كما قال سبحانه وتعالى عن المنافقين: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون
وعلى هذا يكون معنى الاستهزاء أو الهزء مشتملا على معاني الاستخفاف والتهكم، والمزح العائب.
واللعب أصل معناه من لعاب الطفل، ويقال عن الطفل لعب بفتح العين إذا سال لعابه، ومعناه -على العموم- العمل الذي لا يقصد به نفع، ولا طلب ثمرة، بل يقصد به مجرد إزجاء الفراغ والتسلية.
والمعنى الجملي للفظين: أنهم يسخرون من الدين باتخاذه موضع استهزاء ومزح، وموضع لعب وعبث لا يقصدون نحوه بشيء إلا بما يقصد به اللاعب للعبته وهذا أبعد ما تكون عليه الاستهانة، فهل يجوز لمؤمن أن يقبل موالاة هؤلاء، وهو لايزال على صفة الإيمان.
وقد وصف عملهم بأنهم اتخذوا الدين هزوا، أي: جعلوه هزوا ولعبا، أي: جعلوه مستهزءا يمزحون به ولعبة يلعبون بها، وقد قدر بعض العلماء محذوفا، وهو أن يكون موضع استهزاء ولعب. [ ص: 2260 ] المبحث الثاني من المباحث اللفظية:
قوله تعالى: من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء و: " من " هنا بيانية فيها بيان لأولئك الذين يستهزئون ويلعبون بدين الله دين الحق، وهم اليهود والنصارى، وعبر عنهم بـ: "أوتوا الكتاب"; لأن أصل شرعهم ينتمي إلى كتاب منزل، وإن حرفوا فيه الكلم عن مواضعه وغيروا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به، وهم كفار، وليس كفر أعظم من كفر، إلا أن تكون بقية علم عندهم، وهي لا تجعل لهم مقاما أدنى في الكفر، ولو كانت تجعل في الإمكان التلاقي في بعض المعلومات الدينية التي لم يعبثوا بها.
وقد تكلم العلماء فقال الأكثرون: إن الكفار هم المشركون، وأطلق عليهم الكفار دون إطلاقه على أهل الكتاب، وقد علله بعضهم بأن كفرهم أشد، وعندي أنهم جميعا كفار؛ لقوله تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة وليس كفرهم أعظم من كفر أهل الكتاب; لأن كفرهم عن جهل، وكفر المشركين عن علم، ولا يمكن أن يكون الجهل عنصرا مشددا، والعلم عنصرا مخففا، ولكن ذكروا بوصف الكفار; لأنه لا وصف لهم غيره؛ إذ لم يؤتوا بكتاب.
على أننا نرى أن عطف الكفار على أهل الكتاب من باب عطف العام على الخاص، فكلمة كفار تشمل كل كافر بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، على أنه خص أهل الكتاب بالذكر؛ لأنه الموضوع من الأصل في عدم موالاة المؤمنين لليهود والنصارى، ثم عمم الحكم على الجميع ممن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث: في قوله تعالى: واتقوا الله إن كنتم مؤمنين
وكان الأمر بالتقوى في هذا المقام، للإشارة إلى أن ذلك هو الحصن الحصين الذي يغني عن طلب الأولياء؛ لأن معنى التقوى اتخاذ الله سبحانه وتعالى وقاية دون شر الأشرار؛ إذ إن النصرة لا تكون إلا منه، وهو المعاذ، والملجأ والناصر والولي، ولأن اجتلاء النفس بتقوى الله تعالى وخشيته تجعل كل قوي مهما تكن [ ص: 2261 ] سطوته لا يصل إلى إضعاف قلب المؤمن، ولأن اتخاذ غير الله تعالى وليا ينافي تقوى الله، واستشعار عظمته وجبروته سبحانه.
وقد بين سبحانه أن ذلك وصف أهل الإيمان، ولذلك قال سبحانه: إن كنتم مؤمنين