عداوة الملائكة
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين
* * *
قال الإمام في تفسيره : أجمع مفسرو السلف على أن هذه الآية وما بعدها نزلت ، لأن أبو جعفر الطبري جبريل الأمين عدوا لهم ، لأنه ينزل بالعذاب والهلاك ، وأن اليهود يعدون الروح القدس ميكائيل وليهم لأنه ينزل بالغيث والرحمة ، وتعددت الروايات عن الصحابة في ذلك ، وكلها ينتهي إلى أنهم واجهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن جبريل ، وهو ولي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هو عدوهم ، وأن ميكائيل وليهم ، وأنهم لهذا يفارقون النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يتبعونه .
ولئن صحت هذه الروايات أو بعضها ليكونن مؤداها أنهم يتخذون تعلة لكفرهم سواء أكانت التعلة مقبولة في العقل أو مرذولة ، ومهما يكن فقد رد الله تعالى قولهم ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد قولهم بقوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه أي إذا كان جبريل عدوا لكم فأنتم تعادون الله تعالى ، لأن الله تعالى اختاره رسولا أمينا لنزول القرآن فما نزل القرآن بغير إذن الله تعالى إنما نزله على قلبك بإذنه سبحانه وتعالى .
[ ص: 327 ] وعبر سبحانه وتعالى بقوله : على قلبك بكاف الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يقول قلبي ، لبيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكي قول ربه ، ولتأكيد معنى قوله تعالى بإذنه .
والضمير الأول في فإنه يعود على جبريل عليه السلام ، والضمير الثاني في نـزله يعود على القرآن باعتبار أنه حاضر للذهن ; لأنه ذكر في السياق في قوله تعالى من قبل : ولما جاءهم كتاب من عند الله وقوله : مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين يعين أن الضمير يعود على القرآن الحاضر في الأذهان .
وإنه مع قبول الروايات التي انتهى المفسر السلفي فيها إلى إجماعهم من أن اليهود كانوا يعدون جبريل عدوا ، فإنا نرى من المعاني القرآنية والإشارات البيانية أنهم كانوا يجعلونه عدوا ; لأنه نزل بالقرآن على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لسفه عقولهم وفساد تفكيرهم ، فرد الله عليهم بأنه هو الذي نزل القرآن بإذن الله ، فلا محل لعداوته ، فعادوا من أنزله ، ولكن سوء ظنهم جعلهم يحملونجبريل عليه السلام التبعة ، وإذا كان نزول القرآن سببا للعداوة ، فاتخذوا الله عدوا ، ولا غرابة في ذلك ممن اتخذوا العجل وليا لهم .
ويكون المعنى الذي يفهم من الآية : لقد اتخذتم جبريل عدوا لما انتحلتم من كذب بأنه ينزل بالهلاك أو نحو ذلك ، إنما اتخذتموه عدوا ; لأنه ينزل بالقرآن على قلب النبي عليه السلام وإذا كان نزول القرآن هو السبب فإنه يكون الله هو العدو ويكون قوله تعالى : من كان عدوا لجبريل شرطا ، ويكون قوله تعالى : فإنه نـزله على قلبك بإذن الله تعليلا لجواب الشرط المحذوف إذ تقديره ، فإنه عدو لله تعالى ; لأنه الذي نزله على قلبك بإذنه .
والتعبير بـ " قلبك " أي أن التنزيل على قلبك للإشارة إلى أن القرآن ينزل على القلب ليحفظ في الصدور ، لا أن يكتفى فيه بالسطور ; لأن السطور يجري فيها التصحيف والتحريف ، أما ما يحفظ في القلب فإنه في أمان لا يجري فيه تغيير ولا [ ص: 328 ] تبديل ; ولذا قال تعالى في نزول القرآن الكريم وتلقي قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، ثم حفظه قلوب الصحابة من بعده ، في سورة القيامة : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه
هكذا بين الله تعالى طريقة نزول القرآن على القلب ليحفظه ويحتويه ثم يحفظه أصحابه ، ثم يتواتر من بعد ذلك محفوظا ، وإن كان مع ذلك مكتوبا بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم .
وصرح القرآن بأن نزول جبريل به يكون متجها إلى قلب النبي عليه الصلاة والسلام في آيات أخرى ، قد قال تعالى : نـزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين
ولقد قال في وصف القرآن الكريم الذي نزله بإذن الله جبريل على قلبه بأنه مصدق ، وقوله تعالى : مصدقا لما بين يديه والمراد بما بين يديه من الكتب التي [ ص: 329 ] أنزلها تعالى على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والتعبير ببين يديه كناية عن أنه أمامه فما يكون أمام الإنسان يكون بين يديه سابقا له ، فهو مصدق لكل ما اشتملت عليه الكتب السابقة التي لم يجر بها تحريف ، ولم ينس فيها حظ مما ذكروا به .
وكان حقا عليهم ألا يعادوا الملك الذي اتخذه الله تعالى روحا أمينا نزل به ، ولكنهم أعداء الحق دائما عادوا موسى وربه إذ كفروا بأنعم الله تعالى .
وقال تعالى في وصف الكتاب : وهدى أي فيه الهداية إلى الحق في ذاته ، وفيه البشرى بالنعيم المقيم للمؤمنين الذين من شأنهم الإيمان والإذعان للحق إذ جاءه ، وهو مع ذلك شفاء للقلوب وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين
وإن الله سبحانه وتعالى بعد أن بين عداوتهم لجبريل ، لأنه الروح الأمين الذي نزل بالقرآن ، بين سبحانه أنه من كان عدوا لله تعالى وملائكته ، وكتبه ورسله ، فإن الله عدو للكافرين .
في هذا النص الكريم إثبات أن من كان عدوا للملائكة أو لواحد منهم ، ومن كان عدوا للكتب التي أنزلها التي لم تحرف والرسل الذين أرسلهم رحمة للعباد ، وهداية لهم فهو عدو لله تعالى ، وهو كافر ، والله تعالى عدو للكافرين ، ابتدأ الله تعالى بذكر عداوة الله تعالى فقال : ( قل ) يا محمد أيها البشير النذير ( من كان عدوا لله ) ، فابتدأ سبحانه بلفظ الجلالة الكبير في ذاته خالق الوجود ، وخالق الملائكة والجن والإنس ، والشمس والقمر والسماوات والأرض ابتدأ بذكره جل جلاله لبيان أن من عاداه ، فقد تعرض لأعظم نقمة وأشد ضلال وخروج عن الحق ، فالابتداء به سبحانه وتعالى لبيان أعظم خطورة يتعرضون لها بجهلهم وفساد نفوسهم وضلال فكرهم .
وثنى سبحانه بالملائكة ، وأضافهم سبحانه وتعالى إليه للإشارة إلى أن عداوتهم هي عداوة له فهم يعادونه ابتداء بمعاداة ذاته العلية ، ثم يعادونه ثانيا بمعاداة ملائكته الذين خلقهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم في [ ص: 330 ] الملكوت . . ثم ثلث بكتبه التي أنزلها هداية للناس ورحمة ، وشفاء لأدواء الجماعات ، ونسبها سبحانه وتعالى إليه إشعارا لهم بأن عداوة هذه الكتب عداوة لله تعالى لأنها هجر لكلامه ، ورد لرسالته ، وأي ذنب أقبح من عداوة رسالات الله تعالى التي شرفت بإرساله واحتوت على البينات والحكم الباهرة ، ثم بين بعد ذلك عداوتهم لرسله الأكرمين ، وأنها عداوة لمن أرسلهم ، فمن عادى الرسول فقد عادى من أرسله مبشرا ونذيرا ، وداعيا إليه وسراجا منيرا .
وذكر سبحانه وتعالى عداوة جبريل وميكائيل وخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في عموم الملائكة ; لأن الله تعالى خصهما بالشرف والتفضيل على غيرهما من الملائكة وهو يختص برحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم ، ولأن جبريل كان روح القدس الأمين الذي نزلت عن طريقه الرسالات الإلهية على من أرسلهم مبشرين ومنذرين ، وأن اليهود حكي عنهم أنهم كانوا يفاضلون بين هذين الملكين الكبيرين ، فيعادون جبريل ، لأنه ينزل بالقرآن ويوالون ميكائيل ; لأنه يأتي بالرحمة والغيث ، فأشار سبحانه إلى أن عداوة أحدهما عداوة له ، ومن عادى جبريل لأنه مكلف بالقيام بأمر من الله تعالى فقد عادى الآخر ; لأنه قائم بمثل ما قام به .
هذا هو فعل الشرط الذي يتضمن عداوة الله وملائكته وكتبه ورسله ، وجبريل وميكائيل ، وجواب الشرط هو قوله تعالى : فإن الله عدو للكافرين فجزاء هذه العداوة الظالمة ، كراهية عادلة ، ويتبعها العقاب الشديد ، وهنا إشارتان بيانيتان : إحداهما - في تقدم الكتب على الرسل ، والسياق يسوغ تقديم الرسل على الكتب ; لأنهم الذين جاءوا بها ، ونزلت عليهم ، فلم قدمت الكتب ; والجواب عن ذلك أنها موضوع الرسالة ولبها ، وهي المشتملة على أمر الله تعالى ونهيه وهي خطاب الله تعالى إلى عباده ، فقدمت كما يقدم الكتاب الذي تكتبه على الرسول الذي تحمله الكتاب .
الثانية - أن الله تعالى أظهر في موضع الإضمار فقال : فإن الله عدو للكافرين ، ولم يقل لهم ، وذلك لبيان أنهم بهذه العداوة قد كفروا وجزاء الكفر [ ص: 331 ] العذاب الأليم فالإضمار كان فيه وصف هو سبب العقاب ، ولقد جاء في في حديث قدسي عن البخاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبي هريرة " . إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه
* * *