فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان
عثر الرجل يعثر عثرا إذا وقع على أمر لم يكن معلوما من قبله، ولم يقع عليه غيره ممن يهمهم، ويقال: أعثرت فلانا على أمر أطلعته عليه، وكل من اطلع على أمر كان خفيا يقال: قد عثر عليه، والعثور على الشيء يكون في الغالب العلم الذي لم يكن له مقدمات عنده، بل ربما يكون الاطلاع عليه بالمصادفة.
[ ص: 2386 ] والأمر في هذه والعثور يكون بمثل الاطلاع على شيء من ماله عندهما لم يكن قد جرى ذكره على لسانهما، ومعروف عند ورثته أنه كان يملكه، أو يظهر عليهما يسار مفاجئ ويتبين من قرائن الأحوال أنه كان من ماله، أو يظهر من كتب أرسلها المتوفى قبيل وفاته تدل على ما كان يملكه عند الوفاة، ولم يذكرا في شهادتهما وهكذا يكون العثور على شيء لم يكونوا يعلمونه. الحال الذي يموت فيها المورث يكون محل جهل؛ إذ يموت في سفر، ولا طريق للعلم إلا عن طريق هذين الشاهدين اللذين لهما مع الشهادة صفة الوصية،
ومعنى قوله تعالى: استحقا إثما - أي: أنهما خانا في الأمانة، فلم يقوما بحق الوصاية، وكذبا في الشهادة فلم يصدقا، وحلفا يمينا غموسا تغمس صاحبها في النار، فاستحقاقهما للإثم بسبب ذلك الكذب وتلك الخيانة، والحلف الكذب، وقوله تعالى: استحقا إثما تتضمن كل هذه المعاني وغيرها، والإثم هو هذه المعاني كلها، والعثور على ما يتضمن ضياع حقوق الورثة، وذهاب أموالهم، وما قالوه فيه بخس لما يستحقون، وضياع لما يملكون؛ إذ قوله تعالى حين الوصية؛ أي: حين إخبار المتوفى بأمواله وإيصائهم بالمحافظة عليها، وتوزيعها بين مستحقيها وإذا كانت جناية هؤلاء على المستحقين للتركة، فالقول قول المستحقين يدلون به؛ ولذا قال سبحانه: فآخران يقومان مقامهما أي: فشاهدان آخران يقومان في إحقاق الحق، وإظهار الحقيقة، وبيان ما خفي من إرادة المتوفى وأمواله وما له من حقوق وعليه من واجبات مقام الأولين، وهذا التعبير من ألطف التعابير بعد ظهور الإثم؛ إذ إنه ينبئ عن التعاون بين هؤلاء الآثمين، والأبرياء في إظهار الحق؛ إذ إن المجني عليهم يقومان مقام من جنوا.
وقد بين سبحانه من الذين يختار منهم الآخران اللذان يقومان، فقال سبحانه: من الذين استحق عليهم الأوليان في هذا النص السامي بيان من يختار منهم، وكيف يختاران، والضمير في قوله تعالى استحق عليهم يعود على الإثم المذكور في من استحقا إثما، وهو الفاعل; والمعنى أن الذي يكون منهم الآخران [ ص: 2387 ] الذين استحق الإثم عليهم؛ أي: حقت آثاره ومغبته عليهم وهم الورثة، وهذا على قراءة الفعل بالبناء للمعلوم، ومعناها -كما رأيت- الذين حقت عليهم مغبة الإثم ونتائجه، وهم المستحقون للمال بعد وفاة المتوفى بوصية المورث أو بوصية الله تعالى بالميراث، وهناك قراءة بالبناء للمجهول، ومعناها: الذي استحق عليهم أي: أخذ منهم بمقتضى الشهادة الباطلة، والمؤدى في القراءتين واحد.
ذكر النص أنهما الأوليان بالنطق بالحق لأجل الورثة، إما لأنهم أقرب الورثة أو لأنهما أرشدهم، أو ألحق بمحبتهم.
ومعنى النص الكريم على هذا أن اللذين شهدا المتوفى عند وفاته هما أولى الناس بذكر الحقيقة، وإن كان ارتياب يحبسان بعد الصلاة ويستقسمان قسما موثقا؛ فإن ظهر ما يدعو إلى تكذيب شهادتهما في كلها أو في بعضها، كان للمستحقين للتركة حق الشهادة ويختار أولاهما بالتحدث عن المتوفى، وهذا معنى: (أوليان)، وهي خبر لمبتدأ محذوف، وتدل على طريقة الاختيار، وإن هؤلاء لأن المال يئول إليهم لا يقبل قولهم إلا بيمين؛ لأنهم بمنزلة المدعى عليه بكلام الأوصياء الذين يكذبونهم؛ ولذا قال سبحانه:
فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، وتقديره: إذا كانا يتقدمان لإحقاق الحق فلابد أن يقسما بالله، وهنا إيجاز معجز؛ إذ يقسمان بالله تعالى على الختل في الأمانة وعلى ما يريان أنه الحق، ثم يقسمان مع ذلك على أمرين أولهما: أن شهادتهما أحق بالقبول من شهادة الآخرين لصدقها، ولظهور الخيانة في قولهم، ولأنه فقدت قوتها لعدم الأمانة، وثانيهما: أن يقسما على أنهما ما اعتديا، بأخذ [ ص: 2388 ] ما ليس بحقهما، وكان التعبير بنفي الاعتداء; لأنهما مطالبان. والمطالب يخشى اعتداؤه; لأن كذبه يتضمن ويتضمن الأخذ بغير حق، فيكون اعتداء، ولقد أكد الله سبحانه وتعالى عليهم عدم الاعتداء بأن يقولوا: اليمين الغموس، إنا إذا لمن الظالمين وذلك فيه تأكيد لعدم الاعتداء، وبيان أن شهادتهما أحق من شهادة الأولين؛ إذ لو لم يكونوا صادقين لكانوا ظالمين، وقد أكدوا ظلمهم بأربعة مؤكدات: أولها: الجملة الاسمية. وثانيها: بـ: إن المؤكدة، وثالثها: بإثبات أن الحكم بالظلم له مقدماته فيكون منطقيا، ورابعها: دخولهم في زمرة الظالمين، وخروجهم من طائفة الأبرار الأخيار.
وإن ذلك كله تقريب للحق، وبعد عن الباطل، ولا يمكن أن يكون الحق مؤكدا من كل الوجوه، بل لا بد من التقريب دون التحديد، ولذلك قال سبحانه: