[ ص: 2591 ] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون
بين الله تعالى منزلة كتابه الكريم وذكر أنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد بدأ سبحانه وتعالى بذكر ظلم من يفتري عليه سبحانه، ويدعي أنه أوحى الله تعالى إليه، ولم يوح إليه بشيء، فقال تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله
الاستفهام في قوله تعالى ومن أظلم هو للإنكار بمعنى النفي، وفيه من التنديد بالذين يفعلون ذلك أشد التنديد، وقد ذكر سبحانه افتراءهم على الله بنفيهم إنزال الرسل، وقولهم: ما أنـزل الله على بشر من شيء والآن يبين أنهم لا يقفون موقف الإنكار، بل يبهتون ويكذبون ويفترون، وذكر سبحانه طوائف ثلاثة ترتكب في حق الله تعالى أشد الظلم لأنفسهم [ ص: 2592 ] بتضليلها وإيغالها في الشر وظلم الناس بنشر الباطل بينهم وتضليلهم، وظلمهم للحقائق الدينية.
أولى هذه الطوائف التي افترت على الله تعالى كذبا، أي اختلقت على الله كذبا، والافتراء هو اختلاق الكذب، وهو يتضمن معنى الكذب، ولكن صرح بالكذب، لبيان شدة افترائهم، واختلاقهم، وكلامهم الباطل الذي ليس له أصل من الحق أو الحقيقة كعبادتهم الأوثان، وادعاء أنهم يقربونهم إليه زلفى، وكادعاء النصارى أن لله ولدا، وأنه إله، وكتحريم المشركين بعض النعم على أنفسهم، وتحريم البحيرة والموصولة، وغير ذلك، وكافترائهم على الله بأنهم أولياؤه وأحباؤه، فهؤلاء في أشد أحوال الظلمة.
الطائفة الثانية: تلك التي تدعي أنه أوحي لها، ولم يوح إليها بشيء كبعض المقربين من النصارى مثل بولس الذي كان وثنيا، وادعى بعد ذلك دخوله في دين المسيح وحوله من وحدانية، إلى وثنية، وادعوا أن من سموهم رسلا أوحي إليهم وتجلى لهم روح القدس، وغير ذلك من الأوهام الباطلة، والأكاذيب التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكبعض الأعراب الذين كانت منهم نواة الردة الذين ادعوا أنه يوحى إليهم كما يوحى إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-.
الطائفة الثالثة: التي ادعت أن القرآن لا يعجز، وأنها ستنزل مثل ما أنزل الله تعالى من قرآن، وقد أخبر تعالى عنهم فقال: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين
هؤلاء الطوائف الثلاث هم أظلم الناس؛ لأنهم كذبوا على الله تعالى، وأضلوا أنفسهم وأضلوا الناس وكان كلامهم افتراء، وإن هذا النوع الذي يبهت الناس بالباطل هو الذي نشر الأديان الباطلة والأوهام الكاذبة، وما من عقيدة باطلة تنتشر إلا بظلم هؤلاء، ومن تبعهم.
وإن هؤلاء مآلهم جهنم وبئس المصير، وقد صور الله تعالى حالهم، وأرواحهم تنتزع من أجسامهم، والأيدي تبسط إليهم بالعذاب الشديد العتيد المهيأ [ ص: 2593 ] لهم، فقال تعالت كلماته: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والغمرات الشدائد، جمع غمرة أي: شدة، وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، وإطلاقها على الشدائد من قبيل أنها مغمورة فيها لا تكاد تخرج منها; ولهذا قد أحاطت بها، كما يغمر الماء الغريق، فيحيط به من كل جوانبه، وغمرات الموت شدائده التي تكون عند الاحتضار أو عقبه، يحس فيها بغمرة شديدة عند الموت، وإذ يقبر، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وإنهم في هذه الحال التي يحتضرون، وبعد موتهم; الملائكة تبسط أيديهم بالشدة والعذاب المهيأ لهم؛ ولذا قال تعالى: والملائكة باسطو أيديهم تقول لهم بلسان الحال: أخرجوا أنفسكم يقال: بسط يده بالعطاء وبسط يده بالحرب، والبلاء والشدة، وذكرت في القرآن كثيرا بمعنى الشدة؛ ولذا قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم
وقول المعتدى عليه من ولدي آدم: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين فمعنى قوله تعالى: والملائكة باسطو أيديهم أي: بالضرب والعذاب الذي لا مناص منه، ولا يمكنهم التخلص منه ولا الخروج، والملائكة يقولون لهم بالقول أو بلسان الحال: أخرجوا أنفسكم أي: أنه قد أحيط بهم فلا خلاص لهم، ويقال: أخرجوا أنفسكم إن استطعتم إلى الخروج سبيلا، فهو مصيركم ونهايتكم، وما صرتم إليه، بأعمالكم المتكافئة بالشر التي حبط فيها كل خير؛ لأنه قد طمس على بصائركم.
وقال بعض المفسرين: إن قوله تعالى: أخرجوا أنفسكم خطاب لهم حال الاحتضار كأنه يقال لهم: سلموا أنفسكم لنا وقد علمتم أن هذا اليوم هو ساعة الأداء لما كسبتم وما قدمتم فتأخذوا جزاءه، وقالوا: إن هذا تشبيه لحالهم بحال المدين الذي يلازمه غريمه، فلا يستطيع الهرب منه حتى يؤدي الدين الذي عليه، ونرى أن الأول أوضح، وأبين، والنتيجة واحدة.
[ ص: 2594 ] وقوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت فيه أداة شرط وهي: (لو)، وفعل شرط، والجواب غير مذكور يدل عليه التعبير بغمرات الموت، وبسط الملائكة، وحالهم من أنهم لا يستطيعون حولا ولا طولا، ويكون الجواب: لرأيت ثم رأيت هولا شديدا هو جزاء وفاقا لما قدموا من سوء، وفعلوا من شر.
وقد ذكر الله الجزاء فقال: اليوم تجزون عذاب الهون اليوم فيما يظهر هو ما بعد القيامة من عقاب، وعذاب الهون هو العذاب الذي يكون هوانا وذلا واستحقارا لأمرهم، وإضافة العذاب إلى الهوان إضافة تدل على أن الهوان ملازم للعذاب، فقد استكبروا على الحق، وقالوا غير الحق، فكانت العقوبة من جنس الجريمة، ولقد قال سبحانه في سبب ذلك: بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون أي: السبب في العقاب أمران جمع الله فيهما الظلم كله:
أولهما: أنهم كانوا يقولون على الله غير الحق، فيشركون به، ويقولون إنه ثالث ثلاثة، ويقولون: المسيح إله، ويحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله تعالى، وقوله تعالى: كنتم تقولون تدل على استمرار قولهم، وعدم انقطاعه عنهم، وإصرار عليه; لأن: كنتم تدل على الاستمرار، والمضارع يدل على تجدد القول آنا بعد آن. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ثانيهما: أن الآيات البينات الهادية من معجزات دالة، ومن دلائل أخرى فكانوا يعرضون عنها، ويستكبرون، ويظنون أن الالتفات إليها فيه هوان عليهم، وكبرياؤهم منعهم عن الالتفات إلى الحق، فاستكبروا وتجبروا، وخاب كل جبار عنيد وكان الاستكبار متضمنا الإعراض عن الآيات; ولذا عدي بـ: "عن" التي تدل على التجاوز والإعراض؛ إذ قال تعالى: وكنتم عن آياته تستكبرون أي: كنتم تستكبرون معرضين عن آياتنا الدالة; ولأنها قاطعة على الحق وفيها الهداية، ولكن لا تهتدون استكبارا وإعراضا، فنالوا جزاءهم.
[ ص: 2595 ] ولقد بين الله تعالى جزاءهم الذي أشار إليه في الآية السابقة، بينه وقد زالت عنهم أسباب الطغيان والكبرياء. وقال تعالى: