34- قوله: (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) فهذا الذي يسميه النحويون "جواب الفاء". وهو ما كان جوابا للأمر والنهي والاستفهام والتمني والنفي والجحود. ونصب ذلك كله على ضمير "أن"،
[ ص: 66 ] وكذلك الواو. وإن لم يكن معناها مثل معنى الفاء. وإنما نصب هذا لأن الفاء والواو من حروف العطف فنوى المتكلم أن يكون ما مضى من كلامه اسما حتى كأنه قال: "لا يكن منكما قرب الشجرة" ثم أراد أن يعطف الفعل على الاسم فأضمر مع الفعل "أن" لأن "أن" مع الفعل تكون اسما فيعطف اسما على اسم.
وهذا تفسير جميع ما انتصب من الواو والفاء. ومثل ذلك قوله: (لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) هذا جواب النهي و : (لا يقضى عليهم فيموتوا) جواب النفي. والتفسير ما ذكرت لك.
وقد يجوز إذا حسن أن تجري الآخر على الأول أن تجعله مثله نحو قوله: (ودوا لو تدهن فيدهنون) أي: "ودوا لو يدهنون". ونحو قوله: (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون) جعل الأول فعلا ولم ينو به الاسم فعطف الفعل على الفعل وهو التمني كأنه قال "ودوا لو تغفلون ولو يميلون" وقال: (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) أي "لا يؤذن لهم ولا يعتذرون". وما كان بعد هذا جواب المجازاة بالفاء والواو فإن شئت أيضا نصبته على ضمير "أن" إذا نويت بالأول أن تجعله اسما كما قال: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) : (أو يوبقهن.... ويعف عن كثير) : [ ص: 67 ] (ويعلم الذين) فنصب، ولو جزمه على العطف كان جائزا، ولو رفعه على الابتداء جاز أيضا. وقال: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء) فتجزم: (فيغفر) إذا أردت العطف، وتنصب إذا أضمرت "أن" ونويت أن يكون الأول اسما، وترفع على الابتداء وكل ذلك من كلام العرب. وقال: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم) ثم قال: (ويتوب الله على من يشاء) فرفع : (ويتوب) لأنه كلام مستأنف ليس على معنى الأول. ولا يريد "قاتلوهم يتب الله عليهم" ولو كان هذا لجاز فيه الجزم لما ذكرت. وقال الشاعر [ النابغة الذبياني ] :
(35) فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام ونمسك بعده بذناب عيش
أجب الظهر ليس له سنام
(36) ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى مصارع مظلوم مجرا ومسحبا
[ ص: 68 ] ومن يغترب عن قومه لا يجد له على من له رهط حواليه مغضبا
وتدفن منه المحسنات وإن يسيء يكن ما أساء النار في رأس كبكبا
(37) فإن يرجع النعمان نفرح ونبتهج ويأت معدا ملكها وربيعها
وإن يهلك النعمان تعر مطية وتخبأ في جوف العياب قطوعها
[ ص: 69 ] وصل "الألف" جعله أمرا. وهذا الوجه إذا أراد به الأمر يجوز فيه الضم والفتح. غير أن "الألف" ألف وصل وإنما قطعتها "ثم" في الوجه الآخر؛ لأنه كل ما يكون معناه "أفعل" فإنه مقطوع، من الوصل كان أو من القطع. قال: (أنا آتيك به) وهو من "أتى" "يأتي" وقال:(أتخذ من دونه آلهة) فترك "الألف" التي بعد ألف الاستفهام لأنها ألف "أفعل" وقال الله تبارك وتعالى فيما يحكي عن الكفار : (لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) فقوله: (فأصدق) جواب للاستفهام؛ لأن : (لولا) ها هنا بمنزلة "هلا" وعطف : (وأكن) على موضع : (فأصدق) لأن جواب الاستفهام إذا لم يكن فيه فاء جزم. وقد قرأ بعضهم : (فأصدق وأكون) عطفها على ما بعد الفاء وذلك خلاف الكتاب. وقد قرئ: (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) جزم. فجزم : (يذرهم) على أنه عطف على موضع الفاء لأن موضعها يجزم إذا كان جواب المجازاة، ومن رفعها على أن يعطفها على ما بعد الفاء فهو أجود وهي قراءة. وقال: (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ونكفر عنكم)
[ ص: 70 ] جزم ورفع على ما فسرت. وقد يجوز في هذا وفي الحرف الذي قبله النصب؛ لأنه قد جاء بعد جواب المجازاة مثل: (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا) : (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) فانتصب الآخر؛ لأن الأول نوي أن يكون بمنزلة الاسم وفي الثاني الواو. وإن شئت جزمت على العطف كأنك قلت "ولما يعلم الصابرين".
فإن قال قائل: "ولما يعلم الله الصابرين" : قلت: (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) فهو لم يعلمهم؟
بل قد علم، ولكن هذا فيما يذكر أهل التأويل ليبين للناس، كأنه قال "ليعلمه الناس" كما قال: (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) وهو قد علم ولكن ليبين ذلك. وقد قرأ أقوام أشباه هذا في القرآن : (ليعلم أي الحزبين) ولا أراهم قرءوه إلا لجهلهم بالوجه الآخر.
[ ص: 71 ] ومما جاء بالواو : (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق) إن شئت جعلت : (وتكتموا الحق) نصبا إذا نويت أن تجعل الأول اسما فتضمر مع : (تكتموا) "أن" حتى تكون اسما. وإن شئت عطفتها فجعلتها جزما على الفعل الذي قبلها. قال: (ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما) فعطف القول على الفعل المجزوم فجزمه. وزعموا أنه في قراءة : (وأقول لكما) على ضمير "أن" ونوى أن يجعل الأول اسما، وقال الشاعر: [ ابن مسعود الأعشى ] :
(38) لقد كان في حول ثواء ثويته يقضي لبانات ويسأم سائم
(39) فإن لم أصدق ظنكم بتيقن فلا سقت الأوصال مني الرواعد
ويعلم أكفائي من الناس أنني أنا الفارس الحامي الذمار المذاود
(40) فإن يقدر عليك أبو قبيس تمط بك المنية في هوان
[ ص: 72 ] وتخضب لحية غدرت وخانت بأحمر من نجيع الجوف آن
(41) فلست بمدرك ما فات مني بـ "لهف" ولا بـ "ليت" ولا لو "أني"
وإنما جاز ضمير "أن" في غير الواجب لأن غير الواجب يجيء ما بعده على خلاف ما قبله ناقضا له.
فلما حدث فيه خلاف لأوله جاز هذا الضمير. والواجب يكون آخره على أوله نحو قول الله عز وجل : (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة) فالمعنى: "اسمعوا: أنزل الله من السماء ماء" فهذا خبر واجب و : (ألم تر) تنبيه. وقد ينصب الواجب في الشعر. قال الشاعر:
[ المغيرة بن جبناء ] :
[ ص: 73 ]
(42) سأترك منزلي لبني تميم وألحق بالحجاز فأستريحا
(43) لها هضبة لا يدخل الذل وسطها ويأوي إليها المستجير فيعصما