الوجه التاسع عشر مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك، فيورده النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه، ويأتي به على نصه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه. وإن مثله لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة ولا بمثاقبة، ولم يغب عنهم ولا جهل حاله أحد منهم، وقد كان أهل الكتاب كثيرا ما يسألونه صلى الله عليه وسلم عن هذا فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه، كقصص الأنبياء مع قومهم، وبدء الخلق وما في التوراة والإنجيل والزبور، وصحف من وجوه إعجازه (إخباره بأحوال القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الداثرة) إبراهيم وموسى مما صدقه فيه العلماء بها ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل أذعنوا لذلك، فمن وفق آمن بما سبق له من خير، ومن شقي فهو معاند حاسد، ومع هذا فلم يحك عن واحد من اليهود [ ص: 182 ] والنصارى على شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم، وكثرة سؤالهم له عليه السلام وتعنيتهم إياه -، عن أخبار أنبيائهم، وأسرار علومهم، ومستودعات سيرهم، وإعلامهم بمكنون شرائعهم، ومضمنات كتبهم، مثل سؤالهم عن الروح، وذي القرنين، وأصحاب الكهف، وعيسى، وحكم الرجم، وما حرم إسرائيل على نفسه، وما حرم عليهم من الأنعام، ومن طيبات كانت أحلت لهم، فحرمت عليهم ببغيهم. وقوله: ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل . وغير ذلك من أمورهم التي نزل بها القرآن فأجابهم وعرفهم بما أوحي إليه من ذلك - أنه أنكر ذلك أو كذب، بل أكثرهم صرح بصحة نبوءته، وصدق مقاله، واعترف بعناده مع حسدهم إياه، كأهل نجران، وابن صوريا، وابن أخطب، وغيرهم. ومن باهت في ذلك بعض المباهتة، وادعى أن فيها عندهم لما حكاه مخالفة دعي إلى دليل، وإقامة حجة، وكشف دعوته، فقيل له: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين . إلى قوله: الظالمون ، فقرع ووبخ. ودعا إلى إخبار ممكن غير ممتنع، فمن معترف ما جحده، ومتواقح باق على فضيحته من كتابة يده، ولم يؤثر أن واحدا منهم أظهر خلاف قوله من كتبه، ولا بدأ بدءا صحيحا ولا سقيما من صحفه، قال تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين .