الوجه التاسع والعشرون وقد أفرده من وجوه إعجازه (إقسامه تعالى في مواضع لإقامة الحجة وتأكيدها) ابن القيم في مجلد سماه " التبيان ". فإن قلت: ما معنى القسم منه تعالى، فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن مصدق بمجرد الإخبار من غير قسم، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده. وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرا، حتى جعلوا مثل: والله يشهد إن المنافقين لكاذبون . - قسما، وإن كان فيه إخبار بشهادة، لأنه لما جاء توكيدا للخبر سمي قسما. قال أبو القاسم القشيري: وذلك لأن الحكم يفصل باثنين، إما بالشهادة. وإما بالقسم، فذكر تعالى في كتابه النوعين، حتى لا تبقى لهم حجة، فقال: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط . وقال: قل إي وربي إنه لحق . وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق . صاح وقال: من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين. ولا يكون القسم إلا باسم معظم. وقد أقسم الله تعالى بنفسه في القرآن في [ ص: 342 ] سبعة مواضع: الآية المذكورة، بقوله: قل إي وربي . قل بلى وربي لتبعثن . فوربك لنحشرنهم والشياطين . فوربك لنسألنهم أجمعين . فلا وربك لا يؤمنون . فلا أقسم برب المشارق والمغارب . والباقي كله قسم بمخلوقاته، كقوله: والتين والزيتون . والصافات . والليل . والشمس . والضحى . فلا أقسم بالخنس . فإن قيل: كيف أقسم بما يخلق، وقد ورد النهي عن القسم بغير الله؟ قلت: أجيب عنه بأجوبة: أحدها: أنه على حذف مضاف، أي ورب التين، ورب الشمس، وكذا الباقي. الثاني: أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها، فنزل القرآن على ما يعرفون. الثالث: أن الأقسام إنما تكون بما يعظمه المقسم أو محبه، وهو فوقه، والله تعالى ليس شيء فوقه. فأقسم تارة بنفسه، وتارة بمصنوعاته، لأنها تدل على أنه بارئ صانع. قال ابن أبي الإصبع - في أسرار الفواتح: القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع، لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل، إذ يستحيل وجود مفعول من غير فاعل. وأخرج عن ابن أبي حاتم قال: إن الله يقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يقسم إلا بالله. وقال العلماء: أقسم الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: الحسن، لعمرك ، ليعرف الناس عظمته عند الله ومكانته لديه. أخرج عن ابن مردويه قال: ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفسا [ ص: 343 ] أكرم عليه من ابن عباس، محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا سمعت الله أقسم بحياة مخلوق غيره، قال: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون . وقال أبو القاسم القشيري: القسم بالشيء لا يخرج عن وجهين: إما لفضيلة، أو لمنفعة، فالفضيلة كقوله: وطور سينين وهذا البلد الأمين والمنفعة. نحو: والتين والزيتون . وقال غيره: أقسم تعالى بثلاثة أشياء: بذاته كالآيات السابقة، وبفعله نحو: والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها . وبمفعوله نحو: والنجم إذا هوى . والطور وكتاب مسطور . والقسم إما ظاهر كالآيات السابقة. وإما مضمر، وهو قسمان: قسم دلت عليه اللام نحو: لتبلون في أموالكم وأنفسكم . وقسم دل عليه المعنى، نحو: وإن منكم إلا واردها . تقديره: والله. وقال الألفاظ الجارية مجرى القسم قسمان: أحدهما: ما تكون كغيرها من الألفاظ التي ليست بقسم، فلا تجاب بجوابه. كقوله: أبو علي الفارسي: وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين . وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة . البقرة: 63. فيحلفون له كما يحلفون لكم . وهذا ونحوه يجوز أن يكون قسما، وأن يكون حالا لخلوه من الجواب. والثاني ما يتلقى بجواب القسم في قوله: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه . وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن . وقال غيره: أكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو. فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل، كقوله: وأقسموا بالله جهد أيمانهم . يحلفون بالله . ولا تجد الباء مع حذف الفعل. [ ص: 344 ] ومن ثم كان خطأ من جعل قسما بالله: إن الشرك لظلم عظيم . ادع لنا ربك بما عهد عندك . بحق إن كنت قلته فقد علمته . وقال ابن القيم: اعلم أنه سبحانه يقسم بأمور على أمور، وإنما يقسم بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته أو بآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وإقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته. فالقسم إما على جملة خبرية، وهو الغالب، كقوله: فورب السماء والأرض إنه لحق . وإما على جملة طلبية، كقوله: فوربك لنسألنهم أجمعين . مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق المقسم، فالمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه، فلا بد أن يكون مما نحن فيه، وذلك كالأمور الغائبة الخفية، إذا أقسم على ثبوتها. فأما الأمور المشهودة الظاهرة، كالشمس، والليل، والنهار، والسماء، والأرض - فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها. وما أقسم عليه الرب فهو من آياته، فيجوز أن يكون مقسما به، ولا ينعكس. وهو سبحانه يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب، ويحذفه أخرى كما يحذف جواب " لو " كثيرا للعلم. ولما كان القسم يكثر في الكلام اختصر، فصار فعل القسم يحذف ويكتفى بالباء، تم عوض من الباء الواو في الأسماء الظاهرة، والتاء في اسم الله، كقوله: وتالله لأكيدن أصنامكم . قال: ثم هو سبحانه يقسم على أصول الإيمان التي يجب على الخلق صرفتها، وتارة يقسم على التوحيد، وتارة يقسم على أن القرآن حق، وتارة على أن الرسول حق، وتارة على الجزاء والوعد والوعيد، وتارة على حال الإنسان. فالأول كقوله: والصافات صفا ... إلى قوله: إن إلهكم لواحد . [ ص: 345 ] والثاني كقوله: فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون والثالث كقوله: يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين . والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى . والرابع كقوله: والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع . والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون لواقع . والخامس كقوله: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى . والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا إن الإنسان لربه لكنود . والعصر إن الإنسان لفي خسر . والتين والزيتون وطور سينين إلى قوله: وهذا البلد الأمين إلى قوله: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد إلى قوله: لقد خلقنا الإنسان في كبد . قال: وأكثر ما يحذف الجواب إذا كان في نفس المقسم به دلالة على القسم عليه، فإن المقصود يحصل بذكره، فيكون حذف المقسم عليه أبلغ وأوجز. كقوله: ص، والقرآن ذي الذكر ، فإن في المقسم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذو الذكر المتضمن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه، والشرف والقدر - ما يدل على المقسم عليه، وهو كونه حقا من عند الله غير مفترى كما يقوله الكافرون، ولهذا قال كثيرون: إن تقدير الجواب: إن القرآن لحق، وهذا مطرد في كل ما شأنه ذلك، كقوله: ق، والقرآن المجيد . وقوله: لا أقسم بيوم القيامة ، فإنه يتضمن إثبات المعاد. وقوله: والفجر ... الآيات، فإنها أزمان تتضمن أفعالا عظيمة من المناسك وشعائر الحج التي هي عبودية محضة لله، وذل وخضوع لعظمته، وفي ذلك تعظيم ما جاء به محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام. قال: ومن لطائف القسم قوله: والضحى والليل إذا سجى . أقسم تعالى على إنعامه على رسوله وإكرامه له، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو [ ص: 346 ] قسم على صحة نبوءته، وعلى جزائه في الآخرة، فهو قسم على النبوءة والمعاد. وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته. وتأمل مطابقة هذا القسم وهو نور الضحى الذي هو يوافي بعد ظلام الليل للمقسم - عليه، وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدا ربه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه.