[ ص: 5 ] - 1 - التعريف بالعلم
وبيان نشأته وتطوره
التي لا يزيدها التقدم العلمي إلا رسوخا في الإعجاز ، أنزله الله على رسولنا القرآن الكريم هو معجزة الإسلام الخالدة محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إلى الصراط المستقيم ، فكان صلوات الله وسلامه عليه يبلغه لصحابته -وهم عرب خلص- فيفهمونه بسليقتهم ، وإذا التبس عليهم فهم آية من الآيات سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها .
روى الشيخان وغيرهما عن قال : ابن مسعود الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، شق ذلك على الناس ، فقالوا : يا رسول الله ، وأينا لا يظلم نفسه ؟ قال : " إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : إن الشرك لظلم عظيم ، إنما هو الشرك " . " لما نزلت هذه الآية :
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر لهم بعض الآيات .
أخرج وغيره مسلم قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وهو على المنبر : عقبة بن عامر وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، " ألا إن القوة الرمي " . عن
وحرص الصحابة على تلقي القرآن الكريم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحفظه وفهمه ، وكان ذلك شرفا لهم .
عن رضي الله عنه قال : " كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا " أي عظم . أنس
وحرصوا كذلك على العمل به والوقوف عند أحكامه .
[ ص: 6 ] روي عن أنه قال : " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ، أبي عبد الرحمن السلمي كعثمان بن عفان وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا " . وعبد الله بن مسعود
ولم يأذن لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كتابة شيء عنه سوى القرآن خشية أن يلتبس القرآن بغيره .
روى عن مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : أبي سعيد الخدري " لا تكتبوا عني ، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ، وحدثوا عني ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " .
ولئن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أذن لبعض صحابته بعد ذلك في كتابة الحديث فإن ما يتصل بالقرآن ظل يعتمد على الرواية بالتلقين في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنهما . وعمر
جاءت خلافة رضي الله عنه ، واقتضت الدواعي -التي سنذكرها فيما بعد- إلى جمع المسلمين على مصحف واحد ، فتم ذلك ، وسمي بالمصحف الإمام ، وأرسلت نسخ منه إلى الأمصار ، وسميت كتابته بالرسم العثماني ، نسبة إليه ، ويعتبر هذا بداية " لعلم عثمان " . رسم القرآن
ثم كانت خلافة -رضي الله عنه- فوضع علي بأمر منه قواعد النحو ، صيانة لسلامة النطق ، وضبطا للقرآن الكريم ، ويعتبر هذا كذلك بداية لـ " أبو الأسود الدؤلي " . علم إعراب القرآن
[ ص: 7 ] استمر الصحابة يتناقلون معاني القرآن وتفسير بعض آياته على تفاوت فيما بينهم ، لتفاوت قدرتهم على الفهم ، وتفاوت ملازمتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتناقل عنهم ذلك تلاميذهم من التابعين .
ومن : الخلفاء الأربعة ، أشهر المفسرين من الصحابة ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري . وعبد الله بن الزبير
وقد كثرت الرواية في التفسير عن : ، عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود ، وما روي عنهم لا يتضمن تفسيرا كاملا للقرآن ، وإنما يقتصر على معاني بعض الآيات ، بتفسير غامضها ، وتوضيح مجملها . وأبي بن كعب
أما التابعون ، فاشتهر منهم جماعة ، أخذوا عن الصحابة ، واجتهدوا في تفسير بعض الآيات .
فاشتهر من تلاميذ ابن عباس بمكة : ، سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وطاوس بن كيسان اليماني . وعطاء بن أبي رباح
واشتهر من تلاميذ أبي بن كعب بالمدينة : ، زيد بن أسلم ، وأبو العالية . ومحمد بن كعب القرظي
واشتهر من تلاميذ عبد الله بن مسعود بالعراق : ، علقمة بن قيس ، ومسروق ، والأسود بن يزيد ، وعامر الشعبي ، والحسن البصري . وقتادة بن دعامة السدوسي
قال ابن تيمية : " وأما التفسير ، فأعلم الناس به أهل مكة ، لأنهم أصحاب ، ابن عباس ، كمجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، وغيرهم من أصحاب وعكرمة مولى ابن عباس ، ابن عباس ، كطاوس ، وأبي الشعثاء وأمثالهم ، وكذلك أهل وسعيد بن جبير الكوفة من أصحاب ، ومن ذلك ما تميزوا به عن غيرهم ، وعلماء أهل ابن مسعود المدينة في التفسير ، مثل : الذي أخذ عنه زيد بن أسلم التفسير ، وأخذ عنه أيضا ابنه مالك ، عبد الرحمن " . وعبد الله بن وهب
[ ص: 8 ] والذي روي عن هؤلاء جميعا يتناول : علم التفسير ، وعلم غريب القرآن ، وعلم أسباب النزول ، وعلم المكي والمدني ، وعلم الناسخ والمنسوخ ، ولكن هذا كله ظل معتمدا على الرواية بالتلقين .
جاء عصر التدوين في القرن الثاني ، وبدأ تدوين الحديث بأبوابه المتنوعة ، وشمل ذلك ما يتعلق بالتفسير ، وجمع بعض العلماء ما روي من تفسير للقرآن الكريم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة ، أو عن التابعين .
واشتهر منهم : يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة 117 هجرية ، المتوفى سنة 160 هجرية ، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة 197 هجرية ، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 198 هجرية ، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 211 هجرية . وعبد الرزاق بن همام
وهؤلاء جميعا كانوا من أئمة الحديث ، فكان جمعهم للتفسير جمعا لباب من أبوابه ، ولم يصلنا من تفاسيرهم شيء مكتوب سوى مخطوطة تفسير . عبد الرزاق بن همام
ثم نهج نهجهم بعد ذلك جماعة من العلماء وضعوا تفسيرا متكاملا للقرآن وفق ترتيب آياته ، واشتهر منهم المتوفى سنة 310 هجرية . ابن جرير الطبري
وهكذا بدأ التفسير أولا بالنقل عن طريق التلقي والرواية ، ثم كان تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث ، ثم دون على استقلال وانفراد ، وتتابع التفسير بالمأثور ، ثم التفسير بالرأي .
وبإزاء علم التفسير كان التأليف الموضوعي في موضوعات تتصل بالقرآن ولا يستغني المفسر عنها .
فألف المتوفى سنة 234 هجرية في أسباب النزول . علي بن المديني شيخ البخاري
وألف المتوفى سنة 224 هجرية في الناسخ والمنسوخ ، وفي القراءات . أبو عبيد القاسم بن سلام
وألف ابن قتيبة المتوفى سنة 276 هجرية في مشكل القرآن .
وهؤلاء من علماء القرن الثالث الهجري .
[ ص: 9 ] وألف محمد بن خلف المرزبان المتوفى سنة 309 هجرية " الحاوي في علوم القرآن " .
وألف المتوفى سنة 328 هجرية في علوم القرآن . أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري
وألف المتوفى سنة 330 هجرية في غريب القرآن . أبو بكر السجستاني
وألف محمد بن علي الأدفوي المتوفى سنة 388 هجرية " الاستغناء في علوم القرآن " .
وهؤلاء من علماء القرن الرابع الهجري .
ثم تتابع التأليف بعد ذلك .
فألف المتوفى سنة 403 هجرية في إعجاز القرآن . أبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 430 هجرية في إعراب القرآن . وعلي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي
المتوفى سنة 450 هجرية في أمثال القرآن . والماوردي
والعز بن عبد السلام المتوفى سنة 660 هجرية في مجاز القرآن .
المتوفى سنة 643 هجرية في وعلم الدين السخاوي . علم القراءات
وابن القيم المتوفى سنة 751 هجرية في " أقسام القرآن " .
وهذه المؤلفات يتناول كل مؤلف منها نوعا من علوم القرآن وبحثا من مباحثه المتصلة به .
أما جمع هذه المباحث وتلك الأنواع -كلها أو جلها- في مؤلف واحد فقد ذكر الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه " مناهل العرفان في علوم القرآن " أنه ظفر في دار الكتب المصرية بكتاب مخطوط لعلي بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي ، اسمه " البرهان في علوم القرآن " يقع في ثلاثين مجلدا ، يوجد منها خمسة عشر مجلدا غير مرتبة ولا متعاقبة ، حيث يتناول المؤلف الآية من آيات القرآن الكريم بترتيب المصحف فيتكلم عما تشتمل عليه من علوم القرآن ، مفردا كل نوع [ ص: 10 ] بعنوان ، فيجعل العنوان العام في الآية : " القول في قوله عز وجل . . . " ويذكر الآية ، ثم يضع تحت هذا العنوان : " القول في الإعراب " ويتحدث عن الآية من الناحية النحوية واللغوية ، ثم " القول في المعنى والتفسير " ويشرح الآية بالمأثور والمعقول ، ثم " القول في الوقف والتمام " ويبين ما يجوز من الوقف وما لا يجوز ، وقد يفرد القراءات بعنوان مستقل فيقول : " القول في القراءة " ، وقد يتكلم عن الأحكام التي تؤخذ من الآية عند عرضها .
بهذا النهج يعتبر والحوفي ، وإن كان تدوينه على النمط الخاص الآنف الذكر ، وهو المتوفى سنة 430 هـ . أول من دون علوم القرآن
ثم تبعه ابن الجوزي سنة 597 هجرية في كتابه " فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن " .
ثم جاء بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794 هجرية وألف كتابا وافيا سماه " البرهان في علوم القرآن " .
ثم أضاف إليه بعض الزيادات جلال الدين البلقيني المتوفى سنة 824 هجرية في كتابه " مواقع العلوم من مواقع النجوم " .
ولم يكن نصيب علوم القرآن من التأليف في عصر النهضة الحديثة أقل من العلوم الأخرى . فقد اتجه المتصلون بحركة الفكر الإسلامي اتجاها سديدا في معالجة الموضوعات القرآنية بأسلوب العصر ، مثل كتاب " إعجاز القرآن " لمصطفى صادق الرافعي ، وكتابي " التصوير الفني في القرآن " و " مشاهد القيامة في القرآن " للشهيد سيد قطب . و " ترجمة القرآن " للشيخ محمد مصطفى المراغي ، وبحث فيها لمحب الدين الخطيب ، و " مسألة ترجمة القرآن " لمصطفى صبري ، و " النبأ [ ص: 11 ] العظيم " للدكتور محمد عبد الله دراز ، ومقدمة تفسير " محاسن التأويل " لمحمد جمال الدين القاسمي .
وألف الشيخ طاهر الجزائري كتابا سماه " التبيان في علوم القرآن " .
وألف الشيخ محمد علي سلامة كتابه " منهج الفرقان في علوم القرآن " تناول فيه المباحث المقررة بكلية أصول الدين بمصر تخصص الدعوة والإرشاد .
وتلاه الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني فألف كتابه " مناهل العرفان في علوم القرآن " .
ثم الشيخ أحمد أحمد علي في " مذكرة علوم القرآن " التي ألقاها على طلابه بالكلية ، قسم إجازة الدعوة والإرشاد .
وصدر أخيرا " مباحث في علوم القرآن " للدكتور صبحي الصالح .
وللأستاذ أحمد محمد جمال ، أبحاث " على مائدة القرآن " .
هذه المباحث جميعها هي التي تعرف بعلوم القرآن ، حتى صارت علما على العلم المعروف بهذا الاسم .
والعلوم : جمع علم ، والعلم : الفهم والإدراك . ثم نقل بمعنى المسائل المختلفة المضبوطة ضبطا علميا .
والمراد بعلوم القرآن : العلم الذي يتناول الأبحاث المتعلقة بالقرآن من حيث معرفة أسباب النزول ، وجمع القرآن وترتيبه ، ومعرفة المكي والمدني ، والناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، إلى غير ذلك مما له صلة بالقرآن .
وقد يسمى هذا العلم بأصول التفسير ، لأنه يتناول المباحث التي لا بد للمفسر من معرفتها للاستناد إليها في تفسير القرآن .
"