التفسير في عصر التابعين
كما اشتهر بعض أعلام الصحابة بالتفسير ، اشتهر بعض أعلام التابعين الذين أخذوا عنهم من تلاميذهم بالتفسير كذلك معتمدين في مصادره على المصادر التي جاءت في العصر السابق بالإضافة إلى ما كان لهم من اجتهاد ونظر .
قال الأستاذ محمد حسين الذهبي : " وقد اعتمد هؤلاء المفسرون في فهمهم لكتاب الله تعالى على ما جاء في الكتاب نفسه ، وعلى ما رووه عن الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى ما رووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم . وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم ، وعلى ما يفتح الله به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب الله تعالى .
[ ص: 330 ] وقد روت لنا كتب التفسير كثيرا من أقوال هؤلاء التابعين في التفسير قالوها بطريق الرأي والاجتهاد ، ولم يصل إلى علمهم شيء فيها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن أحد من الصحابة .
وقد قلنا فيما سبق : إن ما نقل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن الصحابة من التفسير لم يتناول جميع آيات القرآن ، وإنما فسروا ما غمض فهمه على معاصريهم ، ثم تزايد هذا الغموض -على تدرج- كلما بعد الناس عن عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة ، فاحتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى أن يكملوا بعض هذا النقص ، فزادوا في التفسير بمقدار ما زاد من غموض ، ثم جاء من بعدهم فأتموا تفسير القرآن تباعا ، معتمدين على ما عرفوه من لغة العرب ومناحيهم في القول ، وعلى ما صح لديهم من الأحداث التي حدثت في عصر نزول القرآن ، وغير هذا من أدوات الفهم ووسائل البحث .
لقد اتسعت الفتوحات الإسلامية ، وانتقل كثير من أعلام الصحابة إلى الأمصار المفتوحة ، ولدى كل واحد منهم علم . وعلى يد هؤلاء تلقى تلاميذهم من التابعين علمهم ، وأخذوا عنهم ، ونشأت مدارس متعددة .
ففي مكة نشأت مدرسة واشتهر من تلاميذه ابن عباس بمكة : ، سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وطاوس بن كيسان اليماني . وعطاء بن أبي رباح
وهؤلاء جميعا من الموالي ، وهم يختلفون في الرواية عن قلة وكثرة ، كما اختلف العلماء في مقدار الثقة بهم والركون إليهم ، والذي ورد فيه شيء ذو بال هو ابن عباس ، فإن العلماء يختلفون في توثيقه وإن كانوا يشهدون له بالعلم والفضل . عكرمة
وفي المدينة اشتهر بالتفسير أكثر من غيره ، وكثر ما نقل عنه في ذلك . واشتهر من تلاميذه من التابعين الذين أخذوا عنه مباشرة أو بالواسطة : أبي بن كعب ، زيد بن أسلم ، وأبو العالية . ومحمد بن كعب القرظي
وفي العراق نشأت مدرسة التي يعتبرها العلماء نواة مدرسة أهل [ ص: 331 ] الرأي : وعرف بالتفسير من أهل ابن مسعود العراق كثير من التابعين . اشتهر منهم ، علقمة بن قيس ، ومسروق ، والأسود بن يزيد ومرة الهمذاني ، ، وعامر الشعبي ، والحسن البصري . وقتادة بن دعامة السدوسي
هؤلاء هم مشاهير المفسرين من التابعين في الأمصار الإسلامية الذين أخذ عنهم أتباع التابعين من بعدهم . وخلفوا لنا تراثا علميا خالدا .
واختلف العلماء فيما أثر عن التابعين من تفسير إذا لم يؤثر في ذلك شيء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة ، أيؤخذ بأقوالهم أم لا ؟
فذهب جماعة إلى أنه لا يؤخذ بتفسيرهم ; لأنهم لم يشاهدوا القرائن والأحوال التي نزل عليها القرآن ، فيجوز عليهم الخطأ في فهم المراد .
وذهب أكثر المفسرين إلى أنه يؤخذ بتفسيرهم ; لأنهم تلقوه غالبا عن الصحابة .
والذي يترجح أنه إذا أجمع التابعون على رأي فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره .
قال ابن تيمية : " قال وغيره : أقوال التابعين ليست حجة ، فكيف تكون حجة في التفسير ؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم . وهذا صحيح ، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة ، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة ، أو عموم لغة العرب ، أو أقوال الصحابة في ذلك “ . شعبة بن الحجاج
وقد ظل التفسير محتفظا في هذا العصر بطابع التلقي والرواية ، ولكن التابعين - بعد أن كثر دخول أهل الكتاب في الإسلام ، نقلوا عنهم في التفسير كثيرا من الإسرائيليات ، كالذي يروى عن ، عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، كما بدأ الاختلاف فيما يروى عنهم من تفسير لكثرة أقوالهم . ومع هذا فإنها أقوال متقاربة أو مترادفة ، فهو من باب اختلاف العبارة لا اختلاف التباين والتضاد . وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج
"