حكمة نزول القرآن منجما
نستطيع أن نستخلص
nindex.php?page=treesubj&link=28864حكمة نزول القرآن الكريم منجما من النصوص الواردة في ذلك . ونجملها فيما يأتي :
الحكمة الأولى : تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم
1- الحكمة الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=30614تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لقد وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته إلى الناس ، فوجد منهم نفورا وقسوة ، وتصدى له قوم غلاظ الأكباد فطروا على الجفوة ، وجبلوا على العناد ، يتعرضون له بصنوف الأذى والعنت ، مع رغبته الصادقة في إبلاغهم الخير الذي يحمله إليهم ، حتى قال الله فيه:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=6فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ، فكان الوحي يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة بعد فترة ، بما يثبت قلبه على الحق ، ويشحذ عزمه للمضي قدما في طريق دعوته ، لا يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه فإنها سحابة صيف عما قريب تقشع.
يبين الله له سنته في الأنبياء السابقين الذين كذبوا وأوذوا فصبروا حتى جاءهم نصر
[ ص: 103 ] الله ، وأن قومه لم يكذبوه إلا علوا واستكبارا ، فيجد عليه الصلاة والسلام في ذلك السنة الإلهية في موكب النبوة عبر التاريخ التي يتأسى بها تسلية له إزاء أذى قومه ، وتكذيبهم إياه ، وإعراضهم عنه:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=33قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=34ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=184فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير .
ويأمره القرآن بالصبر كما صبر الرسل من قبله:
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=35فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل .
ويطمئن نفسه بما تكفل الله به من كفايته أمر المكذبين ،
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=10واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=11وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ، وهذا هو ما جاء في حكمة قصص الأنبياء بالقرآن:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=120وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وكلما اشتد ألم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكذيب قومه ، وداخله الحزن لأذاهم نزل القرآن دعما وتسلية له ، يهدد المكذبين بأن الله يعلم أحوالهم ، وسيجازيهم على ما كان منهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=76فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ،
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=65ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم ، كما يبشره الله تعالى بآيات المنعة والغلبة والنصر:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=67والله يعصمك من الناس ،
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=3وينصرك الله نصرا عزيزا ،
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=21كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز .
[ ص: 104 ] وهكذا كانت آيات القرآن تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تباعا تسلية له بعد تسلية وعزاء بعد عزاء ، حتى لا يأخذ منه الحزن مأخذه ولا يستبد به الأسى ، ولا يجد اليأس إلى نفسه سبيلا ، فله في قصص الأنبياء أسوة ، وفي مصير المكذبين سلوى ، وفي العدة بالنصر بشرى ، وكلما عرض له شيء من الحزن بمقتضى الطبع البشري تكررت التسلية فثبت قلبه على دعوته ، واطمأن إلى النصر.وهذه الحكمة هي التي رد الله بها على اعتراض الكفار في تنجيم القرآن بقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا .
قال
أبو شامة: "فإن قيل: ما السر في نزله منجما؟ وهلا أنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه ، فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة يعنون: كما أنزل على من قبله من الرسل ، فأجابهم تعالى بقوله: "كذلك" أي أنزلناه مفرقا لنثبت به فؤادك أي لنقوي به قلبك ، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب ، وأشد عناية بالمرسل إليه ، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه ، وتجدد العهد به ، وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز ، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة ، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقياه
جبريل".
2- الحكمة الثانية : التحدي والإعجاز :
فالمشركون تمادوا في غيهم ، وبالغوا في عتوهم ، وكانوا يسألون أسئلة تعجيز وتحد يمتحنون بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نبوته ، ويسوقون له من ذلك كل عجيب من باطلهم ، كعلم الساعة :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=187يسألونك عن الساعة ، واستعجال العذاب :
[ ص: 105 ] nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=53ويستعجلونك بالعذاب ، فيتنزل القرآن بما يبين وجه الحق لهم ، وبما هو أوضح معنى في مؤدى أسئلتهم ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=33ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ، أي ولا يأتونك بسؤال عجيب من أسئلتهم الباطلة إلا أتيناك نحن بالجواب الحق ، وبما هو أحسن معنى من تلك الأسئلة التي هي مثل في البطلان .
وحيث عجبوا من نزول القرآن منجما بين الله لهم الحق في ذلك ، فإن تحديهم به مفرقا مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز ، وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم : جيئوا بمثله ، ولهذا جاءت الآية عقب اعتراضهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة أي لا يأتونك بصفة عجيبة يطلبونها كنزول القرآن جملة إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وبما هو أبين معنى في إعجازهم ، وذلك بنزوله مفرقا ، ويشير إلى هذه الحكمة ما جاء ببعض الروايات في حديث ابن عباس عن نزول القرآن : " فكان المشركون إذا أحدثوا شيئا أحدث الله لهم جوابا “ .
الحكمة الثالثة : تيسير حفظه وفهمه
لقد نزل القرآن الكريم على أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة ، سجلها ذاكرة حافظة ، ليس لها دراية بالكتابة والتدوين حتى تكتب وتدون ، ثم تحفظ وتفهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ،
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157الذين يتبعون الرسول النبي الأمي فما كان للأمة الأمية أن تحفظ القرآن كله بيسر لو نزل جملة واحدة ، وأن تفهم معانيه وتتدبر آياته ، فكان نزوله مفرقا خير عون لها على حفظه في صدورها وفهم آياته ، كلما نزلت الآية أو الآيات حفظها الصحابة ،
[ ص: 106 ] وتدبروا معانيها ، ووقفوا عند أحكامها ، واستمر هذا منهجا للتعليم في حياة التابعين ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12179أبي نضرة قال : " كان
nindex.php?page=showalam&ids=44أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة ، وخمس آيات بالعشي ، ويخبر أن
جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات “ ، وعن
خالد بن دينار قال : " قال لنا
nindex.php?page=showalam&ids=11873أبو العالية : تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات ، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذه من
جبريل خمسا خمسا “ .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر قال : " تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات ، فإن
جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسا خمسا “ .
الحكمة الرابعة :
nindex.php?page=treesubj&link=29568مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع
فما كان الناس ليسلس قيادهم طفرة للدين الجديد لولا أن القرآن عالجهم بحكمه ، وأعطاهم من دوائه الناجع جرعات يستطبون بها من الفساد والرذيلة ، وكلما حدثت حادثة بينهم نزل الحكم فيها يجلي لهم صبحها ويرشدهم إلى الهدى ، ويضع لهم أصول التشريع حسب المقتضيات أصلا بعد آخر فكان هذا طبا لقلوبهم .
لقد كان القرآن الكريم بادئ ذي بدء يتناول أصول الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وجزاء وجنة ونار ، ويقيم على ذلك الحجج والبراهين حتى يستأصل من نفوس المشركين العقائد الوثنية ويغرس فيها عقيدة الإسلام .
وكان يأمر بمحاسن الأخلاق التي تزكو بها النفس ويستقيم عوجها ، وينهى عن الفحشاء والمنكر ليقتلع جذور الفساد والشر . ويبين قواعد الحلال والحرام التي يقوم عليها صرح الدين ، وترسو دعائمه في المطاعم والمشارب والأموال والأعراض والدماء .
ثم تدرج التشريع بالأمة في علاج ما تأصل في النفوس من أمراض اجتماعية .
[ ص: 107 ] بعد أن شرع لهم من فرائض الدين وأركان الإسلام ما يجعل قلوبهم عامرة بالإيمان ، خالصة لله ، تعبده وحده لا شريك له .
كما كان القرآن يتنزل وفق الحوادث التي تمر بالمسلمين في جهادهم الطويل لإعلاء كلمة الله .
ولهذا كله أدلته من نصوص القرآن الكريم إذا تتبعنا مكيه ومدنيه وقواعد تشريعه .
ففي
مكة شرعت الصلاة ، وشرع الأصل العام للزكاة مقارنا بالربا :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=38فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=39وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون .
ونزلت سورة الأنعام -وهي مكية- تبين أصول الإيمان ، وأدلة التوحيد ، وتندد بالشرك والمشركين ، وتوضح ما يحل وما يحرم من المطاعم ، وتدعو إلى صيانة حرمات الأموال والدماء والأعراض :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=152ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون .
ثم نزل بعد ذلك تفصيل هذه الأحكام .
فأصول المعاملات المدنية نزلت
بمكة ، ولكن تفصيل أحكامها نزل
بالمدينة كآية المداينة وآيات تحريم الربا .
وأسس العلاقات الأسرية نزلت
بمكة ، أما بيان حقوق كل من الزوجين ،
[ ص: 108 ] وواجبات الحياة الزوجية ، وما يترتب على ذلك من استمرار العشرة أو انفصامها بالطلاق ، أو انتهائها بالموت ثم الإرث ، أما بيان هذا فقد جاء في التشريع المدني .
وأصل الزنا حرم
بمكة :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=32ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ، ولكن العقوبات المترتبة عليه نزلت
بالمدينة .
وأصل حرمة الدماء نزل
بمكة :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=33ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولكن تفصيل عقوباتها في الاعتداء على النفس والأطراف نزل
بالمدينة .
وأوضح مثال لذلك
nindex.php?page=treesubj&link=32208التدرج في التشريع : تحريم الخمر .
فقد نزل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ، في مقام الامتنان بنعمه سبحانه - وإذا كان المراد بالسكر ما يسكر من الخمر ، وبالرزق ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالتمر والزبيب - وهذا ما عليه جمهور المفسرين - فإن وصف الرزق بأنه حسن دون وصف السكر يشعر بمدح الرزق والثناء عليه وحده دون السكر .
ثم نزل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ، فقارنت الآية بين منافع الخمر فيما يصدر عن شربها من طرب ونشوة أو يترتب على الاتجار بها من ربح ، ومضارها في إثم تعاطيها وما ينشأ عنه من ضرر في الجسم ، وفساد في العقل ، وضياع للمال وإثارة لبواعث الفجور والعصيان ، ونفرت الآية منها بترجيح المضار على المنافع .
ثم نزل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، فاقتضى هذا الامتناع عن شرب الخمر في الأوقات التي يستمر تأثيرها إلى وقت الصلاة ، حيث جاء النهي عن قربان الصلاة في حال السكر حتى يزول عنهم أثره ويعلموا ما يقولونه في صلاتهم .
ثم نزل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=90يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب [ ص: 109 ] والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=91إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون . فكان هذا تحريما قاطعا للخمر في الأوقات كلها :
ويوضح هذه الحكمة ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة -رضي الله عنها- قالت : إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء : " لا تشربوا الخمر " لقالوا : لا ندع الخمر أبدا ، ولو نزل : " لا تزنوا " لقالوا : " لا ندع الزنا أبدا “ .
وهكذا كان التدرج في تربية الأمة وفق ما يمر بها من أحداث ، فقد استشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحابته في أسرى بدر ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر : اضرب أعناقهم ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر : أرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء ، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برأي
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر ، فنزل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=67ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=68لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .
وأعجب المسلمون بكثرتهم يوم حنين حتى قال رجل : لن نغلب من قلة ، فتلقوا درسا قاسيا في ذلك ، ونزل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=25لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=26ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=27ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم .
[ ص: 110 ] ولما توفي
عبد الله بن أبي -رأس المنافقين- " دعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للصلاة عليه ، فقام عليه ، فلما وقف قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر : أعلى عدو الله
عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا ، والقائل كذا وكذا ؟ يعدد أيامه . ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبتسم ، ثم قال له : " إني قد خيرت ، قد قيل لي :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=80استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها " ثم صلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر : فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله ورسوله أعلم ، فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=84ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=85ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون فما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على منافق بعد حتى قبضه الله عز وجل “ .
وحين تخلف نفر من المؤمنين الصادقين في غزوة تبوك ، وأقاموا
بالمدينة ، ولم يجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديهم عذرا هجرهم وقاطعهم حتى ضاقوا ذرعا بالحياة ثم نزل القرآن لقبول توبتهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=117لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=118وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم . ويشير إلى هذا
[ ص: 111 ] ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في نزول القرآن : " ونزله
جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم “ .
الحكمة الخامسة : الدلالة القاطعة على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد .
5- الحكمة الخامسة : الدلالة القاطعة على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد .
إن هذا القرآن الذي نزل منجما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من عشرين عاما تنزل الآية أو الآيات على فترات من الزمن يقرؤه الإنسان ويتلو سوره فيجده محكم النسج ، دقيق السبك ، مترابط المعاني ، رصين الأسلوب ، متناسق الآيات والسور ، كأنه عقد فريد نظمت حباته بما لم يعهد له مثيل في كلام البشر :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ولو كان هذا القرآن من كلام البشر قيل في مناسبات متعددة ، ووقائع متتالية ، وأحداث متعاقبة ، لوقع فيه التفكك والانفصام ، واستعصى أن يكون بينه التوافق والانسجام :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
فأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهي في ذروة الفصاحة والبلاغة بعد القرآن الكريم- لا تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة يأخذ بعضه برقاب بعض في وحدة وترابط بمثل ما عليه القرآن الكريم أو ما يدانيه اتساقا وانسجاما . فكيف بكلام سائر البشر وأحاديثهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
"
حِكْمَةُ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا
نَسْتَطِيعُ أَنْ نَسْتَخْلِصَ
nindex.php?page=treesubj&link=28864حِكْمَةَ نُزُولِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مُنَجَّمًا مِنَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ . وَنُجْمِلُهَا فِيمَا يَأْتِي :
الْحِكْمَةُ الْأُولَى : تَثْبِيتُ فُؤَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1- الْحِكْمَةُ الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=30614تَثْبِيتُ فُؤَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
لَقَدْ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَوْتَهُ إِلَى النَّاسِ ، فَوَجَدَ مِنْهُمْ نُفُورًا وَقَسْوَةً ، وَتَصَدَّى لَهُ قَوْمٌ غِلَاظُ الْأَكْبَادِ فُطِرُوا عَلَى الْجَفْوَةِ ، وَجُبِلُوا عَلَى الْعِنَادِ ، يَتَعَرَّضُونَ لَهُ بِصُنُوفِ الْأَذَى وَالْعَنَتِ ، مَعَ رَغْبَتِهِ الصَّادِقَةِ فِي إِبْلَاغِهِمُ الْخَيْرَ الَّذِي يَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ ، حَتَّى قَالَ اللَّهُ فِيهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=6فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ، فَكَانَ الْوَحْيُ يَتَنَزَّلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْرَةً بَعْدَ فَتْرَةٍ ، بِمَا يُثَبِّتُ قَلْبَهُ عَلَى الْحَقِّ ، وَيُشْحِذُ عَزْمَهُ لِلْمُضِيِّ قُدُمًا فِي طَرِيقِ دَعْوَتِهِ ، لَا يُبَالِي بِظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ الَّتِي يُوَاجِهُهَا مِنْ قَوْمِهِ فَإِنَّهَا سَحَابَةُ صَيْفٍ عَمَّا قَرِيبٍ تُقْشَعُ.
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَهُ سُنَّتَهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ الَّذِينَ كُذِّبُوا وَأُوذُوا فَصَبَرُوا حَتَّى جَاءَهُمْ نَصْرُ
[ ص: 103 ] اللَّهِ ، وَأَنَّ قَوْمَهُ لَمْ يُكَذِّبُوهُ إِلَّا عُلُوًّا وَاسْتِكْبَارًا ، فَيَجِدُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي مَوْكِبِ النُّبُوَّةِ عَبْرَ التَّارِيخِ الَّتِي يَتَأَسَّى بِهَا تَسْلِيَةً لَهُ إِزَاءَ أَذَى قَوْمِهِ ، وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=33قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=34وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=184فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ .
وَيَأْمُرُهُ الْقُرْآنُ بِالصَّبْرِ كَمَا صَبَرَ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=35فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ .
وَيُطَمْئِنُ نَفْسَهُ بِمَا تَكَفَّلَ اللَّهُ بِهِ مِنْ كِفَايَتِهِ أَمْرَ الْمُكَذِّبِينَ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=10وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=11وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا ، وَهَذَا هُوَ مَا جَاءَ فِي حِكْمَةِ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْقُرْآنِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=120وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ، وَكُلَّمَا اشْتَدَّ أَلَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَكْذِيبِ قَوْمِهِ ، وَدَاخَلَهُ الْحُزْنُ لِأَذَاهُمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ دَعْمًا وَتَسْلِيَةَ لَهُ ، يُهَدِّدُ الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَحْوَالَهُمْ ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=76فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=65وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، كَمَا يُبَشِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِآيَاتِ الْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ وَالنَّصْرِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=67وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=3وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ،
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=21كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهُ قَوِيٌّ عَزِيزٌ .
[ ص: 104 ] وَهَكَذَا كَانَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ تَتَنَزَّلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِبَاعًا تَسْلِيَةً لَهُ بَعْدَ تَسْلِيَةٍ وَعَزَاءً بَعْدَ عَزَاءٍ ، حَتَّى لَا يَأْخُذَ مِنْهُ الْحُزْنُ مَأْخَذَهُ وَلَا يَسْتَبِدَّ بِهِ الْأَسَى ، وَلَا يَجِدَ الْيَأْسُ إِلَى نَفْسِهِ سَبِيلًا ، فَلَهُ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ أُسْوَةٌ ، وَفِي مَصِيرِ الْمُكَذِّبِينَ سَلْوَى ، وَفِي الْعِدَةِ بِالنَّصْرِ بُشْرَى ، وَكُلَّمَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْحُزْنِ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ تَكَرَّرَتِ التَّسْلِيَةُ فَثَبَتَ قَلْبُهُ عَلَى دَعْوَتِهِ ، وَاطْمَأَنَّ إِلَى النَّصْرِ.وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ هِيَ الَّتِي رَدَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى اعْتِرَاضِ الْكَفَّارِ فِي تَنْجِيمِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا .
قَالَ
أَبُو شَامَةَ: "فَإِنْ قِيلَ: مَا السِّرُّ فِي نُزُلِهِ مُنَجَّمًا؟ وَهَلَّا أُنْزِلَ كَسَائِرِ الْكُتُبِ جُمْلَةً؟ قُلْنَا: هَذَا سُؤَالٌ قَدْ تَوَلَّى اللَّهُ جَوَابَهُ ، فَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً يَعْنُونَ: كَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ ، فَأَجَابَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: "كَذَلِكَ" أَيْ أَنْزَلْنَاهُ مُفَرَّقًا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ أَيْ لِنُقَوِّيَ بِهِ قَلْبَكَ ، فَإِنَّ الْوَحْيَ إِذَا كَانَ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ كَانَ أَقْوَى لِلْقَلْبِ ، وَأَشَدَّ عِنَايَةً بِالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَثْرَةَ نُزُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ ، وَتَجَدُّدَ الْعَهْدِ بِهِ ، وَبِمَا مَعَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ الْوَارِدَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجَنَابِ الْعَزِيزِ ، فَيَحْدُثُ لَهُ مِنَ السُّرُورِ مَا تَقْصُرُ عَنْهُ الْعِبَارَةُ ، وَلِهَذَا كَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ لِكَثْرَةِ لُقْيَاهُ
جِبْرِيلَ".
2- الْحِكْمَةُ الثَّانِيَةُ : التَّحَدِّي وَالْإِعْجَازُ :
فَالْمُشْرِكُونَ تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ ، وَبَالَغُوا فِي عُتُوِّهِمْ ، وَكَانُوا يَسْأَلُونَ أَسْئِلَةَ تَعْجِيزٍ وَتَحَدٍّ يَمْتَحِنُونَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي نُبُوَّتِهِ ، وَيَسُوقُونَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ كُلَّ عَجِيبٍ مِنْ بَاطِلِهِمْ ، كَعِلْمِ السَّاعَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=187يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ، وَاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ :
[ ص: 105 ] nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=53وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ، فَيَتَنَزَّلُ الْقُرْآنُ بِمَا يُبَيِّنُ وَجْهَ الْحَقِّ لَهُمْ ، وَبِمَا هُوَ أَوْضَحُ مَعْنًى فِي مُؤَدَّى أَسْئِلَتِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=33وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ، أَيْ وَلَا يَأْتُونَكَ بِسُؤَالٍ عَجِيبٍ مِنْ أَسْئِلَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ إِلَّا أَتَيْنَاكَ نَحْنُ بِالْجَوَابِ الْحَقِّ ، وَبِمَا هُوَ أَحْسَنُ مَعْنًى مِنْ تِلْكَ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي هِيَ مَثَلٌ فِي الْبُطْلَانِ .
وَحَيْثُ عَجِبُوا مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ تَحَدِّيَهُمْ بِهِ مُفَرَّقًا مَعَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ أَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ ، وَأَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ جُمْلَةً وَيُقَالُ لَهُمْ : جِيئُوا بِمِثْلِهِ ، وَلِهَذَا جَاءَتِ الْآيَةُ عَقِبَ اعْتِرَاضِهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً أَيْ لَا يَأْتُونَكَ بِصِفَةٍ عَجِيبَةٍ يَطْلُبُونَهَا كَنُزُولِ الْقُرْآنِ جُمْلَةً إِلَّا أَعْطَيْنَاكَ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا يَحِقُّ لَكَ فِي حِكْمَتِنَا وَبِمَا هُوَ أَبْيَنُ مَعْنًى فِي إِعْجَازِهِمْ ، وَذَلِكَ بِنُزُولِهِ مُفَرَّقًا ، وَيُشِيرُ إِلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ مَا جَاءَ بِبَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ : " فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا أَحْدَثُوا شَيْئًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ جَوَابًا “ .
الْحِكْمَةُ الثَّالِثَةُ : تَيْسِيرُ حِفْظِهِ وَفَهْمِهِ
لَقَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لَا تَعْرِفُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ ، سَجِلُّهَا ذَاكِرَةٌ حَافِظَةٌ ، لَيْسَ لَهَا دِرَايَةٌ بِالْكِتَابَةِ وَالتَّدْوِينِ حَتَّى تَكْتُبَ وَتُدَوِّنَ ، ثُمَّ تَحْفَظَ وَتَفْهَمَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ فَمَا كَانَ لِلْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ أَنَّ تَحْفَظَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِيُسْرٍ لَوْ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً ، وَأَنْ تَفْهَمَ مَعَانِيَهُ وَتَتَدَبَّرَ آيَاتِهِ ، فَكَانَ نُزُولُهُ مُفَرَّقًا خَيْرَ عَوْنٍ لَهَا عَلَى حِفْظِهِ فِي صُدُورِهَا وَفَهْمِ آيَاتِهِ ، كُلَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ أَوِ الْآيَاتُ حَفِظَهَا الصَّحَابَةُ ،
[ ص: 106 ] وَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهَا ، وَوَقَفُوا عِنْدَ أَحْكَامِهَا ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا مَنْهَجًا لِلتَّعْلِيمِ فِي حَيَاةِ التَّابِعِينَ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12179أَبِي نَضْرَةَ قَالَ : " كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=44أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ بِالْغَدَاةِ ، وَخَمْسَ آيَاتٍ بِالْعَشِيِّ ، وَيُخْبِرُ أَنَّ
جِبْرِيلَ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ “ ، وَعَنْ
خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : " قَالَ لَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=11873أَبُو الْعَالِيَةِ : تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ
جِبْرِيلَ خَمْسًا خَمْسًا “ .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ قَالَ : " تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ ، فَإِنَّ
جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمْسًا خَمْسًا “ .
الْحِكْمَةُ الرَّابِعَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=29568مُسَايَرَةُ الْحَوَادِثِ وَالتَّدَرُّجُ فِي التَّشْرِيعِ
فَمَا كَانَ النَّاسُ لِيَسْلُسَ قِيَادُهُمْ طَفْرَةً لِلدِّينِ الْجَدِيدِ لَوْلَا أَنَّ الْقُرْآنَ عَالَجَهُمْ بِحُكْمِهِ ، وَأَعْطَاهُمْ مِنْ دَوَائِهِ النَّاجِعِ جُرُعَاتٍ يَسْتَطِبُّونَ بِهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالرَّذِيلَةِ ، وَكُلَّمَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ بَيْنَهُمْ نَزَلَ الْحُكْمُ فِيهَا يُجْلِي لَهُمْ صُبْحَهَا وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الْهُدَى ، وَيَضَعُ لَهُمْ أُصُولَ التَّشْرِيعِ حَسَبَ الْمُقْتَضَيَاتِ أَصْلًا بَعْدَ آخَرَ فَكَانَ هَذَا طِبًّا لِقُلُوبِهِمْ .
لَقَدْ كَانَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ يَتَنَاوَلُ أُصُولَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنْ بَعْثٍ وَحِسَابٍ وَجَزَاءٍ وَجَنَّةٍ وَنَارٍ ، وَيُقِيمُ عَلَى ذَلِكَ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ حَتَّى يَسْتَأْصِلَ مِنْ نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ الْعَقَائِدَ الْوَثَنِيَّةَ وَيَغْرِسَ فِيهَا عَقِيدَةَ الْإِسْلَامِ .
وَكَانَ يَأْمُرُ بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَزْكُو بِهَا النَّفْسُ وَيَسْتَقِيمُ عِوَجُهَا ، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لِيَقْتَلِعَ جُذُورَ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ . وَيُبَيِّنَ قَوَاعِدَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا صَرْحُ الدِّينِ ، وَتَرْسُو دَعَائِمُهُ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالدِّمَاءِ .
ثُمَّ تَدَرَّجَ التَّشْرِيعُ بِالْأُمَّةِ فِي عِلَاجِ مَا تَأَصَّلَ فِي النُّفُوسِ مِنْ أَمْرَاضٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ .
[ ص: 107 ] بَعْدَ أَنْ شَرَعَ لَهُمْ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ مَا يَجْعَلُ قُلُوبَهُمْ عَامِرَةً بِالْإِيمَانِ ، خَالِصَةً لِلَّهِ ، تَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ .
كَمَا كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ وَفْقَ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَمُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ فِي جِهَادِهِمُ الطَّوِيلِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ .
وَلِهَذَا كُلِّهِ أَدِلَّتُهُ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ إِذَا تَتَبَّعْنَا مَكِيِّهِ وَمَدَنِيِّهِ وَقَوَاعِدِ تَشْرِيعِهِ .
فَفِي
مَكَّةَ شُرِّعَتِ الصَّلَاةُ ، وَشُرِعَ الْأَصْلُ الْعَامُّ لِلزَّكَاةِ مُقَارَنًا بِالرِّبَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=38فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=39وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ .
وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ -وَهِيَ مَكِّيَّةٌ- تُبَيِّنُ أُصُولَ الْإِيمَانِ ، وَأَدِلَّةَ التَّوْحِيدِ ، وَتُنَدِّدُ بِالشِّرْكِ وَالْمُشْرِكِينَ ، وَتُوَضِّحُ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَطَاعِمِ ، وَتَدْعُو إِلَى صِيَانَةِ حُرُمَاتِ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=152وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ .
فَأُصُولُ الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ نَزَلَتْ
بِمَكَّةَ ، وَلَكِنَّ تَفْصِيلَ أَحْكَامِهَا نَزَلَ
بِالْمَدِينَةِ كَآيَةِ الْمُدَايَنَةِ وَآيَاتِ تَحْرِيمِ الرِّبَا .
وَأُسُسُ الْعَلَاقَاتِ الْأُسَرِيَّةِ نَزَلَتْ
بِمَكَّةَ ، أَمَّا بَيَانُ حُقُوقِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ ،
[ ص: 108 ] وَوَاجِبَاتُ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْعِشْرَةِ أَوِ انْفِصَامِهَا بِالطَّلَاقِ ، أَوِ انْتِهَائِهَا بِالْمَوْتِ ثُمَّ الْإِرْثِ ، أَمَّا بَيَانُ هَذَا فَقَدَ جَاءَ فِي التَّشْرِيعِ الْمَدَنِيِّ .
وَأَصْلُ الزِّنَا حُرِّمَ
بِمَكَّةَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=32وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا ، وَلَكِنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ نَزَلَتْ
بِالْمَدِينَةِ .
وَأَصْلُ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ نَزَلَ
بِمَكَّةَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=33وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ، وَلَكِنَّ تَفْصِيلَ عُقُوبَاتِهَا فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ نَزَلَ
بِالْمَدِينَةِ .
وَأَوْضَحُ مِثَالٍ لِذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=32208التَّدَرُّجِ فِي التَّشْرِيعِ : تَحْرِيمُ الْخَمْرِ .
فَقَدْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ بِنِعَمِهِ سُبْحَانَهُ - وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّكْرِ مَا يُسْكِرُ مِنَ الْخَمْرِ ، وَبِالرِّزْقِ مَا يُؤْكَلُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ - وَهَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ - فَإِنَّ وَصْفَ الرِّزْقِ بِأَنَّهُ حَسَنٌ دُونَ وَصْفِ السُّكْرِ يُشْعِرُ بِمَدْحِ الرِّزْقِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ دُونَ السُّكْرِ .
ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ، فَقَارَنَتِ الْآيَةُ بَيْنَ مَنَافِعِ الْخَمْرِ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْ شُرْبِهَا مِنْ طَرَبٍ وَنَشْوَةٍ أَوْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاتِّجَارِ بِهَا مِنْ رِبْحٍ ، وَمَضَارِّهَا فِي إِثْمِ تَعَاطِيهَا وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ ضَرَرٍ فِي الْجِسْمِ ، وَفَسَادٍ فِي الْعَقْلِ ، وَضَيَاعٍ لِلْمَالِ وَإِثَارَةٍ لِبَوَاعِثِ الْفُجُورِ وَالْعِصْيَانِ ، وَنَفَّرَتِ الْآيَةُ مِنْهَا بِتَرْجِيحِ الْمَضَارِّ عَلَى الْمَنَافِعِ .
ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ، فَاقْتَضَى هَذَا الِامْتِنَاعَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي يَسْتَمِرُّ تَأْثِيرُهَا إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ ، حَيْثُ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُمْ أَثَرُهُ وَيَعْلَمُوا مَا يَقُولُونَهُ فِي صَلَاتِهِمْ .
ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=90يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ [ ص: 109 ] وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=91إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ . فَكَانَ هَذَا تَحْرِيمًا قَاطِعًا لِلْخَمْرِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا :
وَيُوَضِّحُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ مَا رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ : إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ : " لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ " لَقَالُوا : لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا ، وَلَوْ نَزَلَ : " لَا تَزْنُوا " لَقَالُوا : " لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا “ .
وَهَكَذَا كَانَ التَّدَرُّجُ فِي تَرْبِيَةِ الْأُمَّةِ وَفْقَ مَا يَمُرُّ بِهَا مِنْ أَحْدَاثٍ ، فَقَدِ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَحَابَتَهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ : اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبُو بَكْرٍ : أَرَى أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُمْ وَأَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَأْيِ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبِي بَكْرٍ ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=67مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=68لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
وَأُعْجِبَ الْمُسْلِمُونَ بِكَثْرَتِهِمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ حَتَّى قَالَ رَجُلٌ : لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلَّةٍ ، فَتَلَقَّوْا دَرْسًا قَاسِيًا فِي ذَلِكَ ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=25لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=26ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=27ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مِنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
[ ص: 110 ] وَلَمَّا تُوُفِّيَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ -رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ- " دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، فَقَامَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا وَقَفَ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ : أَعَلَى عَدُوِّ اللَّهِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْقَائِلِ كَذَا وَكَذَا ، وَالْقَائِلِ كَذَا وَكَذَا ؟ يُعَدِّدُ أَيَّامَهُ . وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَبْتَسِمُ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : " إِنِّي قَدْ خُيِّرْتُ ، قَدْ قِيلَ لِي :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=80اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، فَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا " ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَشَى مَعَهُ حَتَّى قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ : فَعَجِبْتُ لِي وَلِجُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=84وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=85وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مُنَافِقٍ بَعْدُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ “ .
وَحِينَ تَخَلَّفَ نَفَرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَأَقَامُوا
بِالْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَجِدْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَدَيْهِمْ عُذْرًا هَجَرَهُمْ وَقَاطَعَهُمْ حَتَّى ضَاقُوا ذَرْعًا بِالْحَيَاةِ ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ لِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=117لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=118وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمُ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهِ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا
[ ص: 111 ] مَا رُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ : " وَنَزَّلَهُ
جِبْرِيلُ بِجَوَابِ كَلَامِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ “ .
الْحِكْمَةُ الْخَامِسَةُ : الدَّلَالَةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ .
5- الْحِكْمَةُ الْخَامِسَةُ : الدَّلَالَةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ .
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي نَزَلَ مُنَجَّمًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ عَامًا تَنْزِلُ الْآيَةُ أَوِ الْآيَاتُ عَلَى فَتَرَاتٍ مِنَ الزَّمَنِ يَقْرَؤُهُ الْإِنْسَانُ وَيَتْلُو سُوَرَهُ فَيَجِدُهُ مُحْكَمَ النَّسْجِ ، دَقِيقَ السَّبْكِ ، مُتَرَابِطَ الْمَعَانِي ، رَصِينَ الْأُسْلُوبِ ، مُتَنَاسِقَ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ ، كَأَنَّهُ عَقْدٌ فَرِيدٌ نُظِّمَتْ حَبَّاتُهُ بِمَا لَمْ يُعْهَدْ لَهُ مَثِيلٌ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ . وَلَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ قِيلَ فِي مُنَاسَبَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، وَوَقَائِعَ مُتَتَالِيَةٍ ، وَأَحْدَاثٍ مُتَعَاقِبَةٍ ، لَوَقَعَ فِيهِ التَّفَكُّكُ وَالِانْفِصَامُ ، وَاسْتَعْصَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ التَّوَافُقُ وَالِانْسِجَامُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا .
فَأَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهِيَ فِي ذِرْوَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ بَعْدَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ- لَا تَنْتَظِمُ حَبَّاتُهَا فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ سَلِسِ الْعِبَارَةِ يَأْخُذُ بَعْضُهُ بِرِقَابِ بَعْضٍ فِي وَحْدَةٍ وَتَرَابُطٍ بِمِثْلِ مَا عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَوْ مَا يُدَانِيهِ اتِّسَاقًا وَانْسِجَامًا . فَكَيْفَ بِكَلَامِ سَائِرِ الْبَشَرِ وَأَحَادِيثِهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا .
"