[ ص: 114 ]  -  8 - جمع القرآن وترتيبه  
يطلق جمع القرآن ويراد به عند العلماء أحد معنيين . . المعنى الأول : جمعه بمعنى حفظه ، وجماع القرآن : حفاظه ، وهذا المعنى هو الذي ورد في قوله تعالى في خطابه لنبيه -صلى الله عليه وسلم- وقد كان يحرك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا نزل عليه قبل فراغ جبريل  من قراءة الوحي حرصا على أن يحفظه : لا تحرك به لسانك لتعجل به  إن علينا جمعه وقرآنه  فإذا قرأناه فاتبع قرآنه  ثم إن علينا بيانه  ، عن  ابن عباس  قال : " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعالج من التنزيل شدة ، فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه ، يريد أن يحفظه ، فأنزل الله : لا تحرك به لسانك لتعجل به ، إن علينا جمعه وقرآنه قال : يقول إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه : فإذا قرأناه يقول : إذا أنزلناه عليك : فاتبع قرآنه فاستمع له وأنصت " ثم إن علينا بيانه " أن نبينه بلسانك . وفي لفظ : علينا أن نقرأه ، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إذا أتاه جبريل  أطرق -وفي لفظ : استمع- فإذا ذهب قرأه كما وعد الله . 
المعنى الثاني : جمع القرآن بمعنى كتابته كله ، مفرق الآيات والسور ، أو مرتب الآيات فقط ، وكل سورة ، في صحيفة على حدة ، أو مرتب الآيات والسور في صحائف مجتمعة تضم السور جميعا وقد رتب إحداها بعد الأخرى . 
1- " أ " جمع القرآن بمعنى حفظه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : 
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مولعا بالوحي ، يترقب نزوله عليه بشوق ، فيحفظه ويفهمه ، مصداقا لوعد الله : إن علينا جمعه وقرآنه  ، فكان بذلك أول  [ ص: 115 ] الحفاظ ، ولصحابته فيه الأسوة الحسنة ، شغفا بأصل الدين ومصدر الرسالة ، وقد نزل القرآن في بضع وعشرين سنة ، فربما نزلت الآية المفردة ، وربما نزلت آيات عدة إلى عشر ، وكلما نزلت آية حفظت في الصدور ، ووعتها القلوب ، والأمة العربية كانت بسجيتها قوية الذاكرة ، تستعيض عن أميتها في كتابة أخبارها وأشعارها وأنسابها بسجل صدورها . 
وقد أورد  البخاري  في صحيحه بثلاث روايات سبعة من الحفاظ ، هم :  عبد الله بن مسعود  ،  وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة  ،  ومعاذ بن جبل  ،  وأبي بن كعب  ،  وزيد بن ثابت  ، وأبو زيد بن السكن  ،  وأبو الدرداء   . 
1- عن  عبد الله بن عمرو بن العاص  قال :  " سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : " خذوا القرآن من أربعة : من  عبد الله بن مسعود  ،  وسالم  ، ومعاذ  ،  وأبي بن كعب  “ ، وهؤلاء الأربعة : اثنان من المهاجرين هما :  عبد الله بن مسعود   وسالم  ، واثنان من الأنصار هما :  معاذ   وأبي   . 
2- وعن  قتادة  قال :  " سألت  أنس بن مالك   : من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أربعة ، كلهم من الأنصار :  أبي بن كعب  ،  ومعاذ بن جبل  ،  وزيد بن ثابت  ، وأبو زيد  ، قلت : من أبو زيد  ؟ قال : أحد عمومتي “  . 
3- وروي من طريق  ثابت  عن  أنس  كذلك قال : " مات النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يجمع القرآن غير أربعة :  أبو الدرداء  ،  ومعاذ بن جبل  ،  وزيد بن ثابت  ، وأبو زيد  “  . 
وأبو زيد  المذكور في هذه الأحاديث جاء بيانه فيما نقله ابن حجر  بإسناد على شرط  البخاري  عن  أنس   : أن أبا زيد  الذي جمع القرآن اسمه : قيس بن السكن  ، قال : وكان رجلا منا من بني عدي بن النجار  أحد عمومتي ، ومات ولم يدع عقبا ونحن ورثناه . 
 [ ص: 116 ] وبين ابن حجر  في ترجمة سعيد بن عبيد  أنه من الحفاظ ، وأنه كان يلقب بالقارئ . 
وذكر هؤلاء الحفاظ السبعة . أو الثمانية ، لا يعني الحصر ، فإن النصوص الواردة في كتب السير والسنن تدل على أن الصحابة كانوا يتنافسون في حفظ القرآن ، ويحفظونه أزواجهم وأولادهم . ويقرءون به في صلواتهم بجوف الليل ، حتى يسمع لهم دوي كدوي النحل ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمر على بيوت الأنصار ، ويستمع إلى ندى أصواتهم بالقراءة في بيوتهم ، عن  أبي موسى الأشعري   : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له : " لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك ؟ لقد أعطيت مزمارا من مزامير داود “ . 
وعن  عبد الله بن عمرو  قال : جمعت القرآن ، فقرأت به كل ليلة ، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : " اقرأه في شهر “  . 
وعن  أبي موسى الأشعري   -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " إني لأعرف رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل ، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار “  . 
ومع حرص الصحابة على مدارسة القرآن  واستظهاره فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يشجعهم على ذلك ، ويختار لهم من يعلمهم القرآن ، عن  عبادة بن الصامت  قال :  " كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رجل منا يعلمه القرآن ، وكان يسمع لمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضجة بتلاوة القرآن ، حتى أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا “  . 
فهذا الحصر للسبعة المذكورين من  البخاري  بالروايات الثلاث الآنفة الذكر محمول  [ ص: 117 ] على أن هؤلاء هم الذين جمعوا القرآن كله في صدورهم  ، وعرضوه على النبي -صلى الله عليه وسلم- واتصلت بنا أسانيدهم ، أما غيرهم من حفظة القرآن   -وهم كثر- فلم يتوافر فيهم هذه الأمور كلها ، لا سيما وأن الصحابة تفرقوا في الأمصار ، وحفظ بعضهم عن بعض ، ويكفي دليلا على ذلك أن الذين قتلوا في بئر معونة من الصحابة كان يقال لهم القراء ، وكانوا سبعين رجلا كما في الصحيح ، قال القرطبي   : " قد قتل يوم اليمامة  سبعون من القراء وقتل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ببئر معونة  مثل هذا العدد " وهذا هو ما فهمه العلماء وأولوا به الأحاديث الدالة على حصر الحفاظ في السبعة المذكورين ، قال  الماوردي  معلقا على رواية  أنس   : " لم يجمع القرآن غير أربعة " : " لا يلزم من قول  أنس   : لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك ، لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه ، وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده ، وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا في غاية البعد في العادة ، وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك ، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه ، بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى “ . 
 والماوردي  بهذا ينفي الشبه التي توهم قلة عدد الحفاظ بأسلوب مقنع ، ويبين الاحتمالات الممكنة لصيغة الحصر في حديث  أنس  بيانا شافيا . 
وقد ذكر  أبو عبيد  في كتاب " القراءات " القراء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فعد من المهاجرين : الخلفاء الأربعة ،  وطلحة  ،  وسعدا  ،  وابن مسعود  ،  وحذيفة  ،  [ ص: 118 ]  وسالما  ،  وأبا هريرة  ،  وعبد الله بن السائب  ، والعبادلة ،  وعائشة  ،  وحفصة  ،  وأم سلمة   . ومن الأنصار :  عبادة بن الصامت   . ومعاذا الذي يكنى أبا حليمة  ، ومجمع بن جارية  ، وفضالة بن عبيد  ،  ومسلمة بن مخلد  ، وصرح بأن بعضهم إنما كمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم . 
وذكر الحافظ الذهبي  في " طبقات القراء " أن هذا العدد من القراء هم الذين عرضوه على النبي -صلى الله عليه وسلم- واتصلت بنا أسانيدهم ، وأما من جمعه منهم ولم يتصل بنا سندهم فكثير . 
ومن هذه النصوص يتبين لنا أن حفظة القرآن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا جمعا غفيرا ، فإن الاعتماد على الحفظ في النقل من خصائص هذه الأمة ، قال ابن الجزري  شيخ القراء في عصره : " إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور ، لا على خط المصاحف والكتب أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة " . 
"
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					