[ ص: 249 ] - 17 - إعجاز القرآن
هذا الكون الفسيح الذي يعج بمخلوقات الله تضاءلت جباله الشامخة ، وبحاره الزاخرة ، ومهاده الواسعة ، أمام مخلوق ضعيف هو الإنسان ، ذلك لما جمع الله فيه من خصائص ، وما منحه من قوة التفكير التي تشع في الأرجاء لتسخر عناصر القوى الكونية ، وتجعلها في خدمة الإنسانية . وما كان الله ليذر هذا الإنسان دون أن يمده بقبس من الوحي بين فترة وأخرى يقوده إلى معالم الهدى ليسلك دروب الحياة على بينة وبصيرة ، إلا أن غلواءه الفطري يأبى عليه الخضوع لقرينه من بني الإنسان ما لم يأت له بما لا يستطيع حتى يعترف ويخضع ويؤمن بقدرة عليا فوق قدرته ، فكان رسل الله الذين يتنزل عليهم الوحي ويؤيدهم الله بخوارق العادات التي تقيم الحجة على الناس فيعترفون أمامها بالعجز ، ويدينون لها بالولاء والطاعة ، ولكن العقل البشري كان في أطوار نموه الأولى لا يرى شيئا يأخذ بلبه أقوى من المعجزات الكونية الحسية حيث لا يرقى عقله إلى السمو في المعرفة والتفكير ، فناسب هذا أن يبعث كل رسول إلى قومه خاصة ، وأن تكون معجزته فيما نبغ فيه قومه خارقة لما ألفوه ليتحقق بعجزهم عنها إيمانهم بأنها من قوى السماء ، فلما اكتمل العقل البشري أذن الله بفجر الرسالة المحمدية الخالدة إلى الناس كافة ، وكانت معجزتها معجزة العقل البشري في أرقى تطورات نضجه ونموه ، فحيث كان تأييد الله لرسله السابقين بآيات كونية تبهر الأبصار ولا سبيل للعقل في معارضتها . كمعجزة اليد والعصا لموسى ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى ، كانت معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر مشرف على العلم معجزة عقلية تحاج العقل البشري وتتحداه إلى الأبد ، وهي معجزة القرآن بعلومه ومعارفه ، وأخباره الماضية والمستقبلة ، فالعقل الإنساني على تقدمه لا يعجز عن معارضته لأنه آية كونية لا قبل له بها . ولكن عجزه لقصوره الذاتي . فيكون هذا اعترافا منه بأنه وحي الله إلى رسوله ، وأن حاجته إلى الاهتداء [ ص: 250 ] به ماسة ليستقيم عوجه ، وترقى مواهبه . وهذا المعنى ، هو ما يشير إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله : . " ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا “
وهكذا كتب الله لمعجزة الإسلام الخلود ، فضعفت القدرة الإنسانية مع تراخي الزمن وتقدم العلم عن معارضتها .
والحديث عن إعجاز القرآن ضرب من الإعجاز لا يصل الباحث فيه إلى سر جانب منه حتى يجد وراءه جوانب أخرى يكشف عن سر إعجازها الزمن . فهو كما يقول الرافعي : " ما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة ، وتعاوروه من كل ناحية ، وأخلقوا جوانبه بحثا وتفتيشا ، ثم هو بعد لا يزال عندهم على كل ذلك خلقا جديدا ، ومراما بعيدا " .
"