الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله هو ترك الأكل والشرب والجماع من الصبح إلى الغروب بنية من أهله ) أي الصوم في الشرع الإمساك عن المفطرات الثلاث حقيقة أو حكما في وقت مخصوص من شخص مخصوص مع النية وإنما فسرنا الترك بالإمساك المذكور في كلام القدوري ليكون فعل المكلف [ ص: 279 ] ; لأنه لا تكليف إلا بفعل حتى قالوا : إن المكلف به في النهي كف النفس لا ترك الفعل ; لأنه لا تكليف إلا بمقدور ، والمعدوم غير مقدور ; لأن تفسير القادر بمن إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل لا ، وإن شاء ترك ، وتمامه في تحرير الأصول وقلنا حقيقة وحكما ليدخل من أفطر ناسيا فإنه ممسك حكما واختص الصوم باليوم لتعذر الوصال المنهي عنه ، وكونه على خلاف العادة وعليه مبنى العبادة ; إذ ترك الأكل بالليل معتاد واشترطت النية لتمييز العبادة عن العادة كما سيأتي

                                                                                        وأراد بالأهل من اجتمعت فيه شروط الصحة وتقدم أنها ثلاثة فخرج الكافر والحائض والنفساء والمراد باشتراط الطهارة عن الحيض والنفاس اشتراط عدمهما إلا أن يكون المراد منها الاغتسال كذا في النهاية والمراد بترك الأكل ترك إدخال شيء بطنه أعم من كونه مأكولا أو لا لما سيأتي من إبطاله بإدخال نحو الحديد ، ولا يرد ما وصل إلى الدماغ فإنه مفطر كما سيأتي لما أن بين الدماغ والجوف منفذا فما وصل إلى الدماغ وصل إلى الجوف كما صرح به في البدائع على ما سيأتي ، وفي البزازية استنشق فوصل الماء إلى فمه ، ولم يصل إلى دماغه لا يفسد صومه ( قوله وصح صوم رمضان والنذر المعين والنفل بنية من الليل إلى ما قبل نصف النهار ) شروع في بيان النية التي هي شرط الصحة لكل صوم ، وعرفها في المحيط بأن يعرف بقلبه أنه صوم ، ووقتها بعد الغروب ، ولا يجوز قبله ، والتسحر نية كذا في الظهيرية

                                                                                        ولم يتكلم على فرضية رمضان لما أنها من الاعتقادات لا لفقه لثبوتها بالقطعي المتأيد بالإجماع ; ولهذا يحكم بكفر جاحده وكانت فرضيته بعد ما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة ، وهو في الأصل من رمض إذا احترق سمي به ; لأن الذنوب تحترق فيه ، وهو غير منصرف للعلمية والألف والنون قال الجوهري : يجمع على أرمضاء ورمضانات ، وقال الفراء : يجمع على رماضين كسلاطين وشياطين ، وقال ابن الأنباري : رماض جمع رمضان ، وتقدم حكم النذر أنه فرض على الأظهر والمراد بالنفل ما عدا الفرض ، والواجب أعم من أن يكون سنة أو مندوبا أو مكروها .

                                                                                        وأشار إلى أنه لو نوى عند الغروب لا تصح نيته ; لأنه قبل الوقت كما قدمناه ، وفي فتاوى الظهيرية : ولو نوى أن يتسحر في آخر الليل ثم يصبح صائما لم تصح هذه النية كما لو نوى بعد العصر صوم الغد ا هـ .

                                                                                        واستدل الطحاوي لعدم اشتراط التبييت في رمضان بحديث الصحيحين في يوم عاشوراء { من أكل فليمسك بقية يومه ، ومن لم يكن أكل فليصم } وكان صومه فرضا حتى فرض رمضان فصار سنة ففيه دليل على أن من تعين عليه صوم يوم ، ولم ينوه ليلا تجزئه النية نهارا فوجب حمل حديث السنن الأربعة { لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل } على نفي الكمال ; لأن الأفضل في كل صوم أن ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكنه أو من الليل كما في البدائع أو على أن المراد لم ينو كون الصوم من الليل فيكون الجار ، وهو من الليل متعلقا بصيام الثاني لا ينوي فحاصله لا صيام لمن لم يقصد أنه صائم من الليل أي من آخر أجزائه فيكون نفيا لصحة الصوم من حين نوى من النهار ، وعلى تقدير كونه لنفي الصحة وجب أن يخص عمومه بما روينا عندهم وعندنا لو كان قطعيا خص بعضه خصص به بعض فكيف ، وقد اجتمع فيه عدم الظنية والتخصيص ; إذ قد خصص منه النفل بحديث مسلم عن عائشة { دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : هل عندكم شيء فقلنا : لا فقال : إني إذا صائم }

                                                                                        فالحاصل أن صوم عاشوراء أصل وألحق به صوم رمضان ، والمنذور المعين في حكمه ، وهو عدم النية من الليل ، ومقتضاه إلحاق كل صوم واجب به لكن القياس إنما يصلح مخصصا للخبر لا ناسخا ، ولو جرينا على تمام لازم هذا القياس لكان ناسخا لحديث السنن ; إذ لم يبق تحته شيء حينئذ فوجب أن يحاذى به مورد النص ، وهو الواجب المعين من رمضان ونظيره [ ص: 280 ] من النذر المعين ، ولا يمكن أن يلغى قيد التعيين في مورد النص الذي رويناه فإنه حينئذ يكون إبطالا لحكم لفظ بلا لفظ بنص فيه ، وإنما اختص اعتبارها بوجودها في أكثر النهار ; لأن ما رويناه من حديث الصحيحين واقعة حال لا عموم لها في جميع أجزاء النهار ، واحتمل كون إجازة الصوم في تلك الواقعة لوجود النية فيها في أكثره واحتمل كونها للتجويز في النهار مطلقا في الواجب فقلنا بالأول ; لأنه أحوط خصوصا ، ومعنا نص السنن بمنعها من النهار مطلقا وعضده المعين ، وهو أن للأكثر من الشيء الواحد حكم الكل ، وإنما اختص بالصوم دون الحج والصلاة ، فإن قران النية فيهما شرط حقيقة أو حكما كالمتقدمة بلا فاصل ; لأن الصوم ركن واحد ممتد فبالوجود في آخره يعتبر قيامها في كله بخلافهما ، فإنهما أركان فيشترط قرانها بالعقد على أدائها ، وإلا خلت بعض الأركان عنها فلم يقع ذلك الركن عبادة

                                                                                        واعتبر المصنف النية إلى ما قبل نصف النهار ليكون أكثر اليوم منويا ; ولهذا عبر في الوافي بنية أكثره ، وهي أولى لما أن النهار يطلق في اللغة على زمن أوله طلوع الشمس كما في النهاية وغيرها لكن هو في الشرع واليوم سواء من طلوع الفجر ، وفي غاية البيان جعل أوله من طلوع الفجر لغة وفقها وعلى كل حال فهي أولى من عبارة القدوري ومختصر الكرخي والطحاوي ما بينه وبين الزوال ; لأن ساعة الزوال نصف النهار من طلوع الشمس ووقت الصوم من طلوع الفجر كذا في المبسوط والظاهر أن الاختلاف في العبارة لا في الحكم ، وفي الفتاوى الظهيرية : الصائم المتطوع إذا ارتد عن الإسلام ثم رجع إلى الإسلام قبل الزوال ونوى الصوم قال زفر لا يكون صائما ، ولا قضاء عليه إن أفطر ، وقال أبو يوسف : يكون صائما ، وعليه القضاء إذا أفطر ، وذكر بعده وعلى هذا الخلاف : إذا أسلم النصراني في غير رمضان قبل الزوال ، ونوى التطوع كان صائما عند أبي يوسف خلافا لزفر

                                                                                        وأطلق المصنف فأفاد أنه لا فرق بين الصحيح والمريض والمقيم والمسافر ; لأنه لا تفصيل فيما ذكرنا من الدليل وقال زفر : لا يجوز الصوم للمسافر والمريض إلا بنية من الليل ; لأن الأداء غير مستحق عليهما فصار كالقضاء ورد بأنه من باب التغليظ ، والمناسب لهما التخفيف ، وفي فتاوى قاضي خان : مريض أو مسافر لم ينو الصوم من الليل في شهر رمضان ثم نوى بعد طلوع الفجر قال أبو يوسف : يجزئهما ، وبه أخذ الحسن قال صاحب الكشف الكبير : فهذا يشير إلى أن عند أبي حنيفة ومحمد لا يجزئهما ا هـ .

                                                                                        وهذه الإشارة مدفوعة بصريح المنقول من أن عندنا لا فرق كما ذكره في المبسوط والنهاية والولوالجية وغيرها

                                                                                        ( قوله وبمطلق النية ونية النفل ) أي صح صوم رمضان وما معه بمطلق النية وبنية النفل أما في رمضان فلأن الشارع عينه لفرض الصوم فانتفى شرعية غيره من الصيام فيه فلم يشترط له نية التعيين فصح بنية صوم مباين له كالنفل والكفارات بناء على لغو الجهة التي عينها فيبقى الصوم المطلق ، وبمطلق النية يصح صومه كالأخص نحو زيد يصاب بالأعم كيا إنسان وجمهور العلماء على خلافه قال في التحرير : وهو الحق ; لأن نفي شرعية غيره إنما توجب صحته لو نواه ونفي صحة ما نواه [ ص: 281 ] من الغير لا يوجب وجود نية ما يصح ، وهو يصرح بقوله لم أرده بل لو ثبت لكان جبرا ، ولا جبر في العبادات وقولهم : الأخص يصاب بالأعم إنما يصح إذا أراد الأخص بالأعم ، ولو أراده لارتفع الخلاف ، وأعجب من هذا ما روي عن زفر أن التعيين شرعا يوجب الإصابة بلا نية ا هـ .

                                                                                        وقد يقال بأنه نوى أصل الصوم ووصفه ، والوقت لا يقبل الوصف فلغت نية الوصف ، وبقيت نية الأصل ; إذ ليس من ضرورة بطلان الوصف بطلان الأصل ، والإعراض إن ثبت فإنما هو في ضمن نية النفل أو القضاء وقد لغت بالاتفاق فيلغو ما في ضمنها ، ولا يلزم الجبر ; لأن معنى القربة في أصل الصوم يتحقق لبقاء الاختيار للعبد فيه ، ولا يتحقق في الصفة ; إذ لا اختيار له فيها فلا يتصور منه إبدال هذا الوصف بوصف آخر في هذا الزمان فيسقط اعتبار نية الصفة فعلم أنه لا يلزم الجبر إلا لو قلنا بوقوع الصوم من غير نية أصلا ، وما ألزمنا به الشافعي هنا من لزوم الجبر لزمه في الحج فإنه صححه فرضا بنية النفل فما هو جوابه فهو جوابنا ، وأما في النذر المعين فلأنه معتبر بإيجاب الله - تعالى ، وإنما قال : وبنية النفل ، ولم يقل : وبنية مباينة لما أن النفل لا يصح بنية واجب آخر بل يقع عما نوى ولما أن المنذور المعين لا يصح بنية واجب آخر بل يقع عما نوى بخلاف رمضان ، والفرق بينهما أن التعيين إنما جعل بولاية الناذر ، وله إبطال صلاحية ماله ، وهو النفل لا ما عليه ، وهو القضاء ونحوه ، ورمضان متعين بتعيين الشارع ، وليس له ولاية إبطال صلاحيته لغيره من الصيام لكن بقي عليه إفادة صحة رمضان بنية واجب آخر ويمكن أن يكون ذكر نية النفل إشارة إليه بجامع إلغاء الجهة لتعيينه ، وإذا وقع عما نوى فهل يلزمه قضاء المنذور المعين لا ذكر لها في ظاهر الرواية

                                                                                        والأصح وجوب القضاء كذا في الفتاوى الظهيرية ، ولا يرد عليه المسافر فإنه لو نوى واجبا آخر في رمضان يصح عند أبي حنيفة ويقع عما نوى لإثبات الشارع الترخص له ، وهو في الميل إلى الأخف ، وهو في صوم الواجب المغاير ; لأنه في ذمته ، وفرض الوقت لا يكون في ذمته إلا إذا أدرك عدة من أيام أخر ، وفي النفل عنه روايتان أصحهما عدم صحة ما نوى ، ووقوعه عن فرض الوقت ; لأن فائدة النفل الثواب ، وهو فرض الوقت أكثر كما لو أطلق النية كذا في التقرير فعلم بهذا أن المسافر يصح صومه عن رمضان بمطلق النية وبنية النفل على الأصح فيهما مع وجود الروايتين فيهما ; فلهذا لم يستثنه في المختصر وأما المريض إذا نوى واجبا آخر أو نفلا ففيه ثلاثة أقوال فقيل يقع عن رمضان ; لأنه لما صام التحق بالصحيح واختاره فخر الإسلام وشمس الأئمة وجمع وصححه صاحب المجمع

                                                                                        وقيل يقع عما نوى كالمسافر واختاره صاحب الهداية وأكثر المشايخ ، وقيل بأنه ظاهر الرواية ، وينبغي أن يقع عن رمضان في النفل على الصحيح كالمسافر على ما قدمناه ، وقيل بالتفصيل بين أن يضره الصوم فتتعلق الرخصة بخوف الزيادة فيصير كالمسافر يقع عما نوى وبين أن لا يضره الصوم كفساد الهضم فتتعلق الرخصة بحقيقته فيقع عن فرض الوقت واختاره صاحب الكشف وتبعه المحقق في فتح القدير والتحرير

                                                                                        وتعقبه الأكمل في التقرير بأن المعلوم أن المريض [ ص: 282 ] الذي لا يضره الصوم غير مرخص له الفطر عند أئمة الفقه كما شهدت كتبهم بذلك فمن لا يضره الصوم صحيح ، وليس الكلام فيه ثم اعلم أنه وقع في عبارة القوم أصولا وفروعا أن رمضان يصح مع الخطأ في الوصف فذهب جماعة من المشايخ إلى أن مسألة نية الصوم النفل في رمضان من الصحيح المقيم إنما هي مصورة في يوم الشك بأن شرع بهذه النية ثم ظهر أنه من رمضان حتى يكون هذا الظن معفوا فأما لو وجدت في غيره يخشى عليه الكفر ; لأنه ظن أن الأمر بالإمساك المعين يتأدى بغيره وبمثل هذا الظن يخشى عليه الكفر كذا في التقرير ، وفي النهاية ما يرده فإنه قال في دليل الشافعي : إنه لو اعتقد المشروع في هذا الوقت أنه نفل يكفر ، وقال في رده : إنه لما لغا نية النفل لم تتحقق نية الإعراض ، وبه يبطل قوله : إنه لو اعتقد فيه أنه نفل يكفر ا هـ .

                                                                                        والحاصل أنه ملازم بين نية النفل واعتقاد عدم الفرضية أو ظنه فقد يكون معتقدا للفرضية ، ومع ذلك نوى النفل فلا يكون بنية النفل كافرا إلا إذا انضم إليها اعتقاد النفلية ، وكذا لا يخشى عليه الكفر إلا إذا انضم إليها الظن المذكور والله - سبحانه وتعالى - أعلم

                                                                                        ثم اعلم أن أبا حنيفة جرى على أصله في المواضع كلها من أن الأصل ينفك عن الوصف ; فلهذا قال : إذا بطلت صفة الفرضية في الصلاة لا يبطل أصلها وإذا بطلت الصفة في الصوم بقي أصله ، وإذا قال لها : أنت طالق كيف شئت وقع أصل الطلاق وكان الوصف مفوضا إليها وهما قالا في هذه المسألة بأن ما لا يقبل الإشارة من الأمور الشرعية فحاله ووصفه بمنزلة أصله فيتعلق الأصل بتعلقه فخالفا هذا الأصل في الصوم وخالفه أبو يوسف في الصلاة ; لأنه موافق لأبي حنيفة فيها وجرى عليه محمد في الصلاة فإنه قال ببطلان الأصل إذا بطل الوصف فيها وقد فرق بعضهم لمحمد بين الصوم والصلاة ورده الأكمل في تقريره وقال في بحث كيف أن أصلهما المذكور ليس بصحيح ; لأن صحته تستلزم انتفاء الفاسد على مذهبنا واللازم باطل ; لأن الأحكام عندنا تنقسم إلى جائز وفاسد وباطل ، بيان الملازمة أن الربا مثلا وسائر العقودات الفاسدة مشروعة بأصلها غير مشروعة بوصفها بالاتفاق ، وهي مما لا يقبل الإشارة فلو كان ما ذكرناه صحيحا لكان الأصل فيه مثل الوصف والوصف غير مشروع وما كان غير مشروع بحسب الأصل والوصف فهو باطل اتفاقا لا فاسد أو كان الوصف مثل الأصل والأصل مشروع فكان الربا جائزا لا فاسدا ، وهو باطل إجماعا ا هـ .

                                                                                        [ ص: 279 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 279 ] ( قوله : والمراد بترك الأكل إلخ ) قال في النهر بعيد ; لأن الصوم لا يختص بالكف عما يؤكل كما سيأتي بإفطاره بإدخال نحو الحديد فلو قال المصنف كما في الفتح : هو إمساك عن الجماع ، وعن إدخال شيء بطنا أو ما له حكم الباطن من الفجر إلى الغروب عن نية لكان أجود

                                                                                        [ ص: 280 ] ( قوله : وهي أولى إلخ ) قال في النهر الظاهر أن عبارة المصنف هنا أولى لإفادتها مبدأ النية وغايتها مع ظهور المراد منها بخلاف ما في أصله ; إذ ليس المراد أن نية أكثره كافية كما يعطيه ظاهره بل نية واقعة في أكثره ، وكان هذا هو السر في التغيير ، وأما ذاك الإطلاق فممنوع فقد نقل في غاية البيان عن الديوان أنه لغة أيضا من طلوع الصبح الصادق ، ولو سلم لا يضرنا ; إذ ألفاظ أهل كل فن إنما تصرف إلى ما تعارفوه ، وبهذا التقرير علمت أن تقييد النهار بالشرعي كما في النقاية مما لا حاجة إليه ( قوله : والظاهر أن الاختلاف في العبارة لا في الحكم ) هذا خلاف الظاهر يدل عليه قول الهداية ، وفي الجامع الصغير قبل نصف النهار ، وهو الأصح فإنه يفيد أن مقتضى ما في القدوري الجواز قبيل الزوال ، وأصرح من هذا ما في التتارخانية عن المحيط ، وإنما تظهر ثمرة الاختلاف بين اللفظين يعني قوله قبل الزوال وقوله قبل انتصاف النهار فيما إذا نوى عند قرب الزوال وعند استواء الشمس في كبد السماء فاللفظ الأول يدل على الجواز ، واللفظ الثاني يدل على عدم الجواز ، والصحيح هو اللفظ الثاني ا هـ . بحروفه .

                                                                                        ( تنبيه ) : اعلم أن كل قطر نصف نهاره قبل زواله بقدر نصف حصة فجره فمتى كان الباقي للزوال أكثر من هذا النصف صح وإلا فلا ففي مصر والشام تصح النية قبل الزوال بخمس عشرة درجة لوجود النية في أكثر النهار ; لأن نصف حصة الفجر لا تزيد على ثلاث عشرة درجة في مصر وأربع عشرة ونصف في الشام فإذا كان الباقي إلى الزوال أكثر من نصف هذه الحصة ، ولو بنصف درجة صح الصوم كذا حرره شيخ مشايخنا إبراهيم السائحاني رحمه الله تعالى

                                                                                        [ ص: 281 ] ( قوله : ويمكن أن يكون ذكر نية النفل إشارة إليه إلخ ) قال في النهر : فيه تدافع ; إذ بتقدير هذه الإشارة يكون النفل صفة كاشفة ، والصحة بالمغاير خاصة برمضان ، ولا دلالة في الكلام على اختصاص إصابة رمضان به ، وقوله الآتي فعلم بهذا إلخ يقتضي أن يكون قيدا فتدبره ، والصواب أن يجعل قيدا ، ولا دلالة في الكلام على إصابة رمضان بنية واجب آخر ، وإلى ذلك أشار الشارح بقوله : وكذا يجوز أيضا صوم رمضان بنية واجب آخر ، وعبارته في الوافي بالمقصود مما هنا أوفى حيث قال : وإن أطلق أو نوى واجبا آخر في غير نذر ونفل وسفر ، ويعلم منه الصحة فيما إذا نوى نفلا بالأولى ( قوله : وإذا وقع عما نوى إلى قوله كذا في الظهيرية ) يوجد في بعض النسخ ، والأنسب إسقاطه من هذا المحل ; لأن قوله : ولا يرد عليه ، وفي بعض النسخ لئلا يرد عليه من متعلقات قوله : ويمكن أن يكون إلخ ( قوله : وتعقبه الأكمل إلخ ) أقول : يظهر لي أن ما فهمه الأكمل ليس مرادا للقائلين بالتفصيل بل مرادهم أن المريض تارة يضره الصوم بأن يصير الصوم سببا لزيادة مرضه فهذا تتعلق الرخصة في حقه بخوف الزيادة فما دام يخافها يرخص له الفطر ، ولا يمكن إلحاقه بالصحيح بل هو كالمسافر لوجود الرخصة ، وتارة لا يضره الصوم ، وإنما حصل له من الضعف ما لا يقدر معه على أداء الصوم أصلا فهذا تتعلق الرخصة في حقه بحقيقة المرض أي ما دام هذا المرض الذي لا يمكنه معه الصوم أصلا يرخص له الفطر فإذا قدر على الصوم فقد زال المرخص فصار كالصحيح لا كالمسافر .

                                                                                        والحاصل أن المرض قسمان قسم يمكن معه الصوم لكنه يزداد به المرض فيباح فيه الفطر فهذا كالمسافر بجامع الإباحة مع الإمكان وقسم لا يمكن معه الصوم أصلا ، وإن كان الصوم لا يضره في نفس الأمر كفساد الهضم ، فإن الصوم ينفعه لكنه لو وصل في الضعف إلى حالة لا يمكنه الصوم يباح له الفطر ما دام على هذه الحالة حتى لو قدر بعدها فقد زال المبيح [ ص: 282 ] والتحق بالصحيح فيقع صومه عن رمضان فليس مرادهم بهذا القسم أن لا يضره الصوم مع القدرة عليه ، وإلا كان هذيانا من القول ; إذ لا يقول عاقل بإباحة الفطر له .




                                                                                        الخدمات العلمية