( قوله ثم إلى الموقف وقف بقرب الجبل ) أي ثم رح والمراد بالجبل جبل الرحمة ( قوله وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة ) لحديث { البخاري عرفات كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر وشعاب مكة كلها منحر } وفي المغرب عرنة واد بحذاء عرفات وبتصغيرها سميت عرينة ينسب إليها العرنيون
وذكر القرطبي في تفسيره أنها بفتح الراء وضمها بغربي مسجد عرفة حتى لقد قال بعض العلماء إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة ، وحكى الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل وعرنة في الحرم .
( قوله حامدا مكبرا مهللا ملبيا مصليا داعيا ) أي قف حامدا إلى آخره لحديث وغيره { مالك عرفة وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير } وكان عليه السلام يجتهد في الدعاء في هذا الموقف حتى روي عنه { أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة لأمته بالمغفرة فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم ثم أعاد الدعاء بالمزدلفة فأجيب حتى الدماء والمظالم } خرجه أنه عليه السلام دعا عشية وهو ضعيف ابن ماجه بالعباس بن مرداس فإنه منكر الحديث ساقط الاحتجاج كما ذكره الحفاظ لكن له شواهد كثيرة فمنها ما رواه بإسناد صحيح عن أحمد قال { ابن عباس عرفة فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 364 ] ابن أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره غفر له } ومنها ما رواه كان فلان ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مرفوعا { البخاري } من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه
ومنها ما رواه في صحيحه مرفوعا { مسلم } ومنها ما رواه أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله في الموطإ مرفوعا { مالك عرفة ، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رئي يوم بدر فإنه رأى جبريل يزع الملائكة } فإنها تقتضي تكفير الصغائر والكبائر ، ولو كانت من حقوق العباد لكن ذكر ما رئي الشيطان يوما هو أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم الأكمل في شرح المشارق أن الإسلام يهدم ما كان قبله أن المقصود أن الذنوب السالفة تحبط بالإسلام والهجرة والحج صغيرة كانت أو كبيرة ، وتتناول حقوق الله وحقوق العباد بالنسبة إلى الحربي حتى لو أسلم لا يطالب بشيء منها حتى لو كان قتل وأخذ المال وأحرزه بدار الحرب ثم أسلم لا يؤاخذ بشيء من ذلك وعلى هذا كان الإسلام كافيا في تحصيل مراده ولكن ذكر صلى الله عليه وسلم الهجرة والحج تأكيدا في بشارته وترغيبا في مبايعته فإن الهجرة والحج لا يكفران المظالم ، ولا يقطع فيهما بمحو الكبائر ، وإنما يكفران الصغائر
ويجوز أن يقال والكبائر التي ليست من حقوق العباد أيضا كالإسلام من أهل الذمة وحينئذ لا يشك أن ذكرهما كان للتأكيد ا هـ .
وهكذا ذكر الإمام الطيبي في شرح هذا الحديث ، وقال إن الشارحين اتفقوا عليه ، وهكذا ذكر الإمام النووي في شرح والقرطبي وذكر مسلم أن أهل السنة أجمعوا على أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة ، فالحاصل أن المسألة ظنية ، وأن الحج لا يقطع فيه بتكفير الكبائر من حقوق الله تعالى فضلا عن حقوق العباد وإن قلنا بالتكفير للكل فليس معناه كما يتوهمه كثير من الناس أن الدين يسقط عنه ، وكذا قضاء الصلوات والصيامات والزكاة إذ لم يقل أحد بذلك ، وإنما المراد أن إثم مطل الدين وتأخيره يسقط بعد الوقوف القاضي عياض بعرفة إذا مطل صار آثما الآن ، وكذا إثم تأخير الصلاة عن أوقاتها يرتفع بالحج لا القضاء ثم بعد الوقوف بعرفة يطالب بالقضاء فإن لم يفعل كان آثما على القول بفوريته ، وكذا البقية على هذا القياس وبالجملة فلم يقل أحد بمقتضى عموم الأحاديث الواردة في الحج كما لا يخفى .
وأشار بقوله ملبيا إلى الرد على من قال يقطعها إذا وقف ثم اعلم أن الوقوف ركن من أركان الحج كما قدمناه ، وهو أعظم أركانه للحديث الصحيح { عرفة } الحج شيئان : أحدهما كونه [ ص: 365 ] في أرض وشرطه عرفات .
الثاني أن يكون في وقته كما سيأتي بيانه وليس القيام من شرطه ولا من واجباته حتى لو كان جالسا جاز ; لأن الوقوف المفروض هو الكينونة فيه ، وكذا النية ليس من شرطه الامتداد إلى الغروب وأما وواجبه فالاغتسال للوقوف والخطبتان والجمع بين الصلاتين وتعجيل الوقوف عقيبهما ، وأن يكون مفطرا لكونه أعون على الدعاء وأن يكون متوضئا لكونه أكمل ، وأن يقف على راحلته وأن يكون مستقبل القبلة وأن يكون وراء الإمام بالقرب منه وأن يكون حاضر القلب فارغا من الأمور الشاغلة من الدعاء ، فينبغي أن يجتنب في موقفه طريق القوافل وغيرهم لئلا ينزعج بهم ، وأن يقف عند الصخرات السود موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن تعذر عليه يقف بقرب منه بحسب الإمكان وأما ما اشتهر عند العوام من الاعتناء بالوقوف عند سننه جبل الرحمة الذي هو بوسط عرفات ، وترجيحهم له على غيره فخطأ ظاهر ومخالف للسنة ، ولم يذكر أحد ممن يعتد به في صعود هذا الجبل فضيلة تختص به بل له حكم سائر أراضي عرفات غير موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أفضل إلا الطبري والماوردي في الحاوي فإنهما قالا باستحباب قصد هذا الجبل الذي يقال له جبل الدعاء . قال وهو موقف الأنبياء وما قالاه لا أصل له ولم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف
كذا ذكر النووي في شرح المهذب ومن السنة أن يكثر من الدعاء والتكبير والتهليل والتلبية والاستغفار وقراءة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وليحذر كل الحذر من التقصير في شيء من هذا فإن هذا اليوم لا يمكن تداركه ويكثر من التلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب ، وأن يكثر البكاء مع الذكر فهناك تسكب العبرات ، وتستقال العثرات وترتجى الطلبات ، وأنه لمجمع عظيم وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين وأوليائه المخلصين ، وهو أعظم مجامع الدنيا ، وقد قيل إذا وافق يوم [ ص: 366 ] عرفة يوم جمعة غفر لكل أهل الموقف وأنه أفضل من سبعين حجة في غير يوم جمعة كما ورد في الحديث ، وليحذر كل الحذر من المخاصمة والمشاتمة والمنافرة والكلام القبيح بل ومن المباح أيضا في مثل هذا اليوم .