( باب المسح على الخفين ) ذكره بعد التيمم ; لأن كلا منهما طهارة مسح وقدمه عليه لثبوته بالكتاب ، وهذا ثابت بالسنة على الصحيح كما سيأتي والمسح لغة إمرار اليد على الشيء واصطلاحا عبارة عن رخصة مقدرة جعلت للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها والخف في الشرع اسم للمتخذ من الجلد الساتر للكعبين فصاعدا وما ألحق به وسمي الخف خفا من الخفة ; لأن الحكم خف به من الغسل إلى المسح ثم يحتاج هنا إلى معرفة ستة أشياء :
أحدهما : أصل المسح .
والثاني : معرفة مدته .
والثالث : معرفة الخف الذي يجوز عليه المسح .
والرابع : معرفة ما ينتقض به المسح .
والخامس : معرفة حكمه إذا انتقض .
والسادس : معرفة صورته .
وقد ذكرها المصنف فبدأ بالأول فقال ( صح ) أي جاز والصحة في العبادات على ما في التوضيح كونها بحيث توجب تفريغ الذمة فالمعتبر في مفهومها اعتبارا أوليا إنما هو المقصود الدنيوي ، وهو تفريغ الذمة ، وإن كان يلزمها الثواب مثلا ، وهو المقصود الأخروي لكنه غير مقصود في مفهومه اعتبارا أوليا والوجوب كون الفعل بحيث لو أتى به يثاب ولو تركه يعاقب فالمعتبر في مفهومه اعتبارا أوليا هو المقصود الأخروي ، وإن كان يتبعه المقصود الدنيوي كتفريغ الذمة ونحوه ا هـ . المسح على الخفين
واختلف مشايخنا هل جوازه ثابت بالكتاب أو بالسنة فقيل بالكتاب عملا بقراءة الجر ، فإنها لما عارضت قراءة النصب حملت على ما إذا كان متخففا وحملت قراءة النصب على ما إذا لم يكن متخففا واختاره في غاية البيان وقال الجمهور : لم يثبت بالكتاب ، وهو الصحيح بدليل قوله { إلى الكعبين } ; لأن المسح غير مقدر بهذا بالإجماع والصحيح أن جوازه ثبت بالسنة كذا ذكره المصنف في المستصفى واختاره صاحب المجمع معللا بأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما ; لأن الخف اعتبر مانعا سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة وما حل بالخف أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة وحكما وحملوا قراءة الجر عطفا على المغسول والجر للمجاورة وقد جاءت السنة بجوازه قولا وفعلا حتى قال ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار وعنه أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين ; لأن الآثار التي جاءت فيه في حيز التواتر وقال أبو حنيفة خبر المسح يجوز نسخ الكتاب به لشهرته وقال أبو يوسف ليس في قلبي شيء من المسح فيه أربعون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رفعوا وما وقفوا وعن أحمد أدركت سبعين نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون المسح على الخفين ومن لم ير المسح عليهما جائزا من الصحابة فقد صح رجوعهم الحسن البصري كابن عباس وأبي هريرة وعائشة
وقال شيخ الإسلام الدليل على أن منكر المسح ضال مبتدع ما روي أن سئل عن مذهب أبا حنيفة أهل السنة والجماعة فقال هو أن تفضل الشيخين وتحب الختنين وترى المسح على الخفين ، وإنما لم يجعله واجبا ; لأن العبد مخير بين فعله وتركه كذا قالوا وينبغي أن يكون المسح واجبا في مواضع منها إذا يكفيه ، فإنه يتعين عليه المسح ومنها ما لو خاف خروج الوقت لو غسل رجليه ، فإنه يمسح ومنها إذا كان معه ماء لو غسل به رجليه لا يكفي وضوءه ولو مسح على الخفين بعرفة لو غسل رجليه ولم أر من صرح بهذا من أئمتنا لكني رأيته في كتب الشافعية وقواعدنا لا تأباه كما لا يخفى ولم يجعله مستحبا ; لأن من اعتقد جوازه ولم يفعله كان أفضل لإتيانه بالغسل إذ هو أشق على البدن قال في التوشيح ، وهذا مذهبنا وبه قال خاف فوت الوقوف [ ص: 174 ] الشافعي ورواه ومالك عن ابن المنذر عمر بن الخطاب عن والبيهقي أيضا وقال أبي أيوب الأنصاري الشعبي والحكم وحماد والإمام أبو الحسن الرستغفني من أصحابنا أن المسح أفضل ، وهو أصح الروايتين عن أما لنفي التهمة عن نفسه ; لأن الروافض أحمد والخوارج لا يرونه ، وأما للعمل بقراءة النصب والجر و عن أنهما سواء ، وهو اختيار أحمد احتج من فضل المسح بقوله عليه السلام في حديث ابن المنذر المغيرة بهذا أمرني ربي رواه أبو داود
والأمر إذا لم يكن للوجوب كان للندب ولنا حديث قال رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ذكره علي في صحيحه وكذا في حديث ابن خزيمة ذكر الرخصة والأخذ بالعزيمة أولى ، فإن قيل فهذه رخصة إسقاط لما عرف في أصول الفقه فينبغي أن لا يكون مشروعا ولا يثاب على إتيان العزيمة هاهنا إذ لا تبقى العزيمة مشروعة إذا كانت الرخصة للإسقاط كما في قصر الصلاة قلنا العزيمة لم تبق مشروعة ما دام متخففا أيضا والثواب باعتبار النزع والغسل ، وإذا نزع صارت مشروعة وسقط سبب الرخصة في حقه أيضا فكان هذا نظير من ترك السفر سقط عنه سبب رخصة سقوط القصر وليس لأحد أن يقول إن تارك السفر آثم ا هـ . صفوان
وهكذا أجاب النسفي وشراح الهداية وأكثر الأصوليين ومبنى السؤال على أنه رخصة إسقاط ومنعه الشارح الزيلعي رحمه الله وخطأهم في تمثيلهم به في الأصول ; لأن المنصوص عليه في عامة الكتب أنه لو خاض ماء بخفه فانغسل أكثر قدميه بطل المسح وكذا لو تكلف غسلهما من غير نزع أجزأه عن الغسل حتى لا يبطل بمضي المدة فعلم أن العزيمة مشروعة مع الخف ا هـ .
ودفعه المحقق العلامة في فتح القدير بأن مبنى هذه التخطئة على صحة هذا الفرع ، وهو منقول في الفتاوى الظهيرية لكن في صحته نظر ، فإن كلمتهم متفقة على أن الخف اعتبر شرعا مانعا سراية الحدث إلى القدم فتبقى القدم على طهارتها ويحل الحدث بالخف فيزال بالمسح وبنوا عليه منع المسح للمتيمم والمعذورين بعد الوقت وغير ذلك من الخلافيات ، وهذا يقتضي أن غسل الرجل في الخف وعدمه سواء إذا لم يبتل معه ظاهر الخف في أنه لم يزل به الحدث ; لأنه في غير محله فلا تجوز الصلاة به ; لأنه صلى مع حدث واجب الرفع إذ لو لم يجب والحال أنه لا يجب غسل الرجل جازت الصلاة بلا غسل ولا مسح فصار كما لو ترك ذراعيه وغسل محلا غير واجب الغسل كالفخذ ووزانه في الظهيرية بلا فرق لو وذكر فيها [ ص: 175 ] أنه لم يجز وليس إلا ; لأنه في غير محل الحدث والأوجه في ذلك الفرع كون الأجزاء إذا خاض النهر لابتلال الخف ثم إذا انقضت المدة إنما لا يتقيد بها لحصول الغسل بالخوض والنزع إنما وجب للغسل وقد حصل ا هـ . أدخل يده تحت الجرموقين فمسح على الخفين
وظاهره تسليم التخطئة لو صح الفرع وقد رد بعض المحققين التخطئة على تقدير صحة الفرع أيضا بأن هذا سهو وقع من الزيلعي ; لأن مرادهم بالمشروعية الجواز في نظر الشارع بحيث يترتب عليه الثواب لا أن يترتب عليه حكم من الأحكام الشرعية يدل عليه تنظيرهم بقصر الصلاة ، فإن أتى بالعزيمة بأن صلى أربعا وقعد على الركعتين يأثم مع أن فرضه يتم وتحقيق جوابه أن المترخص ما دام مترخصا لا يجوز له العمل بالعزيمة فإذا زال الترخص جاز له ذلك ، فإن المسافر ما دام مسافرا لا يجوز له الإتمام حتى إذا افتتحها بنية الأربع يجب قطعها والافتتاح بالركعتين لما سيأتي في صلاة المسافر فإذا افتتحها بنية ثنتين ونوى الإقامة أثناء الصلاة تحولت إلى الأربع فالمتخفف ما دام متخففا لا يجوز له الغسل حتى إذا تكلف وغسل رجليه من غير نزع أثم ، وإن أجزأه عن الغسل
وإذا نزع الخف وزال الترخص صار الغسل مشروعا يثاب عليه والعجب أن هذا مع وضوحه لمن تدرب في كتب الأصول كيف خفى على فحل من العلماء الفحول ا هـ .
واعلم أن العزيمة ما كان حكما أصليا غير مبني على أعذار العباد والرخصة ما بني على أعذار العباد ، وهو الأصح في تعريفهما عند الأصوليين كما عرف فيه .
واعلم أن في تتمة الفتاوى الصغرى وفي فتاوى الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه إذا ابتل قدمه لا ينتقض مسحه على كل حال ; لأن استتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى الرجل فلا يقع هذا غسلا معتبرا فلا يوجب بطلان [ ص: 176 ] المسح ويوافقه ما في شرح الزاهدي في سياق نقله عن البحر المحيط وعن أبي بكر العياضي لا ينتقض ، وإن بلغ الماء الركبة . ا هـ .
لكن ذكر في خير مطلوب إن وصل الكعب حتى صار جميع الرجل مغسولا يجب غسل الأخرى ، وإن لم يبلغ الكعب لا ينتقض مسحه لبس خفيه على الطهارة ومسح عليهما فدخل الماء إحداهما
وإن أصاب الماء أكثر إحدى رجليه اختلف فيه فقد علمت صحة ما بحثه المحقق في فتح القدير غير أنه أقر القائل بأنه إذا انقضت المدة ولم يكن محدثا لا يجب عليه غسل رجليه على هذا القول وتعقبه تلميذهالعلامة ابن أمير حاج بأنه يجب عليه غسل رجليه ثانيا إذا نزعهما أو انقضت المدة ، وهو غير محدث ; لأن عند النزع أو انقضاء المدة يعمل ذلك الحدث السابق عمله من السراية إلى الرجلين وقتئذ فيحتاج إلى مزيل له عنهما حينئذ للإجماع على أن المزيل لا يظهر عمله في حدث طارئ بعده فليتأمل ا هـ .
( قوله : ولو امرأة ) أي ولو لإطلاق النصوص وقد قدمنا أن الخطاب الوارد في أحدهما يكون واردا في حق الآخر ما لم ينص على التخصيص ، وأشار به إلى أنه يجوز للحاجة ولغيرها سفرا و حضرا كان الماسح امرأة
[ ص: 173 ]