الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : ولو قضى بنفقة الولاد والقريب ومضت مدة سقطت ) لأن نفقة هؤلاء تجب كفاية للحاجة حتى تجب مع اليسار ، وقد حصلت الكفاية بمضي المدة بخلاف نفقة الزوجة إذا قضى بها القاضي ; لأنها تجب مع يسارها فلا تسقط بحصول الاستغناء فيما مضى ولم أر من صرح بأنه يأثم ومقتضى وجوبها أنه يأثم بتركها إذا طلبها صاحبها وامتنع مع أنهم قالوا إنها لا تجب إلا بالقضاء أو الرضا كما قدمناه عن الذخيرة ; ولذا ليس لمن هي له أن يأخذها بغير قضاء ولا رضا وصرح الخصاف في أدب القاضي بأنها لا تجب إلا بالقضاء للاختلاف فيها واستشكله السروجي في الغاية من حيث إنهم جعلوا القاضي نفسه هو الذي أوجب هذه النفقة والقاضي ليس بمشرع وما ذاك إلا للنبي صلى الله عليه وسلم وانقطع من بعده فهو مشكل جدا وتبعه على ذلك الطرسوسي في أنفع الوسائل ، وقال لم قيل إن الوجوب يثبت بقوله تعالى { : وعلى الوارث مثل ذلك } فقضاء القاضي إعانة له كما في نفقة الأولاد كيف وأنهم قد استدلوا في أصل المسألة بهذه الآية على وجوب نفقة القريب وكلمة على للإيجاب ولا يعكر على هذا اختلاف [ ص: 234 ] العلماء ; لأن المسائل الاختلافية يعمل فيها على الاختلاف ولا يكون الاختلاف مؤثرا في عدم القبول فإن ذلك كان واجبا قبل القضاء كما قلنا في نفقة المبتوتة إنه يقضي بها باعتبار أنها ثابتة قبل القضاء والقضاء إعانة لا أن تعيين القاضي مثبت لها ، وكذا بقية المسائل الخلافية ولم يظهر لي الموجب لفرارهم من هذا ا هـ .

                                                                                        وفي البدائع أن شرط وجوب نفقة القريب الطلب والخصومة بين يدي القاضي في نفقة غير الولاد فلا تجب بدونه ; لأنها لا تجب بدون قضاء القاضي والقضاء لا بد له من الطلب والخصومة ا هـ .

                                                                                        وهو صريح في أن الطلب من غير أن يكون بين يدي القاضي لا يكون موجبا وأطلق المصنف في المدة وهي مقيدة بالكثيرة أما القليلة فلا تسقط وهي ما دون الشهر كما ذكره في الذخيرة وتبعها الشارحون ; لأنها لو سقطت بالمدة اليسيرة لما أمكنهم استيفاؤها وفي فتح القدير وكيف لا تصير القصيرة دينا والقاضي مأمور بالقضاء ، ولو لم تصر دينا لم يكن بالأمر بالقضاء فائدة ، ولو كان كلما مضى سقط لم يمكن استيفاء شيء ومثل هذا قدمناه في غير المفروضة من نفقات الزوجات ا هـ .

                                                                                        وأطلق في نفقة الولاد فشمل الأصول والفروع الصغار والكبار واستثنى في الذخيرة معزيا إلى الحاوي وأقره عليه الزيلعي نفقة الصغير فإنها تصير دينا على الأب بقضاء القاضي بخلاف نفقة سائر الأقارب وفي الواقعات ، وإذا فرض نفقة الأب أو الابن فلم يقبض سنين ، ثم أيسر أو مات تبطل ; لأن هذا صلة من وجه فلا يصير دينا من كل وجه ا هـ .

                                                                                        ولا يخفى أن تعليق البطلان على اليسار أو الموت ليس بقيد لما ذكرناه .

                                                                                        ( قوله إلا أن يأذن القاضي بالاستدانة ) يعني فلا تسقط بمضي المدة ; لأن القاضي له ولاية عامة فصار إذنه كأمر الغائب فتصير دينا في ذمته ، وقد أخل المصنف بقيد لا بد منه وهو الاستدانة والإنفاق مما استدانه كما قيده في المبسوط والنهاية وغيرهما حتى قالالطرسوسي ولقد غلط بعض الفقهاء هنا في مفهوم كلام صاحب الهداية ، وقال إذا أذن القاضي في الاستدانة ولم يستدن فإنها لا تسقط ، وهذا غلط ، بل معنى الكلام أذن القاضي في الاستدانة واستدان ا هـ .

                                                                                        قال في المبسوط فلو أنفق بعد الإذن [ ص: 235 ] بالاستدانة من ماله أو من صدقة تصدق بها عليه فلا رجوع له عليه لعدم الحاجة ا هـ .

                                                                                        وصرح في الذخيرة في نفقة الأولاد الصغار أنهم إذا أكلوا من مسألة الناس فلا رجوع لأمهم على الأب بشيء فلو أعطوا نصف الكفاية واستدانت الأم لهم النصف رجعت بما استدانت ، وقد قدمناه وأفاد المصنف بعدم سقوطها بعد الاستدانة المأذون فيها أنه لو مات من عليه النفقة بعد ذلك لا تسقط على الصحيح ، بل تؤخذ من تركته وأن دينها حينئذ مانع من وجوب الزكاة ; لأنه دين له مطالب من جهة العباد وفي الخانيةرجل غاب ولم يترك لأولاده الصغار نفقة ولأمهم مال تجبر الأم على الإنفاق ، ثم ترجع بذلك على الزوج ا هـ .

                                                                                        ولم يشترط الاستدانة ولا الإذن بها فيفرق بين ما إذا أنفقت عليهم من مالها وبين ما إذا أكلوا من المسألة وفي البزازية قالت الأم للقاضي افرض نفقة هذا الصغير على أبيه ومرني حتى أستدين عليه ففعله القاضي فإذا استدانت عليه وأيسر رجعت عليه فإن لم ترجع عليه حتى مات لا تأخذه من تركته في الصحيح وإن أنفقت عليه من مالها أو من المسألة من الناس لا ترجع على الأب ، وكذا في نفقة المحارم ا هـ .

                                                                                        ثم اعلم أن الممتنع من نفقة القريب المحرم بشروطه يضرب ولا يحبس بخلاف الممتنع [ ص: 236 ] من سائر الحقوق ; لأنه لا يمكن استدراك هذا الحق بالحبس ; لأنه يفوت بمضي الزمان فيستدرك بالضرب بخلاف سائر الحقوق ، كذا في البدائع .

                                                                                        [ ص: 234 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 234 ] ( قوله : ولم يظهر لي الموجب لفرارهم من هذا ) قال المقدسي في شرحه أقول : لعل الموجب لفرارهم قوة الاختلاف فإذا قوي قول المخالف راعوا خلافه واستعانوا بالحكم كما في الرجوع في الهبة وخيار البلوغ وغيرهما ا هـ .

                                                                                        وفي النهر وأجاب تاج الشريعة بأن معنى قولهم لا تجب أي لا يجب أداؤها أما نفس الوجوب فثابت عندنا وعلى هذا فقوله يكون إيجابا مبتدأ أي للأداء إلا أن مقتضاه جواز أخذ شيء ظفروا به من جنس النفقة وليس كذلك فتدبر . ا هـ .

                                                                                        وقال الرملي يجوز أن يجاب بأن معنى قولهم لا تجب أي لا تلزم إلا بالقضاء وإن كانت واجبة قبله ، وقد يلزم الشيء ولا يجب كالدين اللازم ذمة المعسر لا يلزم من لزومه ذمته وجوب أدائه عليه ، والفرق بين اللزوم والوجوب ظاهر وذلك للاختلاف ، وقد فرقوا بين القضاء بالمتفق عليه وبين القضاء بالمختلف فيه فالأول يعمل فيما سبق وفيما لحق كالقضاء بأن فلانا من ذرية الواقف ; لأنه كاشف والثاني لا يعمل فيما مضى ويعمل فيما يستقبل كالقضاء بدخول أولاد البنات في الوقف على أولاد الأولاد بعد مضي سنين ، وكذا في كثير من الفروع ، ولو تساوى المختلف فيه والمتفق عليه لما صح لهم فرض بينهما فالقضاء في المختلف يصيره على الوفاق ، والآية الشريفة محتملة لأن يكون المراد منها وارث الصبي ممن كان ذا رحم محرم منه أو عصابة أو وارث الأب وهو الصبي أي تمأن المرضعة من ماله إلى غير ذلك فلم تكن الآية نصا في المدعي ; ولذلك وقع الاختلاف ولا يلزم من وجوبها عليه حل التناول لوقوع الشبهة بالاختلاف وهي في باب الحرمة فنزلت منزلة اليقين خصوصا في الأموال وبقضاء القاضي ترتفع الشبهة ونظائر هذا كثير يعرفها من له ممارسة بالفقه تأمل . ا هـ . وهو نظير جواب المقدسي .

                                                                                        ( قوله : واستثنى في الذخيرة بالاستدانة إلخ ) أقول : ما يذكر المؤلف بعد أسطر عن الذخيرة يخالف هذا الاستثناء تأمل وظاهر كلام المؤلف أنه لم يرض بهذا الاستثناء تأمل .

                                                                                        ( قوله : بل معنى الكلام أذن القاضي في الاستدانة واستدان ) هذا يفيد أن القيد المتروك هو الاستدانة بعد الأمر بها لا الإنفاق مما استدان وفي النهر ، وهذا الإطلاق مقيد بما إذا وقعت الاستدانة بالفعل حتى لو أنفق من ماله أو من صدقة تصدق بها عليه فلا رجوع له لعدم الحاجة كذا في المبسوط وما في البحر من أنه مقيد أيضا بالإنفاق وعزاه إلى النهاية وغيرها ففيه نظر إذ لا أثر لإنفاقه مما استدانه حتى لو أنفق بعدما استدان من مال آخر ووفى مما استدانه لم تسقط أيضا والمذكور في الدراية عن الجامع أن نفقة المحارم تصير دينا بالقضاء ولا تسقط واختلف المشايخ فيه قبل ما ذكر في الجامع إذا استدان لنقضي له بالنفقة وأنفق فكانت الحاجة قائمة لقيام الدين وما ذكره في غيره إذا أنفق من غير الاستدانة ، بل أكل من الصدقة أو بالمسألة وإليه مال السرخسي في كتاب النكاح [ ص: 235 ] وقيل ما في سائر الكتب إذا طالت المدة وما في الجامع إذا قصرت .

                                                                                        ( قوله : ولم يشترط الاستدانة ولا الإذن بها إلخ ) قال الرملي هذا لا يقال إذا وضع المسألة أنه أمرها أن تنفق من مالها فكيف يناسب ذكر الاستدانة تأمل . ا هـ .

                                                                                        يعني : قوله تجبر معناه أن القاضي يلزمها بأن تنفق من مالها لترجع على زوجها قال المقدسي قلت : إذا أجبرت على الإنفاق عليهم كان ذلك متضمنا للإذن فترجع به وليس في أكلهم من المسألة ما يدل على الرجوع ، بل على ضده .

                                                                                        ( قوله : وفي البزازية قالت الأم للقاضي إلخ ) قال الرملي ظاهر سياقه أنه فهم مخالفته لما في الخانية وليس كذلك إذ ما في الخانية فيما إذا أمرها القاضي أن تنفق من مالها وترجع وما في البزازية أمرها بالاستدانة لا بالإنفاق من مالها وأمر القاضي يلزم لعموم ولايته فإذا فعلت ما أمرها القاضي ترجع وإن خالفت لا ترجع تأمل أقول : وإذا أمرها الأب بأن تنفق عليه وترجع بما أنفقت عليه جاز فإذا أنفقت من مالها أو استدانت وأنفقت عليه ترجع في تركته ; لأن ولايته على نفسه أولى من ولاية القاضي ، وهذا ظاهر قلته تفقها ويعلم من مسألة الأمر بالإنفاق على أولاده وزوجته ، وقد صرحوا بأن الصحيح الرجوع وإن لم يشترط الرجوع وأجمعوا على أنه لو شرط الرجوع رجع تأمل ، ثم رأيت بخط بعض المعاصرين نقلا عن المضمرات قال وفي المضمرات في الذخيرة ، وإذا كان الأب عاجزا عن الكسب ولا مال له ولا للصغير ذكر الخصاف أنه يفرض القاضي النفقة على الأب ، وكذا لو كان واجدا للنفقة فامتنع عن النفقة على الأولاد فإنه يفرض نفقة الأولاد على الأب ، ثم يأمر المرأة بالاستدانة حتى يثبت لها حق الرجوع على الأب .

                                                                                        ولو مات الأب قبل أن يؤدي إليها هذه النفقة هل لها أن تأخذ من ماله إن ترك مالا ذكر الخصاف في نفقاته أنها ليس لها ذلك وذكر في الأصل أن لها ذلك وهو الصحيح ; لأن استدانة المرأة بأمر القاضي وللقاضي ولاية كاملة بمنزلة استدانة الزوج بنفسه ، ولو استدان الزوج بنفسه ، ثم مات لا يسقط عنه الدين كذا هنا . ا هـ .

                                                                                        وهو مخالف لما صححه في البزازية والخلاصة ، وقد عزاها صاحب الذخيرة للحاوي ، وكذلك عزاها في التتارخانية للحاوي وأنت على علم أن تصحيح الخصاف لا يصادم تصحيح الأصل مع ما فيه من الإضرار بالنساء فينبغي أن يعول عليه ا هـ

                                                                                        أي : تصحيح الأصل أقوى ; لأنه من كتب ظاهر الرواية فالمعتمد الرجوع في تركته وفي شرح المقدسي ، ولو مات من عليه النفقة المستدانة بإذن لم تسقط في الصحيح فتؤخذ من تركته وإن صحح في الخلاصة خلافه ا هـ .

                                                                                        ( قوله : ثم اعلم أن الممتنع من نفقة القريب إلى قوله كذا في البدائع ) أقول : هذا سهو والظاهر أن منشأه سقط بعض الكلام من نسخته البدائع فإن الذي فيها ويحبس في نفقة الأقارب كما يحبس في نفقة الزوجات أما غير الأب فلا شك فيه ، وأما الأب فيحبس في نفقة الولد ولا يحبس في سائر ديونه ; لأن إيذاء الأب حرام في الأصل وفي الحبس إيذاؤه إلا أن في النفقة ضرورة وهي دفع الهلاك عن الولد إذ لو لم ينفق عليه لهلك فكان بالامتناع عن الإنفاق عليه كالقاصد إهلاكه فدفع قصده بالحبس ويتحمل هذا القدر من الإيذاء لهذه الضرورة ، وهذا المعنى لم يوجد في سائر الديون ; ولأن ها هنا ضرورة أخرى وهي استدراك هذا الحق أعني النفقة ; لأنها تسقط بمضي الزمان فتقع الحاجة إلى الاستدراك بالحبس ; لأنه يحمل على الأداء ، ولو لم يحبس يفوت حقهم رأسا فشرع الحبس في حقه لضرورة استدراك الحق صيانة له عن الفوات ، وهذا المعنى لم يوجد في سائر الديون ; لأنها لا تفوت بمضي الزمان فلا ضرورة إلى التدارك بالحبس ولهذا قال أصحابنا إن الممتنع من القسم يضرب ولا يحبس بخلاف سائر الحقوق ; لأنه لا يمكن استدراك هذا الحق بالحبس ; لأنه يفوت بمضي الزمان فيستدرك بالضرب بخلاف سائر الحقوق ا هـ . كلام البدائع وسيأتي [ ص: 236 ] في باب الحبس عن الخانية أنه يحبس أيضا .

                                                                                        ( قوله : كذا في البدائع ) قال المقدسي : قلت : يخالفه قول الكنز لا يحبس في دين ولده إلا إذا أبى عن الإنفاق عليه إلا أن يؤول بأن معناه لا يجبر بضرب إلا إذا أبى فيضرب .




                                                                                        الخدمات العلمية