الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : ويباع لو قال إن مت من سفري ، أو من مرضي ، أو إلى عشر سنين ، أو عشرين سنة ، أو أنت حر بعد موت فلان ويعتق إن وجد الشرط ) بيان للمدبر المقيد وأحكامه ، وحاصله أن يعلق عتقه بموته على صفة لا بمطلقة كتقييده بموته في سفر أو مرض مخصوص ، أو بمدة معينة يعيشان إلى مثلها ، أو بزيادة شيء بعد موت المولى كقوله : إذا مت وغسلت ، أو كفنت ودفنت فأنت حر فيعتق إذا مات استحسانا من الثلث ; لأنه يغسل ويكفن ويدفن عقيب الموت قبل أن يتقرر ملك الوارث ، أو بترداده بين الموت والقتل كقوله إذا مت أو قتلت فليس بمدبر مطلق عند أبي يوسف ; لأنه علقه بأحد الشيئين ، والقتل - وإن كان موتا - فالموت ليس بقتل وتعليقه بأحد الأمرين يمنع كونه عزيمة في أحدهما خاصة فلا يصير مدبرا ويجوز بيعه وقال زفر : هو مدبر مطلق ورجحه في فتح القدير بأنه أحسن ; لأن التعليق في المعنى بمطلق موته ; لأنه لا تردد في كون الكائن أحد الأمرين من الموت قتلا ، أو غير قتل فهو في المعنى مطلق الموت كيفما كان وقيد بقوله إلى عشر سنين أو عشرين سنة ; لأنه لو قال إلى مائة سنة - ومثله لا يعيش إليها في الغالب - فهو مدبر مطلق ; لأنه كالكائن لا محالة ، وهذا رواية الحسن عن أبي حنيفة ، وفي التبيين أنه المختار لكن ذكر قاضي خان أن على قول أصحابنا هو مدبر مقيد وهكذا ذكره في الينابيع وجوامع الفقه .

                                                                                        وفي فتح القدير أن المصنف كالمناقض فإنه في النكاح اعتبره توقيتا وأبطل به النكاح وهنا جعله تأبيدا موجبا للتدبير ا هـ .

                                                                                        وقد يجاب عنه بأنه في باب النكاح اعتبره توقيتا للنهي عن النكاح الموقت ولا شك أنه موقت صورة ; فالاحتياط في منعه تقديما للمحرم على المبيح ; لأن النظر إلى الصورة يحرمه ، وإلى المعنى يبيحه ، وأما هنا فنظر إلى التأبيد المعنوي ولا مانع منه فإن الأصل اعتبار المعنى ما لم يمنع مانع فلا تناقض ولذا كان هو المختار ، وإن كان الولوالجي جزم بأنه ليس بمدبر مطلق تسوية بينه وبين النكاح ، وفي الظهيرية لو قال : أنت حر قبل موتي بشهر كان مدبرا مقيدا فإن مضى شهر صار مدبرا مطلقا عند بعض المشايخ لتعلق العتق بمجرد الموت وعند البعض بقي مدبرا مقيدا لتعلق العتق بموته ومضي شهر يتصل بموته ا هـ .

                                                                                        وفي الخانية ولو مات بعد شهر قيل يعتق من الثلث وقيل من جميع المال ; لأن على قول أبي حنيفة يستند العتق إلى أول الشهر وهو كان صحيحا فيعتق من كله وهو الصحيح ا هـ .

                                                                                        وعلى قولهما يصير مدبرا بعد مضي الشهر قبل موته ا هـ .

                                                                                        وفي المجتبى لو قال : أنت حر قبل موتي بشهر فليس بمدبر ، وإن كان يعتق بعد موته ويجوز بيعه ، ثم إذا مضى شهر قيل لا يجوز بيعه ; لأنه صار مدبرا مطلقا ، وأكثر المشايخ على أنه يجوز بيعه وهو الأصح ا هـ .

                                                                                        وليس من التدبير أنت حر بعد موتي بيوم أو بشهر وهو إيصاء بالعتق حتى لا يعتق بعد موت المولى ومضي اليوم ما لم يعتقه الوصي ويجب إعتاقه فيعتقه الوصي أو الورثة كذا في المجتبى أيضا ، وفي الظهيرية : وإن أوصى بعتقه بعد موته فقتل العبد خطأ بعد موته فالقيمة للورثة ا هـ .

                                                                                        وقد ذكر المصنف أن من هذا النوع أنت حر بعد موت فلان ، وظاهره أنه مدبر مقيد وليس كذلك ولذا قال في المبسوط : لو قال : أنت حر بعد موت فلان [ ص: 291 ] لم يكن مدبرا ; لأن موت فلان ليس بسبب للخلافة في حق هذا المولى ، ووجوب حق العتق باعتبار معنى الخلافة فلو مات فلان والمولى حي عتق العبد وكذلك إن قال : أنت حر بعد موتي وموت فلان أو قال بعد موت فلان وموتي لا يكون مدبرا فإن مات فلان قبل المولى فحينئذ يصير مدبرا ا هـ .

                                                                                        وفي البدائع لو قال : إن مات فلان فأنت حر لم يكن مدبرا ; لأنه لم يوجد تعليق عتق عبده بموته فلم يكن هذا تدبيرا بل كان تعليقا بشرط مطلق كالتعليق بسائر الشروط من دخول الدار وكلام زيد وغير ذلك ا هـ .

                                                                                        فإن قلت : المصنف إنما ذكره في التدبير المقيد لمساواته لحكمه من جواز البيع والعتق بالموت . قلت : بينهما فرق من جهة أخرى وهو أن المدبر بقسميه يعتق من الثلث كما قدمناه ، والمعلق عتقه بشرط غير موت المولى يعتق من جميع المال إذا وجد الشرط ويبطل التعليق بموت المولى قبل وجود الشرط كما لو قال لعبده : إن دخلت الدار فأنت حر فمات المولى قبل الدخول بطلت اليمين ولا يعتق أصلا بخلاف المدبر ، وفي الظهيرية : عبد بين رجلين قال أحدهما : إن مت أنا وفلان - يعني شريكه - فأنت حر لم يكن مدبرا وكذلك لو قال الآخر مثل ذلك ، فإن مات أحدهما صار العبد مدبرا من الآخر ا هـ .

                                                                                        وإنما جاز بيع المدبر المقيد ; لأن سبب الحرية لم ينعقد في الحال لتردد في هذا القيد لجواز أن لا يموت منه فصار كسائر التعليقات بخلاف المدبر المطلق ; لأنه تعلق عتقه بمطلق الموت وهو كائن لا محالة وأفاد بقوله ويعتق إذا وجد الشرط أنه لا بد أن يموت في سفره هذا أو مرضه هذا ، أو في المدة المعينة فلو أقام ، أو صح ، أو مضت المدة ثم مات لم يعتق لبطلان اليمين قبل الموت .

                                                                                        وفي فتح القدير : من التدبير المقيد أن يقول : إن مت إلى سنة فأنت حر فإن مات قبل السنة عتق مدبرا ، وإن مات المولى بعد السنة لا يعتق ومقتضى الوجه كونه لو مات في رأس السنة يعتق ; لأن الغاية هنا لولاها تناول الكلام ما بعدها ; لأنه يتنجز عتقه فيصير حرا بعد السنة فتكون للإسقاط ا هـ .

                                                                                        وجوابه أن هذا الوجه ليس بمطرد لانتقاضه باليمين في قوله لا أكلمه إلى غد فإن الغاية لا تدخل في ظاهر الرواية فله أن يكلمه في الغد مع أنها غاية إسقاط وكذلك أكلت السمكة إلى رأسها لا تدخل الغاية مع أنه للإسقاط ، وفي المجتبى إن مت من مرضي هذا فهو حر فقتل لا يعتق بخلاف ما لو قال في مرضي ولو قال : إن مت من مرضي وبه حمى فتحول صداعا ، أو على عكسه قال محمد هو مرض واحد ا هـ .

                                                                                        ففرق بين : " من " ، و " في " وذكر الولوالجي : رجل قال لعبديه : أحدكما حر بعد موتي وأوصيت له بمائة درهم ، ثم مات عتقا ولهما المائة بينهما ; لأنه لما مات شاع العتق فيهما فتشيع الوصية أيضا ولو قال لكل واحد منهما مائة درهم تبطل إحدى المائتين لأنها وقعت لعبده ا هـ .

                                                                                        وبه علم أن من أوصى لعبده بقدر معين من ماله لا يكون مدبرا بخلاف الإيصاء له برقبته ، أو بسهم من ماله كما قدمناه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                        [ ص: 290 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 290 ] ( قوله : وقد ذكر المصنف أن من هذا النوع إلخ ) قال المقدسي : لم ينص المصنف ولا أصله على كونه مدبرا مقيدا إنما نفى ذلك عنه . [ ص: 291 ] ( قوله : وجوابه أن هذا الوجه إلخ ) نازعه المقدسي في شرحه بأن الغد اسم لزمان مستقبل دخلت عليه " إلى " التي للغاية وحكم ما بعدها يخالف سنة ; لأن السنة ليست في الحقيقة غاية فلا بد أن يقدر إلى مضي سنة وأيضا قوله : لا أكلمه إلى غد نفي وقوله : إن مت إثبات .

                                                                                        .



                                                                                        الخدمات العلمية