الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : فحلفه على ماض كذبا عمدا غموس ) بيان لأنواعها وهي ثلاثة كما في أكثر الكتب : الأول الغموس وهو أن يحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه سميت غموسا ; لأنها تغمس صاحبها في الذنب ، ثم في النار وسيأتي حكمها أطلق في الماضي فشمل الفعل والترك كما صرح به صدر الشريعة وقال فإن قلت : إذا قيل : والله إن هذا حجر كيف يصح أن يقال : إن هذا الحلف على الفعل قلت : تقدر كلمة كان أو يكون إذا أريد في الزمن الماضي أو المستقبل ، وقوله : كذبا عمدا حالان من الضمير في حلفه بمعنى كاذبا متعمدا ويصح أن يكونا صفتين لمصدر محذوف أي [ ص: 302 ] حلفا ، وفي المبسوط إن الغموس ليست بيمين حقيقة ; لأنها كبيرة محضة ، واليمين عقد مشروع ، والكبيرة ضد المشروع ولكن سميت يمينا مجازا ; لأن ارتكاب هذه الكبيرة بصورة اليمين كما سمي بيع الحر بيعا مجازا لوجود صورة البيع فيه ا هـ .

                                                                                        وقيد المصنف بالماضي في الغموس واللغو قالوا ويتأتيان أيضا في الحال ففي الغموس نحو والله ما لهذا علي دين وهو يعلم خلافه ، و والله إنه زيد وهو يعلم أنه عمرو ، وفي غاية البيان وما وقع من التقييد بالماضي فهو بناء على الغالب لأن الماضي شرط ا هـ .

                                                                                        وفي شرح الوقاية فإن قلت : الحلف كما يكون على الماضي والآتي يكون على الحال فلم لم يذكره أيضا وهو من أقسام الحلف قلت : إنما لم يذكره لمعنى دقيق وهو أن الكلام يحصل أولا في النفس فيعبر عنه باللسان فالإخبار المعلق بزمان الحال إذا حصل في النفس فعبر عنه باللسان فإذا تم التعبير باللسان انعقد اليمين فزمان الحال صار ماضيا بالنسبة إلى زمان انعقاد اليمين فإذا قال كتبت لا بد من الكتابة قبل ابتداء التكلم وأما إذا قال سوف أكتب فلا بد من الكتابة بعد الفراغ من التكلم يعني ابتداء الزمان الذي من ابتداء التكلم إلى آخره فهو زمان الحال بحسب العرف وهو ماض بالنسبة إلى آن الفراغ وهو آن انعقاد اليمين فيكون الحلف عليه الحلف على الماضي ا هـ .

                                                                                        وإنما لم يقل المصنف الأيمان ثلاثة كما قال غيره ; لأنها لا تنحصر في الثلاثة ; لأن اليمين على الفعل الماضي - صادقا - ليس منها ، وجواب صدر الشريعة بأن المراد حصر الأيمان التي يترتب عليها الأحكام ليس بدافع ; لأن هذه اليمين كاللغو لا إثم فيها فكان لها حكم .

                                                                                        ( قوله : وظنا لغو ) أي حلفه على ماض يظن أنه كما قال - والأمر بخلافه - لغو فقوله ظنا معطوف على كذبا سميت به ; لأنه لا اعتبار بها ، واللغو اسم لما لا يفيد يقال لغا إذا أتى بشيء لا فائدة فيه ، وفي المغرب اللغو الباطل من الكلام ومنه اللغو في الأيمان لما لا يعقد عليه القلب وقد لغا في الكلام يلغو ويلغي ولغا يلغي ومنه قوله : فقد لغوت وقد اختلف في تفسيره شرعا فذكر المصنف تبعا للهداية وكثير أنها الحلف على ماض يظن أنه كما قال من فعل ، أو ترك ، أو صفة والأمر بضده كقوله والله لقد دخلت الدار والله ما كلمت زيدا أو رأى طائرا من بعيد فظنه غرابا فقال والله إنه غراب ، أو قال إنه زيد وهو يظنه كذلك والأمر بخلافه في الكل ومن الصفات ما في الخلاصة رجل حلفه السلطان أنه لم يعلم بأمر كذا فحلف ، ثم تذكر أنه كان يعلم أرجو أن لا يحنث ا هـ .

                                                                                        وقدمنا أنها تكون في الحال أيضا ومثله في المجتبى بقوله والله إن المقبل زيد يظنه زيدا فإذا هو عمرو ، وفي البدائع قال أصحابنا : هي اليمين الكاذبة خطأ ، أو غلطا في الماضي ، أو في الحال وهو أن يخبر عن الماضي ، أو عن الحال على ظن أن المخبر به كما أخبر وهو بخلافه في النفي ، أو في الإثبات وهكذا روى ابن رستم عن محمد أنه قال : اللغو أن يحلف الرجل على الشيء وهو يرى أنه حق وليس بحق وقال الشافعي يمين اللغو هي اليمين التي لا يقصدها الحالف وهو ما يجري على ألسن الناس في كلماتهم من غير قصد اليمين من قولهم : لا والله وبلى والله سواء كان في الماضي ، أو في الحال ، أو المستقبل ، وأما عندنا فلا لغو في المستقبل بل اليمين على أمر في المستقبل يمين معقودة وفيها الكفارة إذا حنث قصد اليمين ، أو لم يقصد .

                                                                                        وإنما اللغو في الماضي والحال فقط وما ذكر محمد على إثر حكايته عن أبي حنيفة أن اللغو ما يجري بين الناس من قولهم لا والله وبلى والله فذلك محمول عندنا على الماضي ، أو الحال وعندنا ذلك لغو فيرجع حاصل الخلاف بيننا وبين الشافعي في يمين [ ص: 303 ] لا يقصدها الحالف في المستقبل فعندنا ليست بلغو وفيها الكفارة وعنده هي لغو ولا كفارة فيها ا هـ .

                                                                                        وهو أعم مما في المختصر باعتبار أن اليمين التي لا يقصدها الحالف في الماضي ، أو الحال جعلها لغوا وعلى تفسير المصنف لا تكون لغوا ; لأن الحلف على أمر يظنه كما قال لا يكون إلا عن قصد لا أن يقال إنه يكون لغوا بالأولى فلا مخالفة فالحاصل أن تفسيرنا اللغو أعم من تفسير الشافعي وأنا نقول بقول الشافعي إلا في المستقبل وذكر الإمام السرخسي في أصوله قال علماؤنا : اللغو ما يكون خاليا عن فائدة اليمين شرعا ووضعا فإن فائدة اليمين إظهار الصدق من الخبر فإن أضيف إلى خبر ليس فيه احتمال الصدق كان خاليا عن فائدة اليمين فكان لغوا وقال الشافعي : ما يجري على اللسان من غير قصد ، ولا خلاف في جواز إطلاق اللفظ على كل واحد منهما ولكن ما قلناه أحق واستدل بقوله تعالى { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } الآية ومعلوم أن مراد المشركين التعنت أي لم تقدروا على المغالبة بالحجة فاشتغلوا بما هو خال عن الفائدة من الكلام ليحصل مقصودكم بطريق المغالبة دون المحاجة ولم يكن مقصودهم التكلم بغير قصد قال صاحب التقويم : ولم يرد تكلموا من غير قصد فإن الأمر به لا يستقيم ا هـ .

                                                                                        وفي المحيط : والصحيح قولنا لأن اللغو من الكلام ما ليس بصواب ولا حسن فإن اللغو من الكلام القبيح الفاحش منه قال الله تعالى { لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما } أي كلاما قبيحا فاللغو هو الكلام القبيح الفاحش والخطأ الذي هو ضد العمد ليس بقبيح فاحش فلا يكون لغوا فأما ما ذكرنا فهو كلام قبيح فاحش فإنه كذب والكذب قبيح ; لأنه محظور ، وأما الخطأ فليس بمحظور ا هـ .

                                                                                        وفي الخلاصة والخانية واللغو لا يؤاخذ به صاحبه إلا في الطلاق والعتاق والنذر ، وفي فتاوى محمد بن الوليد لو قال إن لم يكن هنا فلان فعلي حجة ولم يكن وكان لا يشك أنه فلان لزمه ذلك ا هـ .

                                                                                        فقد علمت أن اليمين بالطلاق على غالب الظن إذا تبين خلافه موجب لوقوع الطلاق وقد اشتهر عن الشافعية خلافه . ( قوله : وأثم في الأولى دون الثانية ) أي أثم إثما عظيما كما في الحاوي القدسي في اليمين الأولى وهي يمين الغموس دون اليمين الثانية وهي يمين اللغو والإثم في اللغة الذنب وقد سمي الخمر إثما ، وفي الاصطلاح عند أهل السنة استحقاق العقوبة وعند المعتزلة لزوم العقوبة بناء على جواز العفو وعدمه كما أشار إليه الأكمل في تقريره في بحث الحقيقة في بحث { إنما الأعمال بالنيات } ، وإنما أثم في الأولى لحديث ابن حبان مرفوعا { من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم حرم الله عليه الجنة وأدخله النار } وفي الصحيحين { لقي الله وهو عليه غضبان } ، وفي سنن أبي داود قال قال النبي عليه السلام { من حلف على يمين مصبورة كاذبا فليتبوأ مقعده من النار } .

                                                                                        والمراد بالمصبورة الملزمة بالقضاء أي المحبوس عليها ; لأنها مصبور عليها كذا في فتح القدير ، والأولى الاستدلال بحديث البخاري عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم { قال الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس } فإنه أعم من أن يقتطع بها مال امرئ مسلم ، أو لا وقد صرح في غاية البيان وغيرها بأن اليمين الغموس كبيرة وهو أعم كما ذكرنا وينبغي أن تكون كبيرة إذا اقتطع بها مال امرئ مسلم ، أو أذاه وتكون صغيرة إذا لم يترتب عليها مفسدة ، وإنما لم يأثم في الثانية لقوله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } ولهذا جزم المصنف بعدم الإثم في اللغو لكن الإمام محمد بن الحسن لم يجزم به وإنما علقه بالرجاء فقال الأيمان ثلاثة يمين مكفرة ويمين غير مكفرة ويمين نرجو أن لا يؤاخذ بها الله تعالى صاحبها فاعترض عليه بأنه كيف يعلقه بالرجاء مع أنه مقطوع به فاختلف المشايخ في الجواب عنه ففي الهداية إلا أنه علقه بالرجاء للاختلاف في تفسيره ا هـ .

                                                                                        وتعقبه في فتح القدير بأن الأصح أن اللغو [ ص: 304 ] بالتفسيرين الأولين وكذا بالثالث متفق على عدم المؤاخذة في الآخرة وكذا بالدنيا بالكفارة فلم يتم العذر عن التعليق بالرجاء فالأوجه ما قيل إنه لم يرد به التعليق بل التبرك باسم الله تعالى والتأدب فهو كقوله عليه السلام لأهل المقابر { وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } وأما بالتفسير الرابع فغير مشهور وكونه لغوا هو اختيار سعيد ا هـ .

                                                                                        وأراد بالتفسيرين الأولين تفسيرنا وتفسير الشافعي وبالثالث ما عن الشعبي ومسروق لغو اليمين أن يحلف على معصية فينزل لاغيا بيمينه وبالرابع قول سعيد أن يحرم على نفسه ما أحل الله من قول أو عمل .

                                                                                        والحاصل أن الأولى الجزم كما فعل المصنف لقطعية الدليل كالجزم في نظائره مما في معناه اختلاف . .

                                                                                        [ ص: 302 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 302 ] ( قوله : لأن اليمين على الفعل الماضي صادقا ) مثل له في النهر بقوله : والله إني لقائم الآن - في حال قيامه - ولا يخفى أنه نص في الحال والصواب قول الفتح كوالله لقد قدم زيد أمس . ( قوله : فكان لها حكم ) قال في النهر : وفيه نظر ا هـ .

                                                                                        قال بعض الفضلاء الحق ما في البحر ولا وجه للنظر ا هـ .

                                                                                        وأجاب في الفتح عن الحصر بأن المراد أن الأقسام الثلاثة فيما يتصور فيه الحنث لا في مطلق اليمين ( قوله : خطأ ، أو غلطا ) الخطأ في الجنان ، والغلط في اللسان فإذا ظن أن الأمر كذا وحلف عليه ثم ظهر أنه بخلافه فهو الخطأ وإذا أراد أن يقول : والله إنه قائم فسبق لسانه وقال ليس بقائم فهو غلط تأمل . ( قوله : وما ذكر محمد إلخ ) قال في المجتبى بعدما نقل قول الشافعي المار وقال محمد : يمين اللغو ما يجري بين الناس من قولهم : لا والله وبلى والله وهو يقرر ما قاله الشافعي ا هـ .

                                                                                        ( قوله : وعندنا ذلك لغو إلخ ) إنما نسبه لأنه قول الإمام محمد وليس مراده أنه قول أئمتنا لما علمت من أن قول أبي حنيفة في اللغو هو ما عزاه إلى أصحابنا .

                                                                                        والحاصل أن قول أبي حنيفة الذي قاله أصحابنا إن اليمين اللغو هي ما يكون على الماضي ، أو الحال على ظن أن المخبر به كما قال وهو بخلافه وأن قول محمد هي ما يجري بين الناس من قولهم : لا والله وبلى والله كما قال الشافعي .

                                                                                        إلا أن الشافعي يقول إنها تكون على الاستقبال أيضا ومحمد لا يقول بذلك في الاستقبال فصار حاصل الخلاف بيننا وبين [ ص: 303 ] الشافعي بناء على قول محمد في يمين لا يقصدها الحالف في المستقبل فعند الشافعي هي لغو وعندنا أي عند محمد هي منعقدة ولها الكفارة هذا ما ظهر لي في تقرير كلام البدائع على وجه يندفع عنه التناقض ( قوله : وهو أعم مما في المختصر ) كان حق التعبير أن يقول وهو مباين لما في المختصر ; لأن ما في المختصر مشروط فيه القصد وما في البدائع عدم القصد . ( قوله : موجب لوقوع الطلاق ) ظاهره الوقوع قضاء وديانة ( قوله : وينبغي أن يكون كبيرة إلخ ) اعترضه في النهر بأن هذا التفصيل مناف لإطلاق الحديث المروي ، وقول شمس الأئمة إن إطلاق اليمين عليها مجاز ; لأنها عقد مشروع وهذه كبيرة محضة صريح فيه ، ومعلوم أن إثم الكبائر متفاوت ا هـ .

                                                                                        وفيه نظر ; لأن المؤلف معترف بإطلاق الحديث ولذا استدرك به على الفتح ومراده البحث في تقييده حيث لم يترتب مفسدة تستدعي كونها كبيرة ، وكون كلام شمس الأئمة صريحا فيما قاله في [ ص: 304 ] النهر غير ظاهر بل هو كالحديث تأمل . نعم بحث المؤلف محل تأمل ، وفي شرح المقدسي أي مفسدة أعظم من هتك حرمة اسم الله تعالى .

                                                                                        ( قوله : فالأوجه ما قيل إلخ ) قال في النهر وأقول : اختلف المتأخرون في المؤاخذة المنفية فقيل : هي المعاقبة في الآخرة وقيل هي المؤاخذة بالكفارة ، كذا في الكشاف وغيره ، والثاني أظهر بدليل ما بعده ولا شك أن تفسير اللغو على رأينا ليس أمرا مقطوعا به ; إذ الشافعي قائل بأن هذا من المنعقدة فلا جرم علقه بالرجاء وهذا معنى دقيق ولم أر من عرج عليه ا هـ .

                                                                                        ونظر بعضهم فيه بأن خلاف الشافعي بعد محمد فكيف يقال : إن محمدا علقه بالرجاء باعتباره وحينئذ فلا محيص عما قاله المحقق ابن الهمام ا هـ .

                                                                                        فالأنسب أن يقول في النهر كما قال بعض الفضلاء فحيث كان المنفي المؤاخذة بالكفارة كان اللغو بالنظر إلى حكم الآخرة مسكوتا عنه في الآية فلا نص عليه فلذا علقه بالرجاء وقد يقال أيضا : إن اجتهاد الإمام محمد بأن اللغو هو كذا ليس قطعيا نافيا لاجتهاد غيره بخلافه فحيث كان ما قاله محمد مبنيا على ظنه أنه هو اللغو لم يجزم بحكمه لاحتمال أن اللغو هو غيره تأمل .




                                                                                        الخدمات العلمية