ثم شرع المصنف رحمه الله في الكلام على السكنى ; لأنها تعقب الدخول ( قوله : لا يسكن هذه الدار أو البيت أو المحلة فخرج وبقي متاعه ، وأهله حنث ) ; لأنه يعد ساكنا ببقاء أهله ، ومتاعه فيها عرفا فإن السوقي في عامة نهاره في السوق ويقول أسكن ببلدة كذا والبيت والمحلة بمنزلة الدار والمحلة هي المسماة في عرفنا بالحارة قيد بالثلاثة والسكة كالمحلة ; لأنه لو كان اليمين على المصر أو البلدة لا يتوقف البر على نقل المتاع والأهل كما روي عن أبي يوسف ; لأنه لا يعد ساكنا في الذي انتقل عنه عرفا بخلاف الأول ، وهو المراد بقوله بخلاف المصر والقرية بمنزلة المصر في الصحيح من الجواب كما في الهداية ، وأطلق الساكن فشمل من يستقل بسكناه أو لا ، وهو مقيد بالمستقل ; لأن الحالف لو كان سكناه تبعا كابن كبير ساكن مع أبيه أو امرأة مع زوجها فحلف أحدهما لا يسكن هذه فخرج بنفسه وترك أهله ، وماله ، وهي زوجها ، ومالها لا يحنث ، .
وقيده الفقيه أبو الليث أيضا بأن يكون حلفه بالعربية فلو عقد بالفارسية لا يحنث إذا خرج بنفسه وترك أهله وماله ، وإن كان مستقلا بسكناه .
وأشار إلى أنه لو لم يخرج فإنه يحنث بالأولى والكل مقيد بالإمكان ، ولذا قالوا لو بقي فيها أياما يطلب منزلا آخر حتى يجده أو خرج واشتغل بطلب دار أخرى لنقل الأهل والمتاع أو خرج لطلب دابة لينقل عليها المتاع فلم يجد أياما لم يحنث ، وكذا لو كانت أمتعة كثيرة فاشتغل بنقلها بنفسه ، وهو يمكنه أن يستكري دابة فلم يستكر لم يحنث ، وكذا لو أبت المرأة أن تنتقل وغلبته وخرج هو ، ولم يرد العود إليه أو منع هو من الخروج بأن أوثق أو منع متاعه فتركه أو وجد باب الدار مغلقا فلم يقدر على فتحه ، ولا على الخروج منه لم يحنث ، وكذا لو قدر على الخروج بهدم بعض الحائط ، ولم يهدم لا يحنث ، وليس عليه ذلك إنما تعتبر القدرة على الخروج من الوجه المعهود عند الناس كما في الظهيرية بخلاف ما إذا قال إن لم أخرج من هذا المنزل اليوم فامرأته طالق فقيد ، ومنع عن الخروج أو قال لامرأته إن لم تجيئي الليلة إلى البيت فأنت طالق فمنعها والدها حيث تطلق فيهما في الصحيح والفرق أن شرط الحنث في مسألة الكتاب الفعل ، وهو السكنى ، وهو مكره فيه ، وللإكراه تأثير في إعدام الفعل والشرط في تلك المسألة عدم الفعل ، ولا أثر للإكراه في إبطال العدم ، وإن كان اليمين في الليل فلم يمكنه الخروج حتى أصبح لم يحنث كذا في التبيين وغيره .
وفي التجنيس رجل قال لامرأته إن سكنت هذه الدار فأنت طالق ، وكانت اليمين بالليل فإنها معذورة حتى تصبح ; لأنها في معنى المكره في هذه السكنى ; لأنها تخاف الخروج ليلا ، ولو قال ذلك لرجل لم يكن معذورا ; لأنه [ ص: 333 ] لا يخاف هذا هو المختار . ا هـ .
ولا منافاة بينهما ; لأن ما في التبيين مفروض بأنه لا يمكنه الخروج ، وما في التجنيس فيما إذا كان لا يخاف ، والواو في قوله وبقي أهله ، ومتاعه بمعنى أو ; لأن الحنث يحصل ببقاء أحدهما من غير توقف عليهما فلو قال نويت التحول ببدني خاصة لم يصدق في القضاء ويدين كما في البدائع ، وأفاد أنه لا بد من نقل جميع الأهل والمتاع ، وهو في الأهل بالإجماع والمراد بالأهل زوجته ، وأولاده الذين معه ، وكل من كان يأويه لخدمته والقيام بأمره كما في البدائع .
وأما في الأمتعة ففيه اختلاف فقال الإمام المتاع كالأهل حتى لو بقي ، وقد حنث ; لأن السكنى تثبت بالكل فتبقى ببقاء شيء منه ، وقد صار هذا أصلا للإمام حتى لو بقي صفة السكون في العصير يمنع من صيرورته خمرا وبقاء مسلم واحد في دار ارتد أهلها يمنع من صيرورتها دار حرب ، ولا يرد عليه أن الشيء ينتفي بانتفاء جزئه كالعشرة تنتفي بانتفاء الواحد ; لأن ذلك في الأجزاء أما في الأفراد فلا كالرجال لا ينتفي بانتفاء واحد والفرق بين الفرد والجزء أنه إن صدق اسم الكل على كل واحد فالآحاد أفراد ، وإلا فأجزاء كما عرف من بحث العام في الأصول ، وقال أبو يوسف يعتبر نقل الأكثر لتعذر نقل الكل في بعض الأوقات ، وقال محمد يعتبر نقل ما تقوم به السكنى ; لأن ما وراءه ليس من السكنى ، وقد اختلف الترجيح فالفقيه أبو الليث في شرح الجامع الصغير رجح قول الإمام ، وأخذ به كما في غاية البيان والمشايخ استثنوا منه ما لا تتأتى به السكنى كقطعة حصير ووتد كما ذكره في التبيين وغيره ورجح في الهداية قول محمد بأنه أحسن ، وأرفق بالناس ، ومنهم من صرح بأن الفتوى عليه كما في فتح القدير وصرح كثير كصاحب المحيط والفوائد الظهيرية والكافي بأن الفتوى على قول أبي يوسف فقد اختلف الترجيح كما ترى والإفتاء بمذهب الإمام أولى ; لأنه أحوط ، وإن كان غيره أرفق ويتفرع على كون السكنى تبقى ببقاء اليسير من المتاع عنده أنه لو انتقل المودع وترك الوديعة لا غير في المنزل المنتقل عنه لا يضمن ، وعندهما يضمن بكل حال ذكره البزازي في فتاواه من كتاب الإجارة من فصل الخياط والنساج ، وفي المحيط لو حلف لا يسكن دار فلان هذه فسكن منزلا منها حنث ; لأن الدار هكذا تسكن عادة فإن عنى أن لا يسكنها كلها لا يحنث حتى يسكنها كلها ; لأن الدار حقيقة اسم للجميع فقد نوى الحقيقة .
وظاهر كلام المصنف أنه لو نقل أهله ، ومتاعه منها فإنه يبر سواء سكن في منزل آخر أو لا ، وفيه اختلاف ففي الهداية وينبغي أن ينتقل إلى منزل آخر بلا تأخير حتى يبر فإن انتقل إلى السكة أو إلى المسجد قالوا لا يبر دليله في الزيادات أن من خرج بعياله من مصره فلم يتخذ وطنا آخر يبقى وطنه الأول في حق الصلاة كذا هذا . ا هـ .
وفي فتح القدير : وإطلاق عدم الحنث أوجه ، وكون وطنه باقيا في حق إتمام الصلاة ما لم يستوطن غيره لا يستلزم تسميته ساكنا عرفا بذلك المكان بل يقطع من العرف فيمن نقل أهله ، وأمتعته وخرج مسافرا أنه لا يقال فيه إنه ساكن . ا هـ .
وفصل الفقيه أبو الليث تفصيلا حسنا فقال إن لم يسلم داره المستأجرة إلى أهلها حنث ، وإن سلمها لا ، وفي الظهيرية والصحيح أنه يحنث ما لم يتخذ مسكنا آخر ، ولم يستوف المصنف رحمه الله مسائل اليمين على السكنى فنحن نذكرها تتميما للفائدة ففي البدائع لو حلف لا يسكن هذه الدار ، ولم يكن ساكنا فيها فالسكنى فيها أن يسكنها بنفسه وينقل إليها من متاعه ما يبات فيه ويستعمله في منزله فإذا فعل ذلك فهو حانث ، وأما المساكنة فإذا كان رجل ساكنا مع رجل في دار فحلف أحدهما أن لا يساكن صاحبه فإن أخذ في النقلة ، وهي ممكنة بر ، وإلا حنث والنقلة على الخلاف المتقدم فإن لم ينتقل للحال حنث ; لأن البقاء على المساكنة مساكنة ، وهو أن يجمعهما منزل واحد .
فإن وهب متاعه للمحلوف عليه أو أودعه أو أعاره ثم خرج في طلب منزل فلم يجد منزلا أياما ، ولم يأت الدار التي فيها صاحبه [ ص: 334 ] قال محمد إن كان وهب له المتاع ، وقبضه منه وخرج من ساعته ، وليس من رأيه العود فليس بمساكن ، وكذلك إن أودعه المتاع ثم خرج لا يريد العود إلى ذلك المنزل ، وكذا العارية ، ولو كان له في الدار زوجة فراودها الخروج فأبت ، ولم يقدر على إخراجها فإنه لا يحنث ببقائها .
وإذا حلف لا يساكن فلانا فساكنه في عرصة دار أو بيت أو غرفة حنث فإن ساكنه في دار هذا في حجرة ، وهذا في حجرة أو هذا في منزل ، وهذا في منزل حنث إلا أن تكون دارا كبيرة قال أبو يوسف مثل دار الرقيق ودار الوليد بالكوفة ، وكذا كل دار عظيمة فيها مقاصير ومنازل ، وعن محمد إذا حلف لا يساكن فلانا ، ولم يسم دارا فسكن هذا في حجرة ، وهذا في حجرة لم يحنث إلا أن يساكنه في حجرة واحدة فإن سكن هذا في بيت من دار ، وهذا في بيت آخر ، وقد حلف لا يساكنه ، ولم يسم دارا حنث في قولهم ; لأن بيوت الدار الواحدة كالبيت الواحد ، وقال أبو يوسف فإن ساكنه في حانوت في سوق يعملان فيه عملا أو يبيعان تجارة فإنه لا يحنث إلا بالنية أو يكون بينهما كلام يدل عليها قالوا إذا حلف لا يساكن فلانا بالكوفة ، ولا نية له فسكن أحدهما في دار والآخر في دار أخرى في قبيلة واحدة أو محلة واحدة أو درب واحد فإنه لا يحنث حتى يجمعهما السكنى في دار ; لأن المساكنة المخالطة وذكر الكوفة لتخصيص اليمين بها حتى لا يحنث بمساكنته في غيرها ، ولو حلف الملاح أن لا يساكن فلانا في سفينة فنزل مع كل أهله ، ومتاعه واتخذها منزله حنث ، وكذلك أهل البادية إذا جمعتهم خيمة ، وإن تفرقت الخيام لم يحنث ، وإن تقاربت ، وإذا حلف أنه لا يأوي مع فلان أو لا يأوي في مكان أو دار أو بيت فالإيواء الكون ماكثا في المكان أو مع فلان في مكان قليلا كان المكث أو كثيرا ليلا كان أو نهارا فإن نوى أكثر من ذلك فهو على ما نوى فإذا حلف لا يبيت مع فلان أو لا يبيت في مكان كذا فالمبيت بالليل حتى يكون منه أكثر من نصف الليل ، وإن كان أقل لم يحنث وسواء نام في الموضع أو لم ينم .
فلو حلف لا يبيت الليلة في هذه الدار ، وقد ذهب ثلثا الليل ثم بات بقية ليلته قال محمد لا يحنث ; لأن البيتوتة إذا كانت تقع على أكثر الليل فقد حلف على ما لا يتصور فلم تنعقد يمينه . ا هـ .
وفي الواقعات حلف لا يساكن فلانا فنزل منزله فمكث فيه يوما أو يومين لا يحنث ; لأنه لا يكون ساكنا معه حتى يقيم معه في منزله خمسة عشر يوما ، وهذا بمنزلة ما لو حلف لا يسكن الكوفة فمر بها مسافرا فنوى أربعة عشر يوما لا يحنث فإن نوى خمسة عشر يوما يحنث ، ولو سافر الحالف فسكن فلان مع أهله قال أبو حنيفة يحنث ، وقال أبو يوسف لا ، وعليه الفتوى ; لأن الحالف لم يساكنه حقيقة . ا هـ .
وفي الظهيرية لو حلف لا يساكن فلانا فدخل فلان دار الحالف غصبا فأقام الحالف معه حنث علم الحالف بذلك أو لم يعلم ، وإن خرج الحالف بأهله ، وأخذ بالنقل حين نزل الغاصب لم يحنث ، ولو حلف لا يساكن فلانا فساكنه في مقصورة أو في بيت واحد من غير أهل ومتاع لا يحنث ، ولو حلف لا يساكن فلانا في دار وسمى دارا بعينها فتقاسماها وضرب كل واحد بينهما حائطا ، وفتح كل واحد منهما لنفسه بابا فسكن الحالف في طائفة والآخر في طائفة حنث الحالف ، ولو لم يعين الدار في يمينه ، ولكن ذكر دارا على التنكير وباقي المسألة بحالها لا يحنث ، ولو حلف لا يساكن فلانا شهر كذا [ ص: 335 ] فساكنه ساعة في ذلك الشهر حنث ; لأن المساكنة مما لا يمتد ، ولو قال لا أقيم بالرقة شهرا لا يحنث ما لم يقم جميع الشهر ، ولو حلف لا يسكن الرقة شهرا فسكن ساعة حنث ، ولو حلف لا يبيت الليلة في هذا المنزل فخرج بنفسه وبات خارج المنزل ، وأهله ومتاعه في المنزل لا يحنث ، وهذه اليمين تكون على نفسه لا على المتاع ، ولو حلف لا يبيت على سطح هذا البيت ، وعلى البيت غرفة ، وأرض الغرفة سطح هذا البيت يحنث إن بات عليه ، ولو حلف لا يبيت على سطح فبات على هذا لا يحنث .
ولو قال والله لا أبيت في منزل فلان غدا فهو باطل إلا أن ينوي الليلة الجائية ، وكذا لو قال بعدما مضى أكثر الليلة ، ولو قال لا أكون غدا في منزل فلان فهو على ساعة من الغد . ا هـ .
وفي الخلاصة لو قال والله لا أسكن هذه الدار ثلاثين يوما أو قال لأسكنن هذه الدار ثلاثين يوما له أن يفرق ، ولو حلف لا يسكن هذه القرية فذهب على ما هو الشرط ثم عاد وسكن يحنث هذا في الفتاوى الصغرى ، وأفتى القاضي الإمام أنه إن نوى الفور لا يحنث إذا عاد وسكن ، وكذا إذا كان هناك مقدمة الفور ، وفي المحيط حلف لا يقعد في هذه الدار ، ولا نية له قالوا إن كان ساكنا فيها فهو على السكنى ، وإن لم يكن ساكنا فهو على القعود حقيقة ، ولو قال والله لا يجمعني ، وإياك سقف بيت فهذا على المجالسة فإن جالسه في بيت أو فسطاط أو سفينة أو خيمة حنث ، وإن صلى في مسجد جماعة فصلى الآخر معه في القوم لم يحنث ، وإن كان أحدهما في المسجد فجاء الآخر فجلس إليه فقد حنث ، وإن جلس بعيدا منه ، ولم يجلس إليه لم يحنث ، وكذلك البيت الواحد إذا كان يجلس هذا في مكان ، وهذا في مكان غير مجالس له لا يحنث ا هـ .


