الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : إن لبست أو أكلت أو شربت ونوى معينا لم يصدق أصلا ) أي لا قضاء ، ولا ديانة ; لأن النية إنما تصح في الملفوظ ، والثوب والطعام والماء غير مذكور تنصيصا والمقتضى بالفتح لا عموم له فلغت نية التخصيص فيه كما في الهداية وغيرها فحنث بأي شيء أكل أو شرب أو لبس وتعقبهم في فتح القدير بأن التحقيق أن المفعول في لا آكل ، ولا ألبس ليس من باب المقتضى ; لأن المقتضى ما يقدر لتصحيح المنطوق ، وذلك بأن يكون الكلام مما يحكم بكذبه على ظاهره مثل رفع الخطأ والنسيان أو بعدم صحته شرعا مثل أعتق عبدك عني ، وليس قول القائل لا آكل يحكم بكذب قائله بمجرده ، ولا متضمنا حكما يصح شرعا نعم المفعول أعني المأكول من ضروريات وجود فعل الأكل ، ومثله ليس من باب المقتضى ، وإلا كان كل كلام كذلك إذ لا بد أن يستدعي معناه زمانا أو مكانا فكان لا يفرق بين قولنا الخطأ والنسيان مرفوعان وبين قام زيد وجلس عمرو فإنما هو من باب حذف المفعول اقتصارا أو تناسيا ، وطائفة من المشايخ ، وإن فرقوا بين المقتضى والمحذوف وجعلوا المحذوف يقبل العموم قلنا لك أن تقول إن عمومه لا يقبل التخصيص ، وقد صرح من المحققين جمع بأن من العمومات ما لا يقبل التخصيص مثل المعاني إذا قلنا بأن العموم من عوارض المعاني كما هو من عوارض الألفاظ وغير ذلك فكذلك هذا المحذوف إذ ليس في حكم المنطوق لتناسيه ، وعدم الالتفات إليه إذ ليس الغرض إلا الإخبار بمجرد الفعل على ما عرف أن الفعل المتعدي قد ينزل منزلة اللازم لما قلنا ، والاتفاق على عدم صحة التخصيص في باب المتعلقات من الزمان والمكان حتى لو نوى لا يأكل في مكان دون آخر أو زمان لا تصح نيته بالاتفاق . ا هـ .

                                                                                        وفي البدائع حلف لا يركب ونوى الخيل لا يصدق قضاء ، ولا ديانة ، وفي فتح القدير حلف لا يغتسل أو لا ينكح ، وعنى من جنابة أو امرأة دون امرأة لا يصدق أصلا ، وكذا لا يسكن دار فلان ، وعنى بأجر ، ولم يسبق قبل ذلك كلام بأن استأجرها منه أو استعارها فأبى فحلف ينوي السكن بالإجارة والإعارة لا يصح أصلا ، وكذلك لو حلف لا يتزوج امرأة ونوى كوفية أو بصرية لا يصح ; لأنه نية تخصيص الصفة ، ولو نوى حبشية أو عربية صحت ديانة ; لأنه تخصيص في الجنس ، وفي البدائع لو حلف لا يكلم هذا الرجل ، وعنى به ما دام قائما لكنه لم يتكلم بالقيام كانت نيته باطلة وحنث إن كلمه ، ولو حلف لا يكلم هذا القائم ، وعنى به ما دام قائما دين لورود التخصيص على الملفوظ .

                                                                                        وكذلك إذا قال والله لأضربن فلانا خمسين ، وهو ينوي بسوط بعينه فبأي شيء ضربه فقد خرج من يمينه والنية باطلة ، ولو قال والله لا أتزوج امرأة ، وعنى امرأة كان أبوها يعمل كذا ، وكذا [ ص: 355 ] فهو باطل . ا هـ .

                                                                                        وخرج عن هذا الأصل فعل الخروج والمساكنة فإذا قال إن خرجت فعبدي حر ونوى السفر مثلا يصدق ديانة فلا يحنث بالخروج إلى غيره تخصيصا لنفس الخروج بخلاف ما إذا نوى الخروج إلى مكان خاص كبغداد حيث لا يصح ; لأن المكان غير مذكور ، وكذا لو حلف لا يساكن فلانا ونوى المساكنة في بيت واحد يصح قالوا ; لأن الخروج في نفسه متنوع إلى سفر وغيره حتى اختلفت أحكامها ، وكذا المساكنة متنوعة إلى كاملة ، وهي المساكنة في بيت واحد ، وإلى مطلقة ، وهي ما تكون في دار ، وفيه بحث مذكور في فتح القدير .

                                                                                        ( قوله : ولو زاد ثوبا أو طعاما أو شرابا دين ) أي قبل منه نية التخصيص ديانة لا قضاء ; لأنه نكرة في الشرط فتعم كالنكرة في النفي لكنه خلاف الظاهر فلا يصدقه القاضي ، وفي البدائع قال والله لا أتزوج امرأة على وجه الأرض ينوي امرأة بعينها قال يصدق فيما بينه وبين الله تعالى بخلاف ما إذا قال لا أشتري جارية ونوى متولدة فإن نيته باطلة ; لأنه تخصيص الصفة فأشبه الكوفية والبصرية . ا هـ .

                                                                                        قيد المصنف رحمه الله بكونه نوى البعض دون البعض ; لأنه لو نوى الكل صدق قضاء وديانة ، ولا يحنث أصلا لما في المحيط لو حلف لا يأكل طعاما أو لا يشرب شرابا ، وعنى جميع الأطعمة أو جميع مياه العالم يصدق في القضاء ، وفي البدائع لو قال والله لا آكل الطعام أو لا أشرب الماء أو لا أتزوج النساء فيمينه على بعض الجنس ، وإن أراد به الجنس صدق ; لأنه نوى ما هو حقيقة كلامه ، وفي الكشف الكبير إذا قال والله لا أشرب ماء أو الماء أو لا آكل طعاما أو الطعام أنه يقع على الأدنى ; لأنه هو المتيقن ، وهو الكل لولا غيره فيكون فيه معنى الجنسية أيضا ، وإن نوى الكل صحت نيته فيما بينه وبين الله تعالى حتى لا يحنث أصلا ; لأنه نوى محتمل كلامه ; لأنه فرد من حيث إنه اسم جنس لكنه عدد من وجه فلم يتناوله الفرد إلا بالنية كذا في شرح الجامع لفخر الإسلام ، وهذا يشير إلى أنه لا يصدق قضاء إن كان اليمين بطلاق أو نحوه ; لأنه خلاف الظاهر إذ الإنسان إنما يمنع نفسه باليمين عما يقدر عليه وشرب كل المياه ليس في وسعه ، وفيه تخفيف عليه أيضا .

                                                                                        وقال شمس الأئمة قالوا : وإطلاق الجواب دليل على أنه يصدق قضاء وديانة إن كان اليمين بطلاق ونحوه ; لأنه نوى حقيقة كلامه ، وعن أبي القاسم الصفار أنه لا يصدق قضاء ; لأنه نوى حقيقة لا تثبت إلا بالنية فصار كأنه نوى المجاز . ا هـ .

                                                                                        ثم اعلم أن الفرق بين الديانة والقضاء إنما يظهر في الطلاق والعتاق ، وأما في الحلف بالله تعالى فلا يظهر ; لأن الكفارة حق الله ليس للعبد فيها حق حتى يرفع الحالف إلى القاضي ، وفي الواقعات إذا استحلف الرجل بالله ، وهو مظلوم فاليمين على ما نوى ، وإن كان ظالما فاليمين على نية من استحلفه وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد ، وفي اليمين بالطلاق اليمين على نية الحالف [ ص: 356 ] وفي الولوالجية من الطلاق نية تخصيص العام لا تصح ، وعند الخصاف تصح حتى إن من حلف ، وقال كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثم قال نويت به من بلدة كذا لا تصح نيته في ظاهر المذهب ، وقال الخصاف تصح ، وكذا من غصب دراهم إنسان ووقت ما حلفه الخصم عاما نوى خاصا لا تصح نيته في ظاهر المذهب ، وقال الخصاف تصح لكن هذا في القضاء أما فيما بينه وبين الله تعالى نية تخصيص العام صحيحة بالإجماع مذكور في الكتب من مواضع منها الباب الخامس من أيمان الجامع الكبير ، وما قاله الخصاف مخلص لمن حلفه ظالم والفتوى على ظاهر المذهب فمتى وقع في يد الظلمة ، وأخذ بقول الخصاف لا بأس به . ا هـ .

                                                                                        [ ص: 354 - 355 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 354 - 355 ] ( قوله : وخرج عن هذا الأصل إلخ ) الصواب أن يقال : ولا يرد على هذا الأصل ; لأن قوله ; لأن الخروج في نفسه متنوع إلى سفر وغيره ، وكذا المساكنة يفيد أنه في هاتين المسألتين ليس من تخصيص غير الملفوظ بل من تخصيص الملفوظ ; لأن حاصله أن كلا من الخروج والمساكنة جنس ذو أنواع فالنية فيه نية أحد الأنواع للجنس المذكور فليس من باب المقتضى . ( قوله : ونوى المساكنة فالبيت واحد يصح ) كذا في بعض النسخ ، وهو الصواب ، وفي بعضها لا يصح بزيادة لا ، وهو غير صحيح كما لا يخفى ( قوله : وفيه بحث مذكور في فتح القدير ) حيث قال والحق أن الأفعال الخارجية لا يتصور أن تكون إلا نوعا واحدا لا فرق في ذلك بين الغسل ونحوه وبين الخروج ونحوه من الشراء فكما أن اتحاد الغسل بسبب أنه ليس إلا إمرار الماء كذلك الخروج ليس إلا قطع المسافة غير أنه يوصف بالطول والقصر في الزمان فلا يصير منقسما إلى نوعين إلا باختلاف الأحكام شرعا فإن عند ذلك علمنا اعتبار الشرع إياها كذلك كما في الخروج المختلف الأحكام في السفر وغيره والشراء لنفسه وغيره فإنه مختلف حكمهما فيحكم بتعدد النوع في ذلك ، ولا يخفى أن المساكنة والسكنى ليس فيهما اختلاف أحكام الشرع لطائفة منهما بالنسبة إلى طائفة أخرى ، وكل في نفسه نوع ; لأن الكل قرار في المكان .

                                                                                        ( قوله : ولا يحنث أصلا ) قال الرملي أي لو نوى بقوله إن لبست ثوبا جميع ثياب الدنيا لا يحنث أصلا بلبث ثوب أو ثوبين أو ثلاثة أو أكثر ; لأنه لم يلبس ثياب الدنيا ، وهو المحلوف عليه تأمل ( قوله : وفي اليمين بالطلاق اليمين على نية الحالف ) ظاهره سواء كان ظالما أو مظلوما بدليل ذكره مطلقا بعد التفصيل في اليمين بالله تعالى فقط ، ويخالفه عبارة الولوالجية فإنه جعل صحة نيته قول الخصاف إلا أن يقال المراد أنه على نية الحالف في الديانة لا القضاء فإذا رفع إلى القاضي فلا يصدقه ثم الظاهر أن كلام الولوالجية خاص بالطلاق لا يشمل اليمين بالله تعالى بدليل سياق الكلام وسياقه ، ولما مر من أنه لا مدخل للقضاء في اليمين بالله تعالى لكن يحتاج إلى الفرق [ ص: 356 ] بين اليمين بالله تعالى حيث لم تصح فيها النية ديانة إلا إذا كان مظلوما وبين اليمين بالطلاق والعتاق حيث صحت ديانة مطلقا تأمل .

                                                                                        ولعل الفرق هتك حرمة اسم الله تعالى واقتطاع حق المسلم بوسيلة اسمه تعالى تأمل ، وعبارة قاضي خان هنا رجل حلف رجلا فحلف ونوى غير ما يريد المستحلف إن كانت اليمين بالطلاق والعتاق ونحو ذلك يعتبر نية الحالف إذا لم ينو الحالف خلاف الظاهر ظالما كان الحالف أو مظلوما ، وإن كانت اليمين بالله تعالى فإن كان الحالف مظلوما كانت النية فيه إلى الحالف ، وإن كان الحالف ظالما يريد بيمينه إبطال حق الغير يعتبر فيه نية المستحلف ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : وفي الولوالجية من الطلاق إلخ ) قال الرملي تأمل ما نقل عنها مع ما سبق في شرح المقولة قبل هذا . ا هـ .

                                                                                        قلت : لا منافاة بينهما فإن قوله هنا لا تصح أي في القضاء كما صرح به بعد ( قوله : وأخذ بقول الخصاف لا بأس به ) الظاهر أن يقرأ أخذ بضم أوله والمراد ، وأخذ القاضي بذلك فيقضي به إذ لا معنى لأخذ الحالف به ; لأن أخذ الحالف غير خاص بقول الخصاف تأمل .




                                                                                        الخدمات العلمية