الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : وقهقهة مصل بالغ ) أي وينقضه قهقهة ، وهي في اللغة معروفة ، وهو أن يقول قه قه وقهقة بمعنى واصطلاحا ما يكون مسموعا له ولجيرانه بدت أسنانه أولا وظاهر كلام المصنف وجماعة أن القهقهة من الأحداث وقال بعضهم : إنها ليست حدثا ، فإنما يجب الوضوء بها عقوبة وزجرا ، وهو ظاهر كلام جماعة منهم القاضي أبو زيد الدبوسي في الأسرار ، وهو موافق للقياس ; لأنها ليست خارجا نجسا بل هي صوت كالبكاء والكلام وفائدة الخلاف أن من جعلها حدثا منع جواز مس المصحف معها كسائر الأحداث ومن أوجب الوضوء عقوبة جوز مس المصحف معها هكذا نقل الخلاف وفائدته في معراج الدراية وينبغي ترجيح الثاني لموافقته القياس وسلامته مما يقال من أنها ليست نجاسة ولا سببها وموافقة الأحاديث ، فإنها على ما رووا ليس فيها إلا الأمر بإعادة الوضوء والصلاة ولا يلزم منه كونها من الأحداث ; ولذا وقع الاختلاف في قهقهة النائم في الصلاة وصححوا في الأصول والفروع أنها لا تنقض الوضوء ولا تبطل الصلاة بناء على أنها إنما أوجبت إعادة الوضوء بطريق الزجر والعقوبة والنائم ليس من أهلها ، وهذا يرجح ما ذكرناه لكن سوى فخر الإسلام بين كلام النائم وقهقهته في أن كلا منهما لا يبطل الصلاة والمذهب أن الكلام مفسد للصلاة كما صرح به في النوازل بأنه المختار فحينئذ تكون القهقهة من النائم مفسدة للصلاة لا الوضوء ، وهو مختار ابن الهمام في تحريره ; لأن جعلها حدثا للجناية ولا جناية من النائم فتبقى كلاما بلا قصد فيفسد كالساهي به ا هـ .

                                                                                        وفي النصاب وعليه الفتوى وفي الولوالجية ، وهو المختار وفي المبتغى تكلم النائم في الصلاة مفسد في الأصح بخلاف القهقهة ا هـ .

                                                                                        ولا يخفى ما فيه ، فإن القهقهة كلام على ما صرحوا به وفي المعراج أن قهقهة النائم تبطلهما وبه أخذ عامة المتأخرين احتياطا وكذا وقع الاختلاف في الناسي كونه في الصلاة فجزم الزيلعي بأنه لا فرق بين الناسي والعامد وذكر في المعراج أن في الساهي والناسي روايتين ، ولعل وجه الرواية القائلة بعدم النقض أنه كالنائم إذا لا جناية إلا بالقصد ولا يخفى ترجيح الرواية [ ص: 43 ] القائلة بالنقض لما أن للصلاة حالة مذكرة لا يعذر بالنسيان فيها ألا ترى أن الكلام ناسيا مفسد لها بخلاف النوم ولا فرق بين كونه متوضئا أو متيمما واتفقوا على أنها لا تبطل الغسل واختلفوا هل تنقض الوضوء الذي في ضمن الغسل فعلى قول عامة المشايخ لا تنقض وصحح المتأخرون كقاضي خان النقض عقوبة له مع اتفاقهم على بطلان صلاته كما نبه عليه في المضمرات وفي قهقهة الباني في الطريق بعد الوضوء روايتان كذا في المعراج

                                                                                        وجزم الزيلعي بالنقض قيل ، وهو الأحوط ولا نزاع في بطلان صلاته قيد بقوله مصل احترازا عن غيره وأطلقها فانصرفت إلى ما لها ركوع وسجود أو ما يقوم مقامهما من الإيماء لعذر أو راكبا يومئ بالنفل أو بالفرض حيث يجوز فلا تنقض القهقهة في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة لكن يبطلان قيدنا بقولنا حيث يجوز ; لأنه لو كان راكبا يومئ بالتطوع في المصر أو القرية قهقهة لا ينتقض وضوءه لعدم جواز صلاته عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف : ينتقض لصحة صلاته عنده ، ولو نسي الباني المسح فقهقه قبل القيام إلى الصلاة نقض وبعده لا ينقض لبطلان الصلاة بالقيام إليها ، وهو من مسائل الامتحان كذا في المعراج وأفاد إطلاقه أنها تنقض بعد القعود قدر التشهد خلافا لزفر ، ولو عند السلام كذا في المبتغى أو في سجود السهو كذا في المحيط ، ولو ضحك القوم بعدما أحدث الإمام متعمدا لا وضوء عليهم ، وكذا بعدما تكلم الإمام وكذا بعد سلام الإمام هو الأصح كذا في الخلاصة ، وقيل إذا قهقهوا بعد سلامه بطل وضوءهم ، والخلاف مبني على أنه بعد سلام الإمام هل هو في الصلاة إلى أن يسلم بنفسه أو لا

                                                                                        وفي البدائع إن قهقه الإمام والقوم معا أو قهقه القوم ثم الإمام بطلت طهارة الكل ، وإن قهقه الإمام أولا ثم القوم انتقض وضوءه دونهم وفي فتح القدير ، ولو قهقه بعد كلام الإمام متعمدا فسدت طهارته على الأصح على خلاف ما في الخلاصة بخلافه بعد حدثه عمدا ا هـ .

                                                                                        ولم يبين الفرق بين كلام الإمام عمدا وحدثه عمدا والفرق بينهما أن الكلام قاطع للصلاة لا مفسد لها إذ لم يفوت شرط الصلاة ، وهو الطهارة فلم يفسد به شيء من صلاة المأمومين ، ولو مسبوقا فينقض وضوءهم بقهقهتهم بخلاف حدثه عمدا لتفويته الطهارة فأفسدت جزءا يلاقيه فيفسد من صلاة المأموم كذلك فقهقهتهم بعد ذلك تكون بعد الخروج من الصلاة فلا تنقض وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحدث تحقيق الفرق بأبسط من هذا ، ولو أن محدثا غسل بعض أعضاء الوضوء ففني الماء فتيمم وشرع في الصلاة فقهقه ثم وجد الماء عند أبي يوسف يغسل باقي الأعضاء ويصلي وعندهما يغسل جميعها بناء على أن القهقهة هل تبطل ما غسل من أعضاء الوضوء ؟ عنده لا ، وعندهما نعم كذا في الخلاصة

                                                                                        وإذا كان شرع في صلاة فرض وبطل الوصف ثم قهقه من قال ببطلان الأصل لا تنتقض طهارته بالقهقهة ومن قال بعدمه انتقضت كما إذا تذكر فائتة والترتيب فرض أو دخل وقت العصر في الجمعة أو طلعت الشمس في الفجر ، ومن اقتدى بإمام لا يصح اقتداؤه به ثم قهقه لا ينتقض وضوءه اتفاقا ، وكذا من قهقه بعد بطلان صلاته ، وكذا إذا قهقه بعد خروجه كما إذا سلم قبل الإمام بعد القعود ثم قهقه كذا في الخانية وقيد بالبلوغ ; لأن قهقهة الصبي لا تنقض وضوءه لكن تبطل صلاته كذا في كثير من الكتب ونقل في السراج الوهاج الإجماع على عدم نقض وضوئه وفيه نظر فقد ذكر في معراج الدراية أن في المسألة ثلاثة أقوال :

                                                                                        الأول : ما ذكرناه الثاني عن نجم الأئمة البخاري عن سلمة بن شداد أنها تنقض الوضوء دون الصلاة الثالث عن أبي القاسم أنها تبطلهما إلا أن يقال لما كان القولان الأخيران ضعيفين كانا كالعدم ووجه الأول أنها إنما أوجبت إعادة الوضوء عقوبة وزجرا والصبي ليس من أهلها والأثر ورد في صلاة كاملة فيقتصر عليها فلا تتعدى [ ص: 44 ] إلى صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وصلاة الصبي وصلاة الباني بعد الوضوء على إحدى الروايتين وصلاة النائم على أحد القولين ، وهذا كله مذهبنا

                                                                                        وقالت الأئمة الثلاثة لا تنقض أصلا قياسا على عدم نقضها خارج الصلاة ولنا أن القياس ذلك لكن تركناه فيما إذا كانت القهقهة في ذات ركوع وسجود بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا ومسندا { بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذ دخل رجل فتردى في حفرة ، وكان في بصره ضرر فضحك كثير من القوم وهو في الصلاة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة } وتمامه في فتح القدير وما قيل بأنه لا يظن الضحك بالصحابة خلفه قهقهة أجيب عنه بأنه كان يصلي خلفه الصحابيون والمنافقون والأعراب الجهال فالضاحك لعله كان بعض الأحداث أو المنافقين أو بعض الأعراب لغلبة الجهل عليهم كما بال أعرابي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو نظير قوله تعالى { وتركوك قائما } ، فإنه لم يتركه كبار الصحابة باللهو قال في العناية ، وهذا من باب حسن الظن بهم رضي الله عنهم ، وإلا فليس الضحك كبيرة وهم ليسوا من الصغائر بمعصومين ولا عن الكبائر على تقدير كونه كبيرة ا هـ .

                                                                                        والمنقول في الأصول أن الصحابة عدول فهم محفوظون من المعاصي وقيد بالقهقهة ; لأن الضحك بفتح الضاد وكسر الحاء هذا أصله ويجوز إسكان الحاء مع فتح الضاد وكسرها فهي أربعة أوجه : كذا في شرح المهذب ، وهو في اللغة أعم من القهقهة ، وهي من أفراده وفي الاصطلاح ما كان مسموعا له فقط وحكمه أنه لا ينقض الوضوء بل يبطل الصلاة

                                                                                        وأما التبسم ، وهو ما لا صوت فيه أصلا بأن تبدو أسنانه فقط فحكمه أنه لا يبطلهما { ; لأنه صلى الله عليه وسلم تبسم في الصلاة حين أتاه جبريل عليه السلام وأخبره أن من صلى عليك مرة صلى الله عليه بها عشرا } كما في البدائع وقال جابر بن عبد الله : { ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم ، ولو في الصلاة } كما في النهاية والعناية وظاهر كلامهم أن التبسم في الصلاة غير مكروه ; ولذا قال في الاختيار ولا حكم للتبسم وقد رأيت في كلام بعضهم أنه لو أتى بحرفين من القهقهة انتقض وضوءه عملا بعدم تبعيض الحدث ; لأنه إذا وقع بعضه وقع كله قياسا لوقوعه على ارتفاعه بجامع أن كلا منهما لا يتبعض ا هـ .

                                                                                        وقد يقال إن الحكم ، وهو النقض معلق بالقهقهة فإذا وجد بعضها لا يوجد الحكم ولا بعضه لما عرف في الأصول أن المشروط لا يتوزع على أجزاء الشرط فقوله ; لأنه إذا وقع بعضه ممنوع كما لا يخفى .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : وظاهر كلام المصنف وجماعة إلخ ) فيه كما قال في النهر : إن ظاهر كلامه الثاني بدليل قوله بالغ إذ لو كانت حدثا لاستوى فيها البالغ وغيره ( قوله : وفائدة الخلاف إلخ ) قال في النهر وينبغي أن يظهر أيضا في كتابة القرآن ، وأما حل الطواف بهذا الوضوء ففيه تردد وإلحاق الطواف بالصلاة يؤذن بأنه لا يجوز فتدبره ( قوله : وينبغي ترجيح الثاني إلخ ) أيده في النهر بقوله ; ولذا رجحوا عدم النقض بقهقهة النائم ا هـ .

                                                                                        لكن أورد أن فيه تبعيض الأحكام والشيء إذا ثبت يثبت بجميع أحكامه والجواب أن النص ورد بإبطالها الوضوء في حق الصلاة فقط ولا يمكن قياس غير الصلاة عليها لمخالفتها للقياس ; ولأن إبطالها الوضوء في حق الصلاة لوجود الجناية بها على الصلاة وأورد أيضا أنه يلزم على هذا القول أنه لو أدى الصلاة لم يكن فيه إلا الحرمة فقط مع وجوب الإعادة ، وهذا إبطال المذهب لموافقة القياس والجواب أنه إنما يرد ذلك لو كان معنى هذا القول وجوب إعادة الوضوء زجرا مع بقائه ، وليس كذلك بل معناه كما قلنا : إنها مبطلة للوضوء في حق الصلاة ، وإن لم يكن حدثا تأمل ( قوله : لكن سوى فخر الإسلام بين كلام النائم وقهقهته ) حينئذ لا محل لهذا الاستدراك هنا فتأمل [ ص: 43 ] ( قوله : ولو نسي الباني المسح فقهقه قبل القيام إلى الصلاة نقض إلخ ) أي قهقه في طريقه ، وهذا بناء على ما جزم به الزيلعي من إحدى الروايتين السابقتين ( قوله : أو في سجود السهو ) قال الرملي ذكر في التتارخانية أنه المختار وذكر في منية المصلي عدم النقض فيه وقد علمت أنه خلاف المختار وممن ذكر النقض الشيخ الإمام محمد الغزي في شرح زاد الفقير والله تعالى أعلم .

                                                                                        ( قوله : فلم يفسد به شيء من صلاة المأمومين ولا مسبوقا ) أي ولو كان أحد المأمومين مسبوقا [ ص: 44 ] ( قوله : فهي أربعة أوجه ) المذكور هنا ثلاث لكن وجد في بعض النسخ ويجوز كسرهما .




                                                                                        الخدمات العلمية