الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قوله ( ومن ضمن عن آخر خراجه أو رهن به أو ضمن نوائبه أو قسمته صح ) أما الخراج فلكونه دينا مطالبا به قيد به للاحتراز عن الزكاة في الأموال الظاهرة فإنه لا يجوز الضمان بها عن صاحب المال ; لأنها مجرد فعل ولهذا لا تؤخذ من تركته إلا بوصيته وأطلقه فشمل الخراج الموظف وخراج المقاسمة وخصصه بعضهم بالموظف وهو ما يجب في الذمة ونفى صحة الضمان بخراج المقاسمة ; لأنه لم يكن دينا في الذمة ، والرهن كالكفالة بجامع التوثق فيجوز في كل موضع تجوز الكفالة فيه هكذا ذكر الشارح وهو منقوض بالدرك فإن الكفالة به جائرة دون الرهن ، وأما النوائب فجمع نائبة وفي الصحاح النائبة المصيبة واحدة نوائب الدهر . ا هـ .

                                                                                        وفي اصطلاحهم قيل أراد بها ما يكون بحق كأجرة الحراس وكري النهر المشترك والمال الموظف لتجهيز الجيش وفداء الأسرى وقيل المراد بها ما ليس بحق كالجبايات التي في زماننا يأخذها الظلمة بغير حق فإن كان مراده هو الأول جازت الكفالة بها اتفاقا ; لأنه واجب مضمون وإن كان مراده الثاني ففيه اختلاف المشايخ فقال بعضهم لا تجوز الكفالة منهم صدر الإسلام البزدوي ; لأنها ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة أو الدين وهنا لا مطالبة ولا دين [ ص: 260 ] شرعيان على الأصيل فلم يتحقق معناها ، وقال بعضهم تجوز منهم فخر الإسلام علي البرذوي أخو صدر الإسلام المتقدم ; لأنها في المطالبة مثل سائر الديون بل فوقها والعبرة للمطالبة ; لأنها شرعت لالتزامها فالمطالبة الحسية كالمطالبة الشرعية ولذا قلنا ومن قام بتوزيع هذه النوائب على المسلمين بالقسط أي بالعدل يؤجر وإن كان الآخذ بالأخذ ظالما وقلنا من قضى نائبه غيره بأمره رجع عليه وإن لم يشترط الرجوع وهو الصحيح كما في الخانية كمن قضى دين غيره بأمره وفي العناية قال شمس الأئمة هذا إذا أمره به لا عن إكراه أما إذا كان مكرها في الأمر فلا يعتبر أمره في الرجوع . ا هـ .

                                                                                        وفي فتح القدير وينبغي أن كل من قال : إنها ضم في الدين يمنع صحتها هنا ومن قال في المطالبة يمكن أن يقول بصحتها ويمكن أن يمنعها بناء على أنها في المطالبة في الدين أو معناه أو مطلقا . ا هـ .

                                                                                        وقوله بناء على أنها في المطالبة في الدين ممنوع لما قدمنا أنها لا تقتصر على المطالبة في الدين إذ لو كان كذلك لم يشمل التعريف الكفالة بالنفس ; لأنها ضم في المطالبة بالحضور وفي قوله أو مطلقا نظر ; لأنه إذا قال بأنها في المطالبة مطلقا لا يمنعها هنا .

                                                                                        وفي البزازية صادر الوالي رجلا وطلب منه مالا وضمن رجل ذلك وبذل الحط ثم قال الضامن ليس لك علي شيء ; لأنه ليس للوالي عليه شيء قال شمس الإسلام والقاضي يملك المطالبة ; لأن المطالبة الشرعية كالمطالبة الحسية . ا هـ .

                                                                                        ولو قال ; لأن المطالبة الحسية كالمطالبة الشرعية لكان أولى كما لا يخفى وظاهر كلامهم ترجيح الصحة ولذا قال في إيضاح الإصلاح والفتوى على الصحة فإنها [ ص: 261 ] كالديون الصحيحة حتى لو أخذت من الأكار فله الرجوع على مالك الأرض . ا هـ .

                                                                                        وفي الخانية الصحيح الصحة ويرجع على المكفول عنه إن كان بأمره ، وأما القسمة فقد قيل هي النوائب بعينها أو حصة منها والرواية بأو وقيل هي النائبة الموظفة الراتبة والمراد بالنوائب ما ينوبه عن راتب ، كذا في الهداية .

                                                                                        والحاصل أن المشايخ اختلفوا في معناه فأبو بكر بن سعيد ادعى أن هذه الكلمة غلط ; لأن القسمة مصدر والمصدر فعل وهذا الفعل غير مضمون ورد بأن القسمة تجيء بمعنى النصيب قال الله تعالى { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } والمراد النصيب .

                                                                                        والفقيه أبو جعفر الهنداوي قال معناها أن أحد الشريكين إذا طلب القسمة من صاحبه وامتنع الآخر عن ذلك فضمن إنسانا ليقوم مقامه في القسمة جاز ; لأن القسمة واجبة عليه ، وقال بعضهم معناها إذا اقتسما ثم منع أحد الشريكين قسم صاحبه فتكون الرواية على هذا قسمة بالضمير لا بالتاء ، وقد علمت أن القسمة بالتاء تجيء بمعنى القسم بلا تاء وقيل هي النوائب بعينها فالعطف للبيان والتفسير وقيل ما يخص الرجل منها ولكن كان ينبغي أن يعطف بالواو لا بأو ليكون من عطف الخاص على العام وقيل هي النائبة الموظفة الديوانية كل شهر أو ثلاثة أشهر والنوائب غير الراتبة ، كذا في العناية ثم من أصحابنا من قال الأفضل للإنسان أن يساوي أهل محلته في إعطاء النائبة ، قال شمس الأئمة هذا كان في ذلك الزمان لأنه إعانة على الحاجة والجهاد ، وأما في زماننا فأكثر النوائب تؤخذ ظلما ومن تمكن دفع المظلمة عن نفسه فهو خير له إذا أراد الإعطاء فليعط من هو عاجز عن دفع الظلم عن نفسه لفقر ليستعين به الفقير على الظلم وينال المعطي الثواب ، كذا في فتح القدير .

                                                                                        قوله ( ومن قال لآخر ضمنت لك عن فلان مائة إلى شهر ) فقال هي حالة فالقول للضامن لأنه لم يقر بالدين لا دين عليه في الصحيح إنما أقر بمجرد المطالبة بعد الشهر ، قيد بالضمان ; لأنه لو أقر بمائة إلى شهر ، وقال المقر له هي حالة فالقول للمقر له ; لأن المقر أقر بالدين ثم ادعى حقا لنفسه وهو تأخير المطالبة إلى أجل وهذا هو الفرق ، وفرق آخر أن الأجل في الدين عارض حتى لا يثبت إلا بشرط فكان القول قول من أنكر الشرط كما في الخيار ، وأما الأجل في الكفالة فنوع حتى يثبت من غير شرط بأن كان مؤجلا على الأصيل ، والشافعي ألحق الدين بالكفالة وأبو يوسف عكسه والفرق قد أوضحناه وذكر الشارح والحيلة فيها إذا كان عليه دين مؤجل وادعى عليه وخاف الكذب إن أنكر والمؤاخذة في الحال إن أقر أن يقول للمدعي هذا الذي تدعيه من المال حال أم مؤجل فإن قال مؤجلا فلا دعوى عليه في الحال وإن قال حال فينكره وهو صدوق فلا حرج عليه وقيل لمن عليه الدين مؤجلا إذا أنكر الدين ، وقال : ليس له قبلي حق ; فلا بأس به إذا لم يرد به إتواء حقه ا هـ .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : وخصصه بعضهم بالموظف ) مشى عليه في النهر ثم قال ولذا قال في فتح القدير قيدت الكفالة بما إذا كان خراجا موظفا ; لأنه يجب في مقابلة الذب عن حوزة الدين وحفظه فكان كالأجرة لإخراج مقاسمة ; لأنه غير واجب وقرينة إرادة الموظف قوله أو رهن به إذ الرهن بخراج المقاسمة غير صحيح بخلاف الموظف . ا هـ .

                                                                                        ما في النهر وقال بعض الفضلاء والذي اعتمدوه جميعا في التعليل بقولهم لأنه دين له مطالب من جهة العباد فصار كسائر الديون يدل على اختصاصه بالموظف ، أما خراج المقاسمة فجزء من الخارج وهو عين غير مضمون حتى لو هلك لا يؤخذ شيء والكفالة بأعيان غير مضمونة لا تجوز كالزكاة في الأموال الظاهرة . ا هـ .

                                                                                        ( قول صدر الإسلام ) هو أبو اليسر رملي [ ص: 260 ] ( قوله : وهو الصحيح كما في الخانية ) عبارة الخانية هكذا وإن كفل عن رجل بالجبايات اختلفوا فيه والصحيح أنها تصح ويرجع على المكفول عنه إن كان بأمره وكذا السلطان إذا صار رجلا فأمر الرجل غيره أن يؤدي عنه المال لكل ما هو مطالب به حسا جازت الكفالة به فإن أمر غيره بذلك إن قال على أن ترجع علي بذلك كان له أن يرجع عليه وإلا اختلفوا فيه والصحيح أنه يرجع ، ذكر في السير المسألة إذا أسر في دار الحرب فاشتراه رجل منهم إن اشتراه بغير أمره يكون متطوعا لا يرجع بذلك على الأسير ويخلي سبيله وإن اشتراه بأمره في القياس لا يرجع المأمور على الآمر وفي الاستحسان يرجع سواء أمره الأسير أن يرجع بذلك عليه أو لم يقل على أن ترجع بذلك علي وهو كما لو قال الرجل لغيره أنفق من مالك على عيالي أو أنفق في بناء داري فأنفق المأمور كان له أن يرجع على الآمر بما أنفق وكذا الأسير إذا أمر رجلا ليدفع الفداء ويأخذ منهم فهو بمنزلة ما لو أمره بالشراء . ا هـ .

                                                                                        لكن قاضي خان خالف ذلك في شرحه على الجامع الصغير حيث قال : وأما الجبايات التي يوظفها السلطان على الناس قال بعضهم تصح بها الكفالة ; لأنها مطالب بها حسا بمنزلة الدين الواجب وعلى هذا قالوا من قضى نائبة غيره بإذنه وهو غير مكره في الأمر يرجع بها عليه وإن لم يشترط الضمان والأصح أنه لا يصح الضمان بها ولو أداه بأمره ولم يشترط الضمان لا يرجع ; لأنه ظالم في حق الآخذ والمأخوذ منه فلا تصح به الكفالة . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : وقوله بناء على أنها في المطالبة ممنوع إلخ ) قال الرملي هذا الممنوع ممنوع إذ الكلام في الكفالة بالدين لا بالنفس . ( قوله : وفي قوله أو مطلقا نظر إلخ ) أقول : مراد المحقق بيان وجه للصحة ووجه للمنع على القول بأنها الضم في المطالبة فقوله بناء على أنها الضم في المطالبة في الدين أو معناه وجه للمنع وقوله أو مطلقا وجه للصحة ففي كلامه لف ونشر غير مرتب .

                                                                                        ( قوله : ولو قال ; لأن المطالبة الحسية إلخ ) قال الرملي : الظاهر أنه من عكس التشبيه وهو يدل على الأبلغية فلا أولوية كذا رأيت بخط بعضهم وفيه نظر إذ ليس المقام مقام البليغة وهذا الشارح لم ينف الجواز إنما ذكر الأولوية فتأمل . ( قوله : وظاهر كلامهم ترجيح الصحة إلخ ) رجح الخير الرملي في فتاويه عدمها مستندا إلى ما في البزازية ضمان الجبايات على قول عامة المشايخ لا يصح فجعله قول العامة ومثله في الخلاصة ، وذكر أن ما قاله في إيضاح الإصلاح غير مسلم بلا برهان وأن ما قاله المؤلف هنا غير مسلم أيضا ; لأن ظاهر كلامهم يخالفه لما صرح به في الخلاصة والبزازية أنه قول العامة والعلة له أن الظلم يجب إعدامه ويحرم تقريره وفي القول بصحته تقريره ، وقال مؤيد زاده في مجموعه نقلا عن العمادية والأسير إذا قال لغيره خلصني فدفع المأمور مالا وخلصه منه اختلف فيه قال السرخسي يرجع في المسألتين ، وقال صاحب المحيط لا يرجع وهذا هو الأصح وعليه الفتوى فهو مدافع لما في الإصلاح وقول قاضي خان الصحيح الصحة لا يدفع قول صاحب المحيط هذا هو الأصح وعليه الفتوى . ا هـ . ملخصا .

                                                                                        أقول : غايته أنهما قولان مصححان ، وقالوا لا يعدل عن تصحيح قاضي خان كما نقله المؤلف ; لأنه فقيه النفس على أن لقائل أن يقول ليس في كلام المحيط تصحيح خلاف ما صححه قاضي خان ; لأن المنقول عن المحيط لم يستوف شرائط صحة الكفالة إذ ليس فيه الأمر بالرجوع وهو بأن يشتمل على لفظة عني أو علي [ ص: 261 ] فلهذا صحح عدم الرجوع ثم رأيت في الخانية قال وإن اشتراه بأمره في القياس لا يرجع المأمور على الآمر وفي الاستحسان يرجع سواء أمر الأسير أن يرجع بذلك عليه أو لم يقل على أن ترجع بذلك علي ، وهو كما لو قال الرجل لغيره أنفق من مالك على عيالي أو في بناء داري . ا هـ .

                                                                                        فعلم أن ما صححه في المحيط هو القياس ووجهه ما قلنا كما دل عليه كلام الخانية والاستحسان خلافه وهذا غير مسألتنا كما لا يخفى ; لأن الكلام فيها عند استيفاء شرائط صحة الكفالة ثم رأيت بخط بعض الأفاضل ما حاصله أن المراد من صحة الكفالة بالنوائب رجوع الكفيل على الأصيل لو كانت الكفالة بالأمر إلا أنه يضمن لطالبها الظالم ; لأن الظلم يجب إعدامه ولا يجوز تقريره فلا تغتر بظاهر الكلام . ا هـ . ولعمري أنه تنبيه حسن ولهذا لم يذكروا الرجوع على الكفيل وكيف يسوغ القول برجوع المكفول له الظالم وبه اندفع ما مر عن الرملي من قوله والعلة له إلخ ; لأن ذاك مسلم لو قلنا برجوع الظالم على الكفيل أما على ما قلنا فليس فيه تقرير الظلم بل فيه رفعه لأنه لولا الكفيل يحبس الظالم المكفول ويضربه ويبيع عليه ماله وعقاره بثمن بخس أو يلجئه إلى بيعه أو الاستدانة بالمرابحة ونحو ذلك مما هو مشاهد وبالكفالة يرتفع كل ذلك ، والله تعالى أعلم .

                                                                                        فهذا ما ظهر للفهم القاصر فتدبره . ( قوله : حتى لو أخذت من الأكار فله الرجوع على مالك الأرض ) قال الرملي يؤخذ منه أن ما هو مرتب من جهة الأعراب على المزارع ويسمى في عرفنا فلاحة العرب لو أخذت من الأكار جبرا يرجع على صاحب الأرض بما هو مرتب أو بحصته من المرتب لأنها من قسم الجبايات التي يأخذها الظلمة بغير حق تأمل . ا هـ .

                                                                                        وظاهره أن الأكار يرجع وإن لم يكفل مالك الأرض . ( قوله : وأما القسمة فقد قيل هي النوائب إلخ ) قال في اليعقوبية وقيل هي أجرة القسام وهي مطلوبة شرعا .




                                                                                        الخدمات العلمية