الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله برضا المحتال والمحال عليه ) لأن المحتال هو صاحب الحق وتختلف عليه الذمم فلا بد من رضاه لاختلاف الناس في الإيفاء ، وأما المحال عليه فيلزمه المال ويختلف عليه الطلب والناس متفاوتون قيد برضاهما ; لأنها لا تصح مع إكراه أحدهما كما قدمناه وأراد من الرضا القبول في مجلس الإيجاب لما قدمناه أن قبولهما في مجلس الإيجاب شرط الانعقاد ، وهو مصرح به في البدائع ولكن في البزازية لو أحال على غائب فقبل بعدما علم صحت ولا تصح في غيبة المحتال كالكفالة إلا أن يقبل [ ص: 270 ] رجل له الحوالة ا هـ .

                                                                                        فجعل القبول من المحتال والرضا منهما مع أنه قال الحوالة تعتمد قبول المحتال والمحال عليه ، ولم يذكر المصنف رضا المحيل فإنه ليس بشرط على ما ذكره محمد في الزيادات وشرطه القدوري وإنما شرطه للرجوع عليه فلا اختلاف في الروايات كما في إيضاح الإصلاح .

                                                                                        والحاصل أنها إن كانت بغير رضا المحيل وكان له دين على المحال عليه فله مطالبته بدينه وإن لم يكن له دين عليه فلا رجوع للمحال عليه ; لأنه قضى دينه بغير أمره كما في السراج الوهاج ، .

                                                                                        وكذا حضرته ليست شرطا حتى لو قيل لصاحب الدين لك على فلان ألف فاحتل بها علي ورضي الطالب بذلك وأجاز صحت فليس له أن يرجع بعد ذلك ، بخلاف ما لو قيل للمديون عليك ألف لفلان فأحله بها علي فقال المديون أحلت ، ثم بلغ الطالب فأجاز لا يجوز عند الإمام ومحمد كذا في البزازية ، وكذا لو كان المحتال غائبا كما قدمناه وفيها معزيا إلى المنتقى قال الآخر أحلني على فلان وسكت ، ثم قال لم أقبل فالحوالة جائزة ا هـ .

                                                                                        ولم يقيد المصنف رحمه الله تعالى بأن يكون الدين المحال به معلوما ، ولا بد منه لصحتها لما في البزازية احتال بمال مجهول على نفسه بأن قال احتلت بما يذوب لك على فلان لا تصح الحوالة مع جهالة المال ، ولا تصح أيضا الحوالة بهذا اللفظ ، والحوالة متى حصلت مبهمة يثبت الأجل في حق المحتال عليه كما في الكفالة ، ولو كان المال حالا على الذي عليه الأصل من قرض أو غصب فأحاله به على رجل إلى سنة فهو جائز ، وإن مات المحتال عليه قبل انقضاء الأجل عاد المال إلى المحيل حالا ، فرق بين الحوالة والكفالة فإن الكفيل إذا كفل بدين وأجل الطالب الدين ولم يضف الأجل إلى الكفيل صار الأجل مشروطا للأصيل حتى لو مات الكفيل كان الدين على الأصيل مؤجلا ، وفي الحوالة متى أضاف الأجل إلى الدين ولم يضف إلى المحتال عليه لا يصير الأجل مشروطا في حق الأصيل حتى لو مات المحتال عليه مفلسا لا يعود [ ص: 271 ] الدين إلى الأصيل حالا ا هـ .

                                                                                        ومن الغريب ما في المجتبى أحال الغريم بغير رضا المحال عليه لا يجوز وقيل يجوز كالتوكيل بقبض الدين ، وفي شروط الظهيرية رضا من عليه الحوالة ليس بشرط إجماعا .

                                                                                        قلت : معناه إذا كان المحال به مثل الدين . ا هـ .

                                                                                        والمذهب المعتمد أنه لا بد من رضا المحال عليه سواء كان عليه دين أو لا ، وسواء كان المحال به مثل الدين أو لا ، ثم اعلم أن الحوالة إذا صحت برضا المحال عليه وغاب المحيل فادعى المحال عليه ما يوجب براءة المحيل ليبرأ فهل تسمع دعواه ففي البزازية غاب المحيل وزعم المحتال عليه أن مال المحتال على المحيل كان ثمن خمر لا تصح دعواه ، وإن برهن على ذلك كما في الكفالة ا هـ .

                                                                                        وفي فروق الكرابيسي لو أحال امرأته بصداقها على رجل وقبل الحوالة ثم غاب الزوج فأقام المحتال عليه بينة أن نكاحها كان فاسدا ، وبين لذلك وجها لا تقبل بينته ولو ادعى أنها كانت أبرأت زوجها عن صداقها ، أو أن الزوج أعطاها المهر أو باع بصداقها منها شيئا ، وقبضت قبلت بينته وإن كان المبيع غير مقبوض لا تقبل بينته ، والفرق أن مدعي فساد النكاح متناقض أو ; لأنه يدعي أمرا مستنكرا فلا تسمع دعواه بخلاف دعوى الإبراء أو البيع ; لأنه غير مستنكر وكذا هذا في الكفالة ا هـ .

                                                                                        فعلى هذا لو ادعى المحيل أنه أوفاه الدين بعدها تسمع وتقبل بينته ; لأنه غير مستنكر .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله ولكن في البزازية لو أحال إلخ ) قال الرملي وفي الخانية ما يوافقه حيث قال صحة الإحالة تعتمد قبول المحتال له والمحال عليه ، ولا تصح في غيبة المحتال له في قول أبي حنيفة و محمد رحمهما الله كما قلنا في الكفالة إلا أن يقبل رجل الحوالة للغائب ، ولا تشترط حضرة المحتال عليه لصحة الحوالة حتى لو أحاله على رجل غائب ، ثم علم الغائب فقبل صحت الحوالة ا هـ ذكره الغزي ا هـ .

                                                                                        قلت : ومثله في الخلاصة وقد مر عند الكلام على شرائطها أن الصحيح قولهما بعدم صحتها في غيبة المحتال فلم تبق المخالفة بين ما هنا وما مر إلا في اشتراط [ ص: 270 ] حضرة المحال عليه وعلى ما هنا مشى في الدرر والغرر فقال وشرط حضور الثاني أي المحتال إلا أن يقبل فضولي له لا حضور الباقيين .

                                                                                        ( قوله فجعل القبول من المحتال ) قال الرملي بل جعله من المحتال عليه إذ الضمير راجع إليه تأمل ا هـ .

                                                                                        قلت : المراد من القبول ما يتوقف على المجلس وهو ما يكون أحد شطري العقد ، فقول البزازي فقبل أي فرضي فليس المراد به القبول الذي فسر به الرضا لكن قول المؤلف والرضا منهما غير ظاهر ; لأن المحيل في هذه الصورة موجب والمحتال قابل بدليل اشتراط حضوره نعم المحال عليه غائب ، وقد اكتفى برضاه ( قوله وكان له دين ) أي للمحيل ( قوله وإن لم يكن له دين ) أي للمديون الذي هو المحيل ، وقوله عليه أي على المحال عليه ( قوله وكذا حضرته ) أي المحيل ( قوله وكذا لو كان المحتال غائبا ) لعله المحتال عليه . ( قوله والحوالة متى حصلت مبهمة إلخ ) قال في الذخيرة من الفصل الثاني وأما المطلقة فالحالة منها أن يحيل المديون الطالب على رجل بألف درهم فيجوز ، ويكون الألف على المحتال عليه حالة ; لأن الحوالة لتحويل الدين من الأصيل ، وإنما يتحول على الصفة التي كانت على الأصيل ، وكانت على الأصيل حالة فيتحول إلى المحتال عليه حالة أيضا ، وليس للمحتال عليه أن يرجع على الأصيل قبل أن يؤدي ولكن إذا لوزم فله أن يلازم الأصيل ، وإذا حبس كان له أن يحبس الأصيل حتى يخلصه عن ذلك كما في الكفيل ، وإذا أدى يرجع على الأصيل بما أدى .

                                                                                        وأما المطلقة المؤجلة رجل له على رجل ألف درهم من ثمن مبيع إلى سنة فأحال بها على رجل إلى سنة فالحوالة جائزة ، والمال على المحتال عليه إلى سنة ; لأنه قبل كذلك ، ولم يذكر محمد في الأصل ما إذا حصلت الحوالة مبهمة هل يثبت الأجل في حق المحتال عليه قالوا وينبغي أن يثبت كما في الكفالة ، وهذا لأن المحتال عليه متحمل عن الأصيل ، وإنما يتحمل ما على الأصيل وعلى الأصيل دين مؤجل فيجب على المحتال عليه كذلك ، وإن مات الذي عليه الأجل لم يحل المال على المحتال عليه ; لأن حلول الأجل في حق الأصيل للاستغناء عن المؤجل بموته وهذا المعنى لا يتأتى في حق المحتال عليه ; لأنه حي محتاج إلى الأجل لو حل الأجل في حقه إنما يحل تبعا لحلوله على الأصيل ولا وجه إليه ; لأن الأصيل برئ عن الدين بالحوالة فالتحق بسائر الأجانب ، وإن مات المحتال عليه قبل حلول الأجل والذي عليه الأصل حي حل المال عليه لأنه بالموت استغنى عن الأجل فإن لم يكن له وفاء رجع المحتال له بالمال على الذي عليه الأصل إلى أجله ، وإن سقط حكما للحوالة وقد انتقضت بموت المحتال عليه فينتقض ما في ضمنها وهو سقوط الأجل ، وكان بمنزلة ما لو باع المديون بدين مؤجل عبدا من الطالب ، ثم استحق العبد عاد الأجل لأن سقوط الأجل كان بحكم البيع كذا هاهنا .

                                                                                        وإن كان المال حالا على الذي عليه الأصل من قرض ، وأحال بها على رجل إلى سنة فهو جائز ، وإن كان هذا تأجيلا في القرض ; لأن المال إنما يجب على المحتال عليه بحكم الحوالة لا بالقرض ، والتأجيل في الحوالة جائز وكان بمنزلة ما لو أجل الطالب الكفيل بالقرض فإنه يجوز ; لأن المال يجب على الكفيل بعقد الكفالة [ ص: 271 ] لا بالقرض ، والواجب بالكفالة يقبل الأجل ا هـ .




                                                                                        الخدمات العلمية