قوله إلى آخره ، وأن يكون مجتهدا قال في الفتح القدير واعلم أن ما ذكر في القاضي ذكر في المفتي فلا يفتي إلا المجتهد ، وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس مفتيا ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد ( والمفتي ينبغي أن يكون هكذا ) أي موثوقا به في دينه وعفافه على جهة الحكاية فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي ، وطريق نقله لذلك عن المجتهد أحد أمرين إما أن يكون له سند فيه ، أو يأخذه من كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب كأبي حنيفة ونحوها من التصانيف المشهورة للمجتهدين ; لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور هكذا ذكر محمد بن الحسن فعلى هذا لو وجد بعض نسخ النوادر في زماننا لا يحل عزو ما فيها إلى الرازي ولا إلى محمد ; لأنها لم تشتهر في عصرنا في ديارنا ، ولم تتداول نعم إذا وجد النقل عن النوادر مثلا في كتاب مشهور معروف كالهداية والمبسوط كان ذلك تعويلا على ذلك الكتاب ، فلو كان حافظا للأقاويل المختلفة للمجتهدين ولا يعرف الحجة ولا قدرة له على الاجتهاد للترجيح لا يقطع بقول منها يفتى به بل يحكيها للمستفتي فيختار المستفتي ما يقع في قلبه أنه الأصوب . أبي يوسف
ذكره في بعض الجوامع ، وعندي لا يجب عليه حكاية كلها بل يكفيه أن يحكي قولا منها فإن المقلد له أن يقلد أي مجتهد شاء ، فإذا ذكر أحدها فقلده حصل المقصود نعم لا يقطع عليه فيقول جواب مسألتك كذا ، بل يقول قال حكم هذا كذا نعم لو حكى الكل فالأخذ بما يقع في قلبه أنه أصوب أولى ، وإلا فالعامي لا عبرة بما يقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه ، وعلى هذا إذا أبو حنيفة الأولى بأن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما ، وعندي أنه لو أخذ بقول الذي لا يميل إليه قلبه جاز ; لأن ذلك الميل وعدمه سواء ، والواجب عليه تقليد مجتهد ، وقد فعل أصاب ذلك المجتهد أو أخطأ وقالوا المنتقل من مذهب إلى مذهب باجتهاد وبرهان آثم يستوجب التعزير فبلا اجتهاد وبرهان أولى ولا بد أن يراد بهذا الاجتهاد معنى التحري وتحكيم القلب ; لأن العامي ليس له اجتهاد ، ثم حقيقة الانتقال إنما [ ص: 290 ] تتحقق في حكم مسألة خاصة قلد فيه وعمل به ، وإلا فقوله قلدت استفتى فقيهين أعني مجتهدين فاختلفا عليه فيما أفتى به من المسائل والتزمت العمل به على الإجماع ، وهو لا يعرف صورها ليس حقيقة التقليد بل هذا حقيقة تعليق التقليد ، أو وعد به كأنه التزم أن يعمل بقول أبا حنيفة فيما يقع له من المسائل التي تتعين في الوقائع . أبي حنيفة
فإن أرادوا هذا الالتزام فلا دليل على وجوب اتباع المجتهد المعين بالتزام نفسه ذلك قولا أو نية شرعا ، بل دليل اقتضى العمل بقول المجتهد فيما احتاج إليه بقوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } والسؤال إنما يتحقق عند طلب حكم الحادثة المعينة ، وحينئذ إذا ثبت عنده قول المجتهد وجب عمله به ، والغالب أن مثل هذا إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص ، وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد .
قوله أخف عليه وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل ، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد سوغ له الاجتهاد وما علمت من الشرع ذمه عليه وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته إلى هنا ما في فتح القدير ، ولم يبسط أصحابنا الكلام على المفتي والمستفتي في المتون والشروح ، وإنما ذكر أصحاب الفتاوى بعض مسائلهما ، وقد بسط الكلام عليهما في الروض في كتاب القضاء فأحببت نقله ; لأن قواعدنا لا تأباه ، ثم أنبه بعده على نقل البعض لمذهبنا والله تعالى أعلم .