( قوله : ) لأنه الواجب عليه فيجب تعيينه وإخلاصه لله تعالى فلا ينوي الدعاء للميت فقط نظرا إلى أنها ليست بصلاة حقيقة فإن مطلق الدعاء لا يحتاج إلى نية . ( قوله : واستقبال القبلة ) يعني من شروطها وللجنازة ينوي الصلاة لله والدعاء للميت عند القدرة وهو استفعال من قبلت الماشية الوادي بمعنى قابلته وليس السين فيه للطلب ; لأن طلب المقابلة ليس هو الشرط بل الشرط المقصود بالذات المقابلة فهو بمعنى فعل كاستمر واستقر والقبلة في الأصل الحالة التي يقابل الشيء عليها غيره كالجلسة للحالة التي يجلس عليها والآن ، وقد صارت كالعلم للجهة التي تستقبل في الصلاة وسميت بذلك لأن الناس يقابلونها في صلاتهم وتقابلهم وهو شرط بالكتاب لقوله تعالى { استقبال القبلة فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } واختلف في المراد بالمسجد هنا فقيل المسجد الكبير الذي فيه الكعبة ; لأن عين الكعبة يصعب استقبالها لصغرها وقيل الحرم كله ; لأنه قد يطلق ويراد به الحرم كما في قوله { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } والصحيح كما ذكره الإمام نجم الدين في تفسيره والنووي في شرح المهذب أن المراد به الكعبة فهي القبلة كما يدل عليه عامة الأحاديث ومنها ما في صحيح عن مسلم { البراء بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، ثم صرفنا نحو الكعبة } والنكتة في ذكر صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسجد الحرام وإرادة الكعبة كما في الكشاف وحواشيه الدلالة على أن الواجب في حق الغائب هو الجهة ، وبالسنة كثير منها قوله صلى الله عليه وسلم { } رواه للمسيء صلاته إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة وكبر وانعقد [ ص: 300 ] الإجماع مسلم
عليه وفي عدة الفتاوى الكعبة إذا رفعت عن مكانها لزيارة أصحاب الكرامة ففي تلك الحالة جازت صلاة المتوجهين إلى أرضها . ( قوله : فللمكي فرضه إصابة عينها ) أي عين القبلة بمعنى الكعبة للقدرة على اليقين أطلق في المكي فشمل من كان بمعاينتها ومن لم يكن حتى لو صلى مكي في بيته ينبغي أن يصلي بحيث لو أزيلت الجدران يقع استقباله على شطر الكعبة بخلاف الآفاقي فإنه لو أزيلت الموانع لا يشترط أن يقع استقباله على عين الكعبة لا محالة ، كذا في الكافي وهو ضعيف قال في الدراية من كان بينه وبين الكعبة حائل الأصح أنه كالغائب ولو كان الحائل أصليا كالجبل كان له أن يجتهد والأولى أن يصعده ليصل إلى اليقين ، وفي التجنيس من كان بمعاينة الكعبة فالشرط إصابة عينها ومن لم يكن بمعاينتها فالشرط إصابة جهتها وهو المختار وفي فتح القدير وعندي في جواز التحري مع إمكان صعوده إشكال ; لأن المصير إلى الدليل الظني وترك القاطع مع إمكانه لا يجوز وما أقرب قوله في الكتاب والاستخبار فوق التحري فإذا امتنع المصير إلى الظني لإمكان ظني أقوى منه فكيف يترك اليقين مع إمكانه للظن .
( قوله : ولغيره إصابة جهتها ) أي لغير المكي فرضه إصابة جهتها وهو الجانب الذي إذا توجه إليه الشخص يكون مسامتا للكعبة أو لهوائها إما تحقيقا بمعنى أنه لو فرض خطا من تلقاء وجهه على زاوية قائمة إلى الأفق يكون مارا على الكعبة أو هوائها وإما تقريبا بمعنى أن يكون ذلك منحرفا عن الكعبة أو هوائها انحرافا لا تزول به المقابلة بالكلية بأن بقي شيء من سطح الوجه مسامتا لها ; لأن المقابلة إذا وقعت في مسافة بعده لا تزول بما تزول به من الانحراف لو كانت في مسافة قريبة ويتفاوت ذلك بحسب تفاوت البعد وتبقى المسامتة مع انتقال مناسب لذلك البعد فلو فرض مثلا خطا من تلقاء وجه المستقبل للكعبة على التحقيق في بعض البلاد وخط آخر يقطعه على زاويتين قائمتين من جانب يمين المستقبل وشماله لا تزول تلك المقابلة بالانتقال إلى اليمين والشمال على ذلك الخط بفراسخ كثيرة ولهذا وضع العلماء قبلة بلد وبلدين وبلاد على سمت واحد وفي فتاوى قاضي خان وجهة الكعبة تعرف بالدليل والدليل في الأمصار والقرى المحاريب التي نصبها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم أجمعين فعلينا اتباعهم في استقبال المحاريب المنصوبة ، فإن لم يكن فالسؤال من الأهل ، أما البحار والمفاوز فدليل القبلة النجوم إلى آخره وفي المبتغى في معرفة الجهة أربعة أوجه : أحدها - في أقصر يوم من السنة وقت طلوع الشمس فاجعل عين الشمس عند مطلعها على رأس أذنك اليسرى فإنك تدركها .
وثانيها - فاجعل عين الشمس على مؤخر عينك اليسرى عند الزوال فإنك تصيبها . وثالثها - فاجعل الشمس على مقدم [ ص: 301 ] عينك اليمنى مما يلي الأنف عند صيرورة ظل كل شيء مثليه بعد زوالها فإنك تدركها ورابعها فاجعل عين الشمس على مؤخر عينك اليمنى عند غروب الشمس فإنك تدركها ، ووجه آخر أنه إذا كان قبل المهرجان بشهر فاستقبل العقرب وقت صلاة العشاء الأخيرة فإنك تدركها وإذا جعلت بنات نعش الصغرى على أذنك اليمنى وانحرفت قليلا إلى شمالك فإنك تدركها وذكر بعضهم أن أقوى الأدلة القطب وهو نجم صغير في بنات نعش الصغرى بين الفرقدين والجدي إذا جعله الواقف خلف أذنه اليمنى كان مستقبلا القبلة إن كان بناحية الكوفة وبغداد وهمدان وقزوين وطبرستان وجرجان وما والاها إلى نهر الشاش ويجعله من بمصر على عاتقه الأيسر ومن بالعراق على عاتقه الأيمن فيكون مستقبلا باب الكعبة وباليمن قبالة المستقبل مما يلي جانبه الأيسر وبالشام وراءه وفي معرفة الجهة أقوال أخرى مذكورة في الخانية وغيرها أطلق في الاكتفاء بالجهة فأفاد أنه لا يشترط نية الكعبة وشرطها الجرجاني بناء على أن الفرض إصابة العين للقريب والبعيد ولا يمكن إصابة العين للبعيد إلا من حيث النية فانتقل ذلك إليها وذهب العامة إلى عدم اشتراط إصابة العين فلا يشترط نيتها لعدم الحاجة إلى ذلك فإن إصابة الجهة تحصل من غير نية العين ، فالحاصل أن نية استقبال القبلة ليست بشرط على الصحيح من المذهب سواء كان الفرض إصابة العين في حق المكي أو إصابة الجهة في حق غيره كما صححه في التحفة والتجنيس والخلاصة وغيرها حتى قال في البدائع الأفضل أن لا ينوي الكعبة لاحتمال أن لا تحاذي هذه الجهة الكعبة فلا تجوز صلاته
وإنما كان هذا هو الصحيح ; لأن استقبالها شرط من الشرائط فلا يشترط فيه النية كالوضوء وغيره وعلى هذا فقولهم لو نوى بناء الكعبة لا يجوز ; لأن المراد بالكعبة العرصة لا البناء إلا أن يريد بالبناء جهة الكعبة فيجوز ذكره في المحيط وغيره ، وقولهم ولو نوى أن قبلته محراب مسجده لا يجوز ; لأنه علامة وليس بقبلة كما في الخانية وقولهم : لو نوى مقام إبراهيم ولم ينو الكعبة قيل : لا يجوز إلا أن ينوي الجهة وقيل : إن لم يكن الرجل أتى مكة أجزأه وإلا لا يجوز واختاره في الخانية و البدائع والمحيط مبني على الضعيف الشارط للنية ، أما على الصحيح فيجوز كما ذكره ابن أمير حاج وذكر عن بعضهم أن ثمرة الخلاف عند أصحابنا تظهر أيضا في الانحراف قليلا فمن قال الفرض التوجه إلى العين لم تصح صلاته ومن قال الجهة صححها وسيأتي في باب الصلاة في الكعبة أن الصواب أن يقال القبلة هي العرصة لا الكعبة ; لأنها البناء وفي الفتاوى الانحراف المفسد أن يجاوز المشارق إلى المغارب وفي التجنيس وإذا حول وجهه لا تفسد صلاته وتفسد بصدره قيل هذا أليق بقولهما ، أما عنده فلا تفسد في الوجهين بناء على أن الاستدبار إذا لم يكن على قصد الرفض لا تفسد ما دام في المسجد عنده خلافا لهما حتى لو انصرف عن القبلة على ظن الإتمام فتبين عدمه بنى ما دام في المسجد عنده خلافا لهما . ا هـ .
وفي فتح القدير ولقائل أن يفرق بينهما بعذره هناك وتمرده هنا والحاصل أن المذهب أنه إذا حول صدره فسدت وإن كان في المسجد إذا كان من غير عذر كما عليه عامة الكتب وفي الظهيرية ومن صلى إلى غير جهةالكعبة متعمدا لا يكفر هو الصحيح ; لأن ترك جهة الكعبة جائز في الجملة بخلاف الصلاة بغير طهارة لعدم الجواز بغير طهارة بحال واختاره الصدر الشهيد .
والحاصل أن حكم الفرض لزوم الكفر بجحده لا بتركه ، وإنما قال بالكفر في هذه المسائل بمجرد الترك عمدا للزوم الاستهزاء به والاستخفاف وهو يقتضي أنه لا فرق في المسائل إذ لا أثر لعدم الجواز في شيء من الأحوال بل الموجب [ ص: 302 ] للإكفار هو الاستهانة وهو ثابت في الكل وإلا فهو منتف في الكل وألحق في فتح القدير الصلاة في الثوب النجس كالصلاة بغير طهارة وهو مشكل فإن بعض أئمة المالكية يقول بأن إزالتها سنة لا فرض ولا يكفر بجحد المختلف فيه فكيف يتركه من غير جحد كما أشار إليه أبو حنيفة قاضي خان في فتاويه وحكي في الذخيرة الاختلاف فيما إذا صلى بغير طهارة ، ثم قال ولو ابتلي إنسان بذلك لضرورة بأن كان مع قوم فأحدث واستحيا أن يظهر فكتم ذلك وصلى هكذا أو كان بقرب العدو فقام يصلي وهو غير طاهر قال بعض مشايخنا لا يكون كافرا لأنه غير مستهزئ ومن ابتلي بذلك لضرورة أو لحياء ينبغي أن لا يقصد بالقيام قيام الصلاة ولا يقرأ شيئا وإذا حنى ظهره لا يقصد الركوع ولا يسبح حتى لا يصير كافرا بالإجماع .