الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : ومن اشتبهت عليه القبلة تحرى ) أي إذا عجز عن تعرف القبلة بغير التحري لزمه التحري وهو بذل المجهود لنيل المقصود ; لأن الصحابة تحروا وصلوا وقيل في قوله تعالى { فأينما تولوا فثم وجه الله } أي قبلته أنها نزلت في الصلاة حالة الاشتباه قيدنا بالعجز عن التعرف إلا به ; لأنه لو قدر على تعرف القبلة بالسؤال من أهل ذلك الموضع ممن هو عالم بالقبلة فلا يجوز له التحري ; لأن الاستخبار فوقه لكون الخبر ملزما له ولغيره والتحري ملزم له دون غيره فلا يصار إلى الأدنى مع إمكان الأعلى بخلاف ما إذا لم يكن من أهله فإنه لا يقلده ; لأن كحاله ، فإن لم يخبره المستخبرين سأله فصلى بالتحري ، ثم أخبره لا يعيد [ ص: 303 ] ولو كان مخطئا وبناء على هذا ما ذكر في التجنيس تحرى فأخطأ فدخل في الصلاة وهو لا يعلم ، ثم علم وحول وجهه إلى القبلة فدخل رجل في صلاته ، وقد علم حالته الأولى لا تجوز صلاة الداخل لعلمه أن الإمام كان على الخطأ في أول الصلاة . ا هـ .

                                                                                        وكذا إذا كان في المفازة والسماء مصحية وله علم بالاستدلال بالنجوم على القبلة لا يجوز له التحري ; لأن ذلك فوقه وفي الظهيرية رجل صلى بالتحري إلى الجهة في المفازة والسماء مصحية لكنه لا يعرف النجوم فتبين أنه أخطأ القبلةهل يجوز قال رضي الله عنه قال أستاذنا ظهير الدين المرغيناني يجوز وقال غيره لا يجوز ; لأنه لا عذر لأحد في الجهل بالأدلة الظاهرة المعتادة نحو الشمس والقمر وغير ذلك ، أما دقائق علم الهيئة وصور النجوم الثوابت فهو معذور في الجهل بها . ا هـ .

                                                                                        فالحاصل أن محل التحري أن يعجز عن الاستقبال بانطماس الأعلام وتراكم الظلام وتضام الغمام كما ذكره المصنف في كافيه وهو يرجح ما في الظهيرية من أن السماء إذا كانت مصحية لا يجوز التحري ولا يعذر بالجهل وذكر الشارح أنه لا يجوز التحري مع المحاريب وفي الظهيرية رجل اشتبهت عليه القبلة في المسجد ولم يكن أحد يعرفه القبلة قال في الأصول يجوز له التحري ; لأنه عجز عمن يسأله فصار كالمفازة وقال أئمة بلخ منهم الفقيه أبو جعفر لا تجوز له الصلاة بالتحري وعلل فقال إن هذه نائبة العقبى فتعتبر بنائبة الدنيا ولو حدثت به نائبة الدنيا فإنه يستغيث بجيران المسجد كذلك هاهنا يجب أن يستغيث بهم وإن كان في مسجد نفسه قال بعضهم هو كالبيت لا يجوز له التحري وقال بعضهم مسجده ومسجد غيره سواء وروى أبو جعفر عن سلام بن حكيم أنه قال محاريب خراسان كلها منصوبة إلى الحجر الأسود والحجر الأسود إلى ميسرة الكعبة ومن توجه إلى الكعبة ومال بوجهه إلى ميسرة الكعبة وقع وجهه إلى جبل أبي قبيس ومن مال بوجهه إلى يمينها وقع وجهه إلى الكعبة ولهذا قيل : يجب أن يميل إلى يمينها قال ومحاريب الدنيا كلها نصبت بالتحري حتى منى ولم يزد عليه شيئا وهذا خلاف ما نقل عن أبي بكر الرازي في محراب المدينة أنه مقطوع به فإنه إنما نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي بخلاف سائر البقاع حتى قيل : إن محراب منى نصب بالتحري والعلامات وهو أقرب المواضع إلى مكة . ا هـ .

                                                                                        وبهذا تبين أن قولهم لغير المكي إصابة جهتها ليس على إطلاقه بل في غير المدني فإن المدني كالمكي يفترض عليه إصابة عينها كما صرح به في السراج الوهاج أيضا وأطلق في الاشتباه فشمل ما إذا كان بمكة أو بالمدينة بأن كان محبوسا ولم يكن بحضرته من يسأله فصلى بالتحري ، ثم تبين أنه أخطأ روي عن محمد أنه لا إعادة عليه وكان الرازي يقول تلزمه الإعادة ; لأنه تيقن بالخطأ إذا كان بمكة أو بالمدينة والأول أحسن ، كذا في الظهيرية وفي فتاوى قاضي خان رجل صلى في المسجد في ليلة مظلمة بالتحري فتبين أنه صلى إلى غير القبلة جازت صلاته ; لأنه ليس له أن يقرع أبواب الناس للسؤال عن القبلة ولا يعرف القبلة بمس الجدران والحيطان ; لأن الحائط لو كانت منقوشة لا يمكنه تمييز المحراب من غيره وعسى يكون ثم هامة مؤذية فجاز له التحري ا هـ .

                                                                                        وقيد بالاشتباه ; لأنه لو صلى في الصحراء إلى جهة من غير شك ولا تحر إن تبين أنه أصاب أو كان أكبر رأيه أو لم يظهر من حاله شيء حتى ذهب عن الموضع فصلاته جائزة وإن تبين أنه أخطأ أو كان أكبر رأيه فعليه الإعادة وقيد بالتحري ; لأن من صلى ممن اشتبهت عليه بلا تحر فعليه الإعادة إلا إن علم بعد الفراغ أنه أصاب ; لأن ما افترض لغيره يشترط حصوله لا تحصيله وإن علم في الصلاة أنه أصاب يستقبل خلافا لأبي يوسف لما ذكرنا قلنا حالته قويت بالعلم وبناء القوي على الضعيف لا يجوز ، أما لو تحرى وصلى إلى غير جهة التحري ففي الخلاصة والخانية عن أبي حنيفة أنه يخشى عليه الكفر لإعراضه عن القبلة وفي الذخيرة اختلف [ ص: 304 ] المشايخ في كفره ; لأنه صارت قبلة في حقه وفي الظهيرية وظن بعض أصحابنا أن الجهة التي أدى إليها التحري قبلة على الحقيقة وعندنا وهذا غير مرضي ففيه قول بأن كل مجتهد يصيب الحق لا محالة ولا نقول به لكن المجتهد يخطئ مرة ويصيب أخرى . ا هـ .

                                                                                        وأما صلاته فلا تجزئه وإن أصاب مطلقا خلافا لأبي يوسف وفي فتح القدير هي مشكلة على قولهما ; لأن تعليلهما في هذه وهو أن القبلة في حقه جهة التحري ، وقد تركها يقتضي الفساد مطلقا في صورة ترك التحري ; لأن ترك جهة التحري تصدق مع ترك التحري وتعليلهما في تلك بأن ما فرض لغيره يشترط مجرد حصوله كالسعي يقتضي الصحة في هذه وعلى هذا لو صلى في ثوب وعنده أنه نجس ، ثم ظهر أنه طاهر أو صلى وعنده أنه محدث فظهر أنه متوضئ أو صلى الفرض وعنده أن الوقت لم يدخل فظهر أنه كان قد دخل لا يجزئه ; لأنه لما حكم بفساد صلاته بناء على دليل شرعي وهو تحريه فلا ينقلب جائزا إذا ظهر خلافه وهذا التعليل يجري في مسألة العدول عن جهة التحري إذا ظهر صوابه وبه يندفع الإشكال الذي أوردناه ; لأن دليل الشرع على الفساد هو التحري أو اعتقاد الفساد عن التحري فإذا حكم بالفساد دليل شرعي لزم وذلك منتف في صورة ترك التحري فكان ثبوت الفساد فيها قبل ظهور الصواب إنما هو لمجرد اعتقاده الفساد فيؤاخذ باعتقاده الذي ليس بدليل إذا لم يكن عن تحر وفي فتاوى العتابي تحرى فلم يقع تحريه على شيء قيل يؤخر وقيل يصلي إلى أربع جهات وقيل يخير وفي الظهيرية ولو تحرى رجل واستوى الحالان عنده ولم يتيقن بشيء ولكن صلى إلى جهة إن ظهر أنه أصاب القبلة جاز وإن ظهر أنه أخطأ فكذلك وإن لم يظهر له شيء جازت صلاته وفي الخلاصة وعن محمد لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات جاز ، ثم اختلف المتأخرون فيما إذا تحول رأيه إلى الجهة الأولى بالتحري فمنهم من قال يتم الصلاة ومنهم من قال يستقبل . ا هـ .

                                                                                        وفي البغية لو صلى إلى جهة بتحر ، ثم تحول رأيه في الركعة الثانية إلى جهة أخرى فتحول وتذكر أنه ترك سجدة من الركعة الأولى فسدت صلاته وفي الظهيرية ويجوز التحري لسجدة التلاوة كما يجوز للصلاة . ( قوله : وإن أخطأ لم يعد ) ; لأنه أتى بالواجب في حقه وهو الصلاة إلى جهة تحريه بخلاف من توضأ بماء أو صلى في ثوب على ظن أنه طاهر ، ثم تبين أنه نجس حيث يعيد الصلاة لأنه ترك ما أمر به [ ص: 305 ] وهو الصلاة في ثوب طاهر وعلى طهارة وهو قد أتى بما أمر به وهو التحري وفي الكافي ما يدل على جواز التحري في الأواني والثياب وفيه تفصيل مذكور في الظهيرية قال ويجوز التحري في الثوب الواحد حالة الضرورة والثوبين والثياب وإن كان النجس غالبا وفي الإناءين لا يجوز إلا رواية عن أبي يوسف لكنه إذا توضأ بهما واحدا بعد واحد وصلى ينظر إن توضأ بالأول وصلى جاز ; لأن وضوءه من الأول تحر منه أنه طاهر كما لو قال لامرأتيه إحداكما طالق ، ثم وطئ إحداهما تعينت الأخرى للطلاق فلو توضأ بالثاني ، ثم صلى ينبغي أن لا تجوز صلاته ; لأنه توضأ بماء نجس وإن لم يحدث ولم يصل بعدما توضأ من الأول حتى توضأ بالثاني قال عامتهم لا يجوز ; لأن أعضاءه صارت نجسة وقال بعضهم يجوز وهو الصحيح ; لأنه لما لم يجز التحري عندنا لغلبة النجاسة أو لاستواء الطاهر بالنجس يهريق المياه كلها ويتيمم ويصلي أو يخلط المياه كلها حتى تصير المياه كلها نجسة ، ثم يتيمم احترازا عن إضاعة الماء ولو لم يهرقها جاز له التيمم قالوا هذا قول أبي حنيفة وقالا : لا يجوز تيممه إلا بعد الإراقة وقال ابن زيادة يخلطها ، ثم يتيمم وإن كان عند ثلاثة ثلاث أو أن أحدها نجس ووقع تحري كل واحد منهم على إناء جازت صلاتهم فرادى ولو كان أحدهما سؤر حمار والآخر طاهرا يتوضأ بهما ولا يتيمم ا هـ .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : قيدنا بالعجز مع قوله وكذا إذا كان في المفازة إلخ ) قال في النهر قيد القدوري بأن لا يكون بحضرته من يسأله ، فإن كان وهو من أهل ذلك المكان مقبول الشهادة قدم على التحري وحد الحضرة أن يكون بحيث لو صاح به سمعه وقيده غيره بأن تكون السماء مغيمة ، فإن كانت مصحية لا يجوز ولو جاهلا ; لأنه ليس بعذر وكان المصنف استغنى عن القيد الأول بذكر الاشتباه وذلك أن تحققه إنما يكون عند فقد الدليل وأهمل الثاني لعدم اعتباره عند آخرين وعليه إطلاق عامة المتون [ ص: 303 ] ( قوله : وبهذا تبين أن قولهم لغير المكي إلخ ) قال العلامة المقدسي فيما نقل عنه لم يتبين بما ذكر أن المدني كالمكي في لزوم إصابة العين ; لأن غاية ما لزم مما ذكر أن محراب المدينة لا يجوز معه التحري ويجب الاعتماد عليه لكونه مقطوعا به ، أما لكونه على أقرب الجهات أو على نفس العين وما بعد عنده من أماكن المدينة مما هو على سمت الاستقامة لا يكون على العين قطعا فيتعين اتباع جهته ولا يجوز العدول عنها كيف ، وقد قالوا في نفس مكة مع الحائل تكون كغيرها . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : لأن الحائط لو كانت منقوشة إلخ ) قال الشيخ إسماعيل هذا القول يصح في بعض المساجد ، فأما في أكثر المساجد فيمكن تمييز المحراب من غيره في الليلة المظلمة من غير إيذاء كما شاهدنا في أكثر المواضع فلا يجوز التحري في مسجد ، كذا في المفتاح . ( قوله : لما ذكرنا ) أي من أن ما افترض لغيره إلخ وهو تعليل لقول أبي يوسف رحمه الله [ ص: 304 ] ( قوله : وأما صلاته ) أي صلاة المصلي إلى غير جهة تحريه . ( قوله : وإن أصاب مطلقا ) لينظر ما المراد بهذا الإطلاق ولعل المراد به سواء تبين أنه أصاب في الصلاة أو بعدها تأمل . ( قوله : يقتضي الفساد مطلقا ) أي سواء علم بعد الفراغ أنه أصاب أو لم يعلم . ( قوله : إنما هو لمجرد اعتقاده الفساد إلخ ) فيه بحث ; لأن غاية ما ثبت في صورة ترك التحري عدم الجزم وذلك لا يستلزم اعتقاد الفساد ومجرد اعتقاد الفساد ليس بدليل شرعي فلا يستلزم الفساد لما قدمه أن دليل الفساد هو التحري أو الاعتقاد الناشئ عنه وبدون الدليل المعتبر أين يجيء الفساد حتى يؤاخذ به فالمناسب في تقرير الجواب ما في شرح المنية للعلامة الحلبي حيث قال بخلاف صورة عدم التحري فإنه لم يعتقد الفساد بل هو شاك في الجواز وعدمه على السواء فإذا ظهر إصابته بعد تمام الفعل زال أحد الاحتمالين وتقرر الآخر ، وإنما لم يجز البناء إذا علم الإصابة قبل التمام لما قلنا من لزوم بناء القوي على الضعيف ولا كذلك بعد التمام . ا هـ .

                                                                                        وأما إذا لم يعلم الحال لا في الصلاة ولا بعدها فمقتضى ما مر من أن عليه الإعادة إلا إن علم بعد الفراغ أنه أصاب وجوب الإعادة ولكن ما سيأتي في تعليل مسألة ما إذا صلى من غير شك ولا تحر من حيث إنه لا إعادة عليه إذا غاب عن ذلك الموضع ولم يظهر الحال بأن الأصل الجواز ولم يوجد ما يرفعه قد يظن جريان هذا التعليل هنا فيقتضي الصحة أيضا ويجاب بأن وجود الشك هنا ينافي كون الجواز هو الأصل . ( قوله : وقيل يخير ) أي إن شاء أخر وإن شاء صلى الصلاة أربع مرات إلى أربع جهات وهذا هو الأحوط ، كذا في شرح المنية وذكر ابن الهمام في زاد الفقير القول الأول جاز ما به وعبر عن القولين بعده بقيل ، قلت : وذكر في آخر المستصفى أنه إذا ذكر ثلاثة أقوال فالراجح هو الأول أو الأخير لا الوسط ولا يظهر ما اختاره في شرح المنية كيف وفيه الصلاة إلى غير القبلة بيقين وهو منهي عنه والتوجه إلى القبلة إنما يجب عند القدرة عليه فيلزم عليه فعل المنهي لأجل المأمور وترك النهي مقدم على فعل المأمور والظاهر أن معنى القول الأخير أنه يخير في الصلاة إلى أي جهة شاء يدل عليه ما نقله المؤلف بعده عن الظهيرية ; لأن حاصله أنه لو صلى إلى أي جهة أراد جازت صلاته وإن ظهر أنه أخطأ ; لأنه لم يبق مكلفا بجهة خاصة حيث لم يوجد عنده المرجح لأحدها على غيره والطاعة بقدر الطاقة ولا تقصير منه بذلك ، فإن قيل يؤخر الصلاة ; لأن جهته جهة تحريه ولم توجد فله وجه وإن قيل أنه يخير في الجهة ; لأن التحري إنما يجب حيث أمكن فله وجه ، وأما أنه يصلي إلى أربع جهات فلا يظهر وجهه فتأمل . ( قوله : إلى أربع جهات ) أي بأن تحول رأيه في كل ركعة إلى جهة غير التي صلى إليها [ ص: 305 ] ( قوله : لأنه لما لم يجز التحري إلخ ) هذا التعليل غير موافق للمعلل ولعل في العبارة سقطا فليتأمل .




                                                                                        الخدمات العلمية