( قوله وقرأ تشهد رضي الله عنه ) ، وهو ما رواه أصحاب الكتب الستة ، وهو : التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن ابن مسعود محمدا عبده [ ص: 343 ] ورسوله فسمي تشهدا تسمية للكل باسم جزئه الأشرف ; لأن أشرف أذكاره ، ثم في تفسير ألفاظها أقوال كثيرة ، أحسنها : أن التحيات العبادات القولية والصلوات العبادات البدنية والطيبات العبادات المالية فجميع العبادات لله تعالى لا يستحقه غيره ولا يتقرب بشيء منه إلى ما سواه ، ثم هو على مثال من يدخل على الملوك فيقدم الثناء أولا ، ثم الخدمة ثانيا ، ثم بذل المال ثالثا ، وأما قوله : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته حكاية سلام الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام فهي ثلاثة بمقابلة الثلاث التي أثنى بها النبي صلى الله عليه وسلم على ربه ليلة الإسراء ، والسلام من سلم الله تعالى عليه أو من تسليمه من الآفات وإلا ظهر أن المراد بالرحمة هنا نفس الإحسان منه تعالى لا إرادته ; لأن المراد الدعاء بها والدعاء إنما يتعلق بالممكن والإرادة قديمة بخلاف نفس الإحسان ، والبركة النماء والزيادة من الخير التشهد
ويقال : البركة جماع كل خير ، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أعطى سهما من هذه الكرامة لإخوانه الأنبياء والملائكة وصالح المؤمنين من الإنس والجن ; لأنه يعمهم كما شهدت به السنة الصحيحة حيث قال صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض ، والعباد جمع عبد ، قال بعضهم : ليس شيء أشرف من العبودية ، ومراده من صفات المخلوقين وإلا فهي منبئة عن النقص لدلاتها على الحاجة والافتقار كما ذكره الغزالي في جواهر القرآن وعرفها النسفي بأنها الرضا بما يفعله الرب ، والعبادة فعل ما يرضي الرب وأن العبودية أقوى منها ; لأنها لا تسقط في العقبى بخلاف العبادة والصالح هو القائم بحقوق الله وحقوق عباده ولذا وصف الأنبياء نبينا عليه الصلاة والسلام به ليلة الإسراء فقالوا : مرحبا بالنبي الصالح ولذا قالوا لا ينبغي الجزم به في حق شخص معين من غير شهادة الشارع له به ، وإنما يقال هو صالح فيما أظن أو في ظني خوفا من الشهادة بما ليس فيه ، وأشهد معناه أعلم وأتيقن ألوهية الله تعالى وحده لا شريك له وعبودية ورسالته صلى الله عليه وسلم وقدمت العبودية على الرسالة لما قدمناه أنها أشرف صفاته ، ولهذا وصفه الله تعالى بها في قوله تعالى { محمد سبحان الذي أسرى بعبده } وفي قوله تعالى { فأوحى إلى عبده ما أوحى } واختير لفظ الشهادة دونهما ; لأنها أبلغ في معناها وأظهر منهما لكونها مستعملة في ظواهر الأشياء وبواطنها ، بخلاف العلم واليقين فإنهما يستعملان غالبا في البواطن فقط ، ولذا لو أتى الشاهد بلفظ أعلم أو أتيقن مكان أشهد لم تقبل شهادته
وإنما ذكرنا بعض معاني التشهد لما أن المصلي يقصد بهذه الألفاظ معانيها مرادة له على وجه الإنشاء منه كما صرح به في المجتبى بقوله : ولا بد من أن يقصد بألفاظ التشهد معناها التي وضعت لها من عنده كأنه يحي الله ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نفسه وأوليائه ا هـ .
وعلى هذا فالضمير في قوله السلام علينا عائد إلى الحاضرين من الإمام والمأموم والملائكة كما نقله في الغاية عن النووي واستحسنه وبهذا يضعف ما ذكره في السراج الوهاج أن قوله السلام عليك أيها النبي حكاية سلام الله عليه لا ابتداء سلام من المصلي عليه واحترز بتشهد عن غيره ليخرج تشهد ابن مسعود رضي الله عنه ، وهو : التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن عمر محمدا عبده ورسوله رواه في الموطإ وعمل به إلا أنه زاد عليه ( وحده لا شريك له ) الثابت في تشهد مالك المروي في الموطإ أيضا وبه علم تشهدها وخرج تشهد عائشة رضي الله عنهما المروي في ابن عباس وغيره مرفوعا : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله [ ص: 344 ] إلا الله وأشهد أن مسلم محمدا رسول الله إلا أن في رواية الترمذي سلام عليك بالتنكير وبهذا أخذ الشافعي
وقال : إنه أكمل التشهد ورجح مشايخنا تشهد بوجوه عشرة ذكرها الشارح وغيره أحسنها : أن حديثه اتفق عليه الأئمة الستة في كتبهم لفظا ومعنى ، واتفق المحدثون على أنه أصح أحاديث التشهد بخلاف غيره حتى قال ابن مسعود الترمذي إن أكثر أهل العلم عليه من الصحابة والتابعين وممن عمل به رضي الله عنه وكان يعلمه الناس على المنبر كالقرآن ، ثم وقع لبعض الشارحين أنه قال والأخذ بتشهد أبو بكر الصديق أولى فيفيد أن الخلاف في الأولوية حتى لو تشهد بغيره كان آتيا بالواجب والظاهر خلافه ; لأنهم جعلوا التشهد واجبا وعينوه في تشهد ابن مسعود فكان واجبا ، ولهذا قال في السراج الوهاج ويكره أن ابن مسعود قال يزيد في التشهد حرفا أو يبتدئ بحرف قبل حرف ، ولو نقص من تشهده أو زاد فيه كان مكروها ; لأن أذكار الصلاة محصورة فلا يزاد عليها ا هـ . أبو حنيفة
وإذا قلنا بتعينه للوجوب كانت الكراهة تحريمية وهي المحمل عند إطلاقها كما ذكرناه غير مرة وأشار إلى أنه لا يزيد على تشهد في القعدة الأولى فلا يأتي بالصلاة صلى الله عليه وسلم فيها ، وهو قول أصحابنا ابن مسعود ومالك ، وعند وأحمد على الصحيح أنها مستحبة فيها ، للجمهور ما رواه الشافعي أحمد من حديث وابن خزيمة ثم إن { ابن مسعود } قال كان صلى الله عليه وسلم في وسط الصلاة نهض حين فرغ من تشهده من زاد على هذا فقد خالف الإجماع ، فإن زاد فيها ، فإن كان عامدا فهو مكروه ولا يخفى وجوب إعادتها ، وإن كان ساهيا فقد اختلفت الرواية والمشايخ والمختار كما صرح به في الخلاصة أنه يجب السجود للسهو إذا قال اللهم صل على الطحاوي محمد لا لأجل خصوص الصلاة بل لتأخير القيام المفروض واختاره قاضي خان وبهذا ظهر ضعف ما في منية المصلي من أنه إذا زاد حرفا واحدا وجب عليه سجود السهو على قول أكثر المشايخ ; لأن الحرف أو الكلمة يسير يعسر التحرز عنه وما ذكره القاضي الإمام من أن السجود لا يجب حتى يقول وعلى آل محمد ; لأن التأخير حاصل بما ذكرناه وما في الذخيرة من أنه لا يجب حتى يؤخر مقدر ما يؤدي ركنا فيه ; لأنه لا دليل عليه .
[ ص: 343 ]