الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قال رحمه الله ( ولو عين قدرا أو جنسا أو بلدا فخالف ضمن المعير المستعير أو المرتهن ) أي لو عين المعير قدر ما يرهنه به أو جنسه أو البلد الذي يرهنه فيه فخالف كان المعير بالخيار إن شاء ضمن المستعير قيمته ، وإن شاء ضمن المرتهن ; لأن كل واحد منهما متعد في حقه فصار الراهن كالغاصب والمرتهن كغاصب الغاصب وإنما كان كذلك ; لأن التقييد مفيد وهو نفي الزيادة ; لأن غرضه الاحتباس بما تيسر أداؤه وبقي النقصان أيضا ; لأن غرضه أن يصير مستوفيا للأكثر بمقابلته عند الهلاك ليرجع عليه بالكثير والنقصان يمنع من ذلك فيكون متعديا فيضمن إلا إذا عين له أكثر من قيمته فرهنه بأقل من ذلك بمثل قيمته أو أكثر لا يضمن ; لأنه خلاف إلى خير ; لأن غرضه من الرجوع عليه بأكثر حاصل بذلك مع تيسير أدائه ; لأنه لم يرجع إلا بقدر القيمة ; لأن الاستيفاء لم يقع إلا به فتعييبه أكثر من قيمته غير مفيد في حقه بل فيه ضرر عليه لتعسر أدائه .

                                                                                        وكذلك التقييد بالجنس والشخص والبلد ; لأن كل ذلك مفيد لتيسير بعض الأجناس في التحصيل [ ص: 307 ] دون البعض وتفاوت الأشخاص والبلدان في الحفظ والإعانة فيضمن بالمخالفة فلو قال ضمن حيث كان التقييد مفيدا لكان أولى ; لأن الإطلاق غير مستقيم ، فإذا ضمن المستعير ، ثم عقد الرهن بينه وبين المرتهن ; لأنه ملكه بأداء الضمان فتبين أنه رهن ملك نفسه ، وإن ضمن المرتهن رجع المرتهن بما ضمن وبالدين على الراهن على ما بيناه في الاستحقاق ، وقد تقدم له مزيد بيان فراجعه قال رحمه الله ( وإن وافق وهلك عند المرتهن صار مستوفيا ووجب مثله للمعير على المستعير ) ; لأن قبض الرهن استيفاء وبالهلاك يتم الاستيفاء فيسقط الدين عن الراهن ويضمن للمعير قيمته ; لأنه قضى بذلك القدر دينه إن كان كله مضمونا وإلا يضمن قدر المضمون والباقي أمانة ، وهذا ظاهر ، وكذا لو نقصت قيمة الرهن بعيب أصابه يذهب من الدين بحسابه ويرجع المعير بذلك على الراهن لما ذكرنا . وقول المؤلف ووجب مثله ليس بظاهر ; لأن الثوب من القيمي لا من المثلي . وقول منلا مسكين أي وجب مثل الدين للمعير على المستعير كلام فاسد ; لأن الواجب للمعير على المستعير هنا قيمة الثوب .

                                                                                        ولو قال وجب بدله لكان أولى ، والله أعلم قال رحمه الله ( ولو افتكه المعير لا يمتنع المرتهن إن قضى دينه ) ; لأن المعير غير متبرع بقضاء الدين لا فيه من تخليص ملكه ولهذا يرجع على الراهن بما أدى الدين . وقوله لا يمتنع محله إذا رهنه وحده فلو رهن ما استعاره مع شيء آخر لم يأخذه المعير إلا أن يقضي جميع الدين ، فإذا قضى يأخذ ملكه لا غير قيدنا بكون المعير قضى الدين ; لأن الأجنبي إذا قضى الدين فللمرتهن أن يمنعه ; لأنه متبرع ، وليس بساع في خلاص ملكه ، وفي النهاية إذا افتكه بأكثر من قيمته بأن كان الدين المرهون به أكثر لا يرجع بالزيادة على قيمته وهو مشكل ; لأن المعير مضطر إلى دفع الزيادة لخلاص حقه فكيف يمنع من الرجوع مع وجود التضرر وأجاب في النهاية قال قلنا الضمان إنما وجب على المستعير باعتبار إيفاء الدين من ملكه فكان الرجوع بقدر ما يتعلق به الإيفاء فعلى الشارح أن يعزي له الجواب والسؤال ، وتقدم بيان ما لو اختلفا في وقت الهلاك أو اختلفا في مقدار ما أمره به فراجعه ، ولو كانت العارية عبدا فعتقه المعير نفذ إعتاقه ; لأنه يملك رقبته والمرتهن بالخيار إن شاء رجع بالدين على الراهن ; لأنه يستوفي حقه ، وإن شاء ضمن المعير القيمة ; لأن حقه قد تعلق برقبة العبد ، وقد أتلفه بالإعتاق ، ولو استعار عبدا أو دابة ليرهنه فاستعمله قبل أن يرهنه ثم رهنه جاز ; لأنه لما رهنه أزال التعدي .

                                                                                        وقد برئت ذمته عن ضمان الغصب ; لأنه أمين خالف ، ثم عاد إلى الوفاق فصار حكمه حكم الرهن وقد هلك عند الراهن بعد الاسترداد ولا يضمن لما ذكرنا أنه أمين وحكمه حكم الوديعة عنده لا حكم العارية ; لأنها حكم العارية بانفكاك فصارت يده يد المالك لكونه عاملا للمالك لتحصيل مقصوده وهو الرجوع عند الهلاك بخلاف المستعير ; لأن يده يد نفسه ، وإذا تعدى لا يبرأ من الضمان حتى يوصله إلى يد المالك على هذا عامة المشايخ واختاره صاحب الهداية واختاره شمس الأئمة الكرخي واختاره شمس الأئمة أنه يبرأ ، وقال شيخ الإسلام إنه يبرأ المستعير إذا زال التعدي كالوديعة واستدل عليه وهو بمسألة المستعير مفلسا وأراد المعير البيع وأبى الراهن من بيعه بيع بغير رضاه ; لأن له في الحبس منفعة فلعل المعير قد يحتاج إلى الرهن فيخلصه بالإيفاء أو تزداد قيمته بتغير السعر فيستوفي منه حقه . وقوله ، ولو افتكه المعير لا يمتنع إلى آخره صادق بما إذا كانت قيمته قدر الدين أو أكثر أو أقل ، وقال صاحب الهداية ، ولو كانت قيمته مثل الدين فأراد المعير أن يفتكه جبرا عن الراهن لم يكن للمرتهن إذا قضى دينه أن يمتنع اعلم أن قوله جبرا عن الراهن في أثناء هذه المسألة من تعلقات هذا الكتاب وكان لفظ محمد بدل هذه المسألة حين أعسر الراهن كما ذكر شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي .

                                                                                        وقد نبه عليه تاج الشريعة وصاحب الكفاية وعن هذا قال بعضهم لعل قول المصنف جبرا عن الراهن تصحيف عن قول محمد حين أعسر الراهن وقع من الكاتب والقارئ ، وقال صاحب معراج الدراية معنى قوله جبرا عن الراهن بغير رضاه ويوافق تقرير صاحب الكافي في هذه المسألة حيث قال : ولو كانت قيمته مثل الدين فأراد المعير أن يفتكه جبرا بغير رضا الراهن ليس للمرتهن أن يمتنع إذا قضى دينه قال صاحب الكفاية معنى قوله فأراد المعير أن يفتكه جبرا عن الراهن أراد إن يفتكه نيابة عن الراهن جبرا عن المرتهن ، وقال [ ص: 308 ] صاحب العناية قوله افتكه جبرا عن الراهن قيل معناه من غير رضاه ، وليس بظاهر ، وقيل نيابة ولعله من الجبران يعني جبرانا لما فات عن الرهن من القضاء بنفسه ا هـ .

                                                                                        أقول : فيه كلام أما أولا فلأن ما اختاره من المعنى لا يتمشى فيما إذا أراد أن يفتكه قبل حلول أجل دين الراهن إذا لم يفت عن الراهن بإزاء ذاك القضاء بنفسه لعدم مجيء أوانه حتى يكون افتكاك المعير الرهن هناك بقضاء دين الراهن جبرانا لما فات عنه من القضاء بنفسه مع أن تلك الصورة أيضا داخلة في جواب هذه المسألة كما لا يخفى ، وأما ثانيا فلأنه لم يسمع في العربية جبر عنه سواء كان من الجبر بمعنى القهر أو من الجبر بمعنى الجبران ، ومحل الإغلاق في تركيب المصنف إنما هو كلمة عن الداخلة على الرهن لا لكون الجبر بمعنى القهر إذ هو متحقق في مسألتنا بالنظر إلى المرتهن وعلى المعنى الذي اختاره لا يظهر لكلمة عن متعلق إلا أن يصار إلى تقدير لما فات جملة وجعله كلمة عن متعلقة بلفظ فات المندرج في ذلك ولا يخفى بعده جدا فكيف يرتكب مع حصول المقصود منه بتقدير متعلق كلمة عن نيابة وحده كما فعله صاحب الكفاية .

                                                                                        وظهر مما قدمناه أن قول صاحب الهداية مثل الدين قيد اتفاقي لا احترازي .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية