الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3648 [ 1967 ] وعن سلمة بن الأكوع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ضحى منكم فلا يصبحن في بيته بعد ثالثة شيء. فلما كان في العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا عام الأول؟ فقال: لا، إن ذاك عام كان الناس فيه بجهد، فأردت أن يفشو فيهم.

                                                                                              رواه البخاري (5569) ومسلم (1974) (34).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول عائشة : ( دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى ) الدفيف: [ ص: 378 ] الدبيب، وهو السير الخفي اللين. والدافة: الجيش الذين يدبون إلى أعدائهم، وكأن هؤلاء ناس ضعفاء فجاؤوا دافين لضعفهم من الحاجة والجوع.

                                                                                              و( حضرة الأضحى ) الرواية المعروفة بسكون الضاد، وهو منصوب على الظرف; أي: زمن حضور الأضحى، ومشاهدته. وقيده بعضهم: حضرة - بفتح الضاد - وفي الصحاح يقال: كلمته بحضرة من فلان، وبمحضره; أي: بمشهد منه. وحكى يعقوب : كلمته بحضر فلان - بالتحريك من غير هاء - وكلمته بحضرة فلان، وحضرته، وحضرته.

                                                                                              و(قوله: يتخذون منها الأسقية، ويجملون فيها الودك ) الأسقية: جمع سقاء، كالأخبية جمع خباء. ويجملون: يذيبون. والودك: الشحم. يقال: جملت الشحم، واجتملته: إذا أذبته. وربما قالوا: أجملت. وهو قليل.

                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت ) ونحو ذلك قال في حديث سلمة بن الأكوع . وهذا نص منه - صلى الله عليه وسلم -: على أن ذلك المنع كان لعلة، ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدم; لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ. وهذا يبطل قول من قال: إن ذلك المنع إنما ارتفع بالنسخ. لا يقال: فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ( كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فادخروا ). وهذا رفع لحكم الخطاب الأول بخطاب متأخر عنه. وهذا هو حقيقة النسخ; لأنا نقول: هذا لعمر الله! ظاهر هذا الحديث، مع أنه يحتمل أن يكون ارتفاعه بأمر آخر غير النسخ، فلو لم يرد لنا نص بأن المنع من الادخار ارتفع لارتفاع علته لما عدلنا عن ذلك الظاهر، وقلنا: هو نسخ، كما قلناه في زيارة القبور، وفي الانتباذ بالحنتم المذكورين معه في حديث [ ص: 379 ] بريدة المتقدم في باب الجنائز، لكن النص الذي في حديث عائشة رضي الله عنها في التعليل بين: أن ذلك الرفع ليس للنسخ، بل لعدم العلة، فتعين ترك ذلك الظاهر، والأخذ بذلك الاحتمال لعضد النص له. والله تعالى أعلم.

                                                                                              تنبيه: الفرق بين رفع الحكم بالنسخ، ورفعه لارتفاع علته: أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة. فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقاتهم إلا الضحايا، لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                              وفي هذا الحديث أبواب من أصول الفقه. وهو: أن الشرع يراعي المصالح، ويحكم لأجلها، ويسكت عن التعليل، ولما تصفح العلماء ما وقع في الشريعة من هذا وجدوه كثيرا، بحيث حصل لهم منه أصل كلي وهو: أن الشارع مهما حكم فإنما يحكم لمصلحة، ثم قد يجدون في كلام الشارع ما يدل عليها، وقد لا يجدون، فيسبرون أوصاف المحل الذي يحكم فيه الشرع حتى يتبين لهم الوصف الذي يمكن أن يعتبره الشرع بالمناسبة، أو لصلاحيته لها، فيقولون: الشرع يحكم بالمصلحة، والمصلحة لا تعدو أوصاف المحل، وليس في أوصافه ما يصلح للاعتبار إلا هذا، فتعين. وقد بينا هذا في الأصول. والحمد لله.

                                                                                              و(قوله: فكلوا، وادخروا، وتصدقوا ) هذه أوامر وردت بعد الحظر، فهل [ ص: 380 ] تقدمه عليها يخرجها عن أصلها من الوجوب عند من يراه، أو لا يخرجها؟ اختلف الأصوليون فيه على قولين، وقد بيناهما، والمختار منهما في الأصول. والظاهر من هذه الأوامر هنا: إطلاق ما كان ممنوعا، بدليل اقتران الادخار مع الأكل والصدقة، ولا سبيل إلى حمل الادخار على الوجوب بوجه، فلا يجب الأكل ولا الصدقة من هذا اللفظ. وجمهور العلماء على أن الأكل من الأضحية ليس بواجب. وقد شذت طائفة فأوجبت الأكل منها تمسكا بظاهر الأمر هنا، وفي قوله: فكلوا منها ووقع لمالك في كتاب ابن حبيب : أن ذلك على الندب، وأنه إ لم يأكل مخطئ. وقال أيضا: لو أراد أن يتصدق بلحم أضحيته كله كان له كأكله كله حتى يفعل الأمرين.

                                                                                              وقال الطبري : جميع أئمة الأمصار على جواز ألا يأكل منها إن شاء، [ ص: 381 ] ويطعم جميعها، وهو قول محمد بن المواز .




                                                                                              الخدمات العلمية