مسألة لا يجوز أن يقال لا تتحرك ولا تسكن
كما لا يجوز أن يقال : اجمع بين الحركة والسكون .
لا يجوز أن يقال : لا تتحرك ولا تسكن ; لأن الانتهاء عنهما محال كالجمع بينهما . فإن قيل : فمن توسط مزرعة مغصوبة فيحرم عليه المكث ويحرم عليه الخروج ، إذ في كل واحد إفساد زرع الغير فهو عاص بهما .
قلنا : حظ الأصولي من هذا أن يعلم أنه لا يقال له لا تمكث ولا تخرج ولا ينهى عن الضدين فإنه محال ; كما لا يؤمر بجمعهما . فإن قيل : فما يقال له ؟ قلنا : يؤمر بالخروج كما يؤمر المولج في الفرج الحرام بالنزع وإن كان به مماسا للفرج الحرام ، ولكن يقال له : انزع على قصد التوبة لا على قصد الالتذاذ ، فكذلك في الخروج من الغصب تقليل الضرر وفي المكث تكثيره وأهون الضررين يصير واجبا وطاعة بالإضافة إلى أعظمهما ، كما يصير شرب الخمر واجبا في حق من غص بلقمة ، وتناول طعام الغير واجبا على المضطر في المخمصة وإفساد مال الغير ليس حراما لعينه ; ولذلك لو أكره عليه بالقتل وجب أو جاز .
فإن قيل : فلم يجب الضمان بما يفسده في الخروج ؟ قلنا : الضمان لا يستدعي العدوان ، إذ يجب على المضطر في المخمصة مع وجوب الإتلاف ، ويجب على الصبي وعلى من رمي إلى صف الكفار وهو مطيع به . فإن قيل : فالمضي في الحج الفاسد إن كان حراما للزوم القضاء فلم يجب ، وإن كان واجبا وطاعة فلم وجب القضاء ولم عصى به ؟
قلنا : عصى بالوطء المفسد وهو مطيع بإتمام الفاسد ، والقضاء يجب بأمر مجدد وقد يجب بما هو طاعة إذا تطرق إليه خلل ، وقد يسقط القضاء بالصلاة في الدار المغصوبة مع أنه عدوان ، فالقضاء كالضمان .
فإن قيل : فبم تنكرون على
أبي هاشم حيث ذهب إلى أنه لو مكث عصى ولو خرج عصى وأنه ألقى بنفسه في هذه الورطة فحكم العصيان ينسحب على فعله ؟ قلنا : وليس لأحد أن يلقي بنفسه في حال تكلف ما لا يمكن ، فمن ألقى نفسه من سطح فانكسرت رجله لا يعصي بالصلاة قاعدا وإنما يعصي بكسر الرجل لا بترك الصلاة قائما ، وقول القائل ينسحب
[ ص: 72 ] عليه حكم العدوان إن أراد به أنه إنما نهي عنه مع النهي عن ضده فهو محال ، والعصيان عبارة عن ارتكاب منهي قد نهي عنه ، فإن لم يكن نهي لم يكن عصيان فكيف يفرض النهي عن شيء وعن ضده أيضا ؟ ومن جوز تكليف ما لا يطاق عقلا فإنه يمنعه شرعا ، لقوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . فإن قيل : فإن رجحتم جانب الخروج لتقليل الضرر ، فما قولكم فيمن سقط على صدر صبي محفوف بصبيان وقد علم أنه لو مكث قتل من تحته أو انتقل قتل من حواليه ولا ترجيح فكيف السبيل ؟ قلنا : يحتمل أن يقال : امكث ، فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من حي قادر ، وأما ترك الحركة فلا يحتاج إلى استعمال قدرة .
ويحتمل أن يقال : يتخير ، إذ لا ترجيح . ويحتمل أن يقال : لا حكم لله تعالى فيه فيفعل ما يشاء ; لأن الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص ، ولا نص في هذه المسألة ولا نظير لها في المنصوصات حتى يقاس عليه ، فبقي على ما كان قبل ورود الشرع ، ولا يبعد خلو واقعة عن الحكم فكل هذا محتمل ، وأما
nindex.php?page=treesubj&link=20723_20716تكليف المحال فمحال .
مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا تَتَحَرَّكْ وَلَا تَسْكُنْ
كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : اجْمَعْ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ .
لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَا تَتَحَرَّكْ وَلَا تَسْكُنْ ; لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ عَنْهُمَا مُحَالٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : فَمَنْ تَوَسَّطَ مَزْرَعَةً مَغْصُوبَةً فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمُكْثُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ ، إذْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ إفْسَادُ زَرْعِ الْغَيْرِ فَهُوَ عَاصٍ بِهِمَا .
قُلْنَا : حَظُّ الْأُصُولِيِّ مِنْ هَذَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ لَا تَمْكُثْ وَلَا تَخْرُجْ وَلَا يُنْهَى عَنْ الضِّدَّيْنِ فَإِنَّهُ مُحَالٌ ; كَمَا لَا يُؤْمَرُ بِجَمْعِهِمَا . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا يُقَالُ لَهُ ؟ قُلْنَا : يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ كَمَا يُؤْمَرُ الْمُولِجُ فِي الْفَرْجِ الْحَرَامِ بِالنَّزْعِ وَإِنْ كَانَ بِهِ مُمَاسًّا لِلْفَرْجِ الْحَرَامِ ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ : انْزِعْ عَلَى قَصْدِ التَّوْبَةِ لَا عَلَى قَصْدِ الِالْتِذَاذِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْغَصْبِ تَقْلِيلُ الضَّرَرِ وَفِي الْمُكْثِ تَكْثِيرُهُ وَأَهْوَنُ الضَّرَرَيْنِ يَصِيرُ وَاجِبًا وَطَاعَةً بِالْإِضَافَةِ إلَى أَعْظَمِهِمَا ، كَمَا يَصِيرُ شُرْبُ الْخَمْرِ وَاجِبًا فِي حَقِّ مَنْ غَصَّ بِلُقْمَةٍ ، وَتَنَاوُلُ طَعَامِ الْغَيْرِ وَاجِبًا عَلَى الْمُضْطَّرِ فِي الْمَخْمَصَةِ وَإِفْسَادُ مَالِ الْغَيْرِ لَيْسَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ ; وَلِذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ وَجَبَ أَوْ جَازَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ يَجِبُ الضَّمَانُ بِمَا يُفْسِدُهُ فِي الْخُرُوجِ ؟ قُلْنَا : الضَّمَانُ لَا يَسْتَدْعِي الْعُدْوَانَ ، إذْ يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَّرِ فِي الْمَخْمَصَةِ مَعَ وُجُوبِ الْإِتْلَافِ ، وَيَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَعَلَى مَنْ رُمِيَ إلَى صَفِّ الْكُفَّارَ وَهُوَ مُطِيعٌ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ إنْ كَانَ حَرَامًا لِلُزُومِ الْقَضَاءِ فَلِمَ يَجِبُ ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا وَطَاعَةً فَلِمَ وَجَبَ الْقَضَاءُ وَلِمَ عَصَى بِهِ ؟
قُلْنَا : عَصَى بِالْوَطْءِ الْمُفْسِدِ وَهُوَ مُطِيعٌ بِإِتْمَامِ الْفَاسِدِ ، وَالْقَضَاءُ يَجِبُ بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ وَقَدْ يَجِبُ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ خَلَلٌ ، وَقَدْ يَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ أَنَّهُ عُدْوَانٌ ، فَالْقَضَاءُ كَالضَّمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَبِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى
أَبِي هَاشِمٍ حَيْثُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَوْ مَكَثَ عَصَى وَلَوْ خَرَجَ عَصَى وَأَنَّهُ أَلْقَى بِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ فَحُكْمُ الْعِصْيَان يَنْسَحِبُ عَلَى فِعْلِهِ ؟ قُلْنَا : وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْقِيَ بِنَفْسِهِ فِي حَالِ تَكَلُّفِ مَا لَا يُمْكِنُ ، فَمَنْ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ سَطْحٍ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ لَا يَعْصِي بِالصَّلَاةِ قَاعِدًا وَإِنَّمَا يَعْصِي بِكَسْرِ الرِّجْلِ لَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ قَائِمًا ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ يَنْسَحِبُ
[ ص: 72 ] عَلَيْهِ حُكْمُ الْعُدْوَانِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ مَعَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ فَهُوَ مُحَالٌ ، وَالْعِصْيَانُ عِبَارَةٌ عَنْ ارْتِكَابِ مَنْهِيٍّ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَهْيٌ لَمْ يَكُنْ عِصْيَانٌ فَكَيْفَ يُفْرَضُ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ وَعَنْ ضِدِّهِ أَيْضًا ؟ وَمَنْ جَوَّزَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ عَقْلًا فَإِنَّهُ يَمْنَعُهُ شَرْعًا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ رَجَّحْتُمْ جَانِبَ الْخُرُوجِ لِتَقْلِيلِ الضَّرَرِ ، فَمَا قَوْلُكُمْ فِيمَنْ سَقَطَ عَلَى صَدْرِ صَبِيٍّ مَحْفُوفٍ بِصِبْيَانٍ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ مَكَثَ قَتَلَ مَنْ تَحْتَهُ أَوْ انْتَقَلَ قَتَلَ مَنْ حَوَالَيْهِ وَلَا تَرْجِيحَ فَكَيْفَ السَّبِيلُ ؟ قُلْنَا : يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : اُمْكُثْ ، فَإِنَّ الِانْتِقَالَ فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ حَيٍّ قَادِرٍ ، وَأَمَّا تَرْكُ الْحَرَكَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِعْمَالِ قُدْرَةٍ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : يَتَخَيَّرُ ، إذْ لَا تَرْجِيحَ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : لَا حُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ فَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ ، وَلَا نَصَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْمَنْصُوصَاتِ حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ ، فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ ، وَلَا يَبْعُدُ خُلُوُّ وَاقِعَةٍ عَنْ الْحُكْمِ فَكُلُّ هَذَا مُحْتَمَلٌ ، وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=20723_20716تَكْلِيفُ الْمُحَالِ فَمُحَالٌ .