دليل القول الثاني: قرابته من جهة أبيه وأمه... ما خلا الأب والأم، وولد الصلب... ) :
1 - الدليل على أن كل قريب من جهة الأب والأم: ما تقدم من دليل القول الأول. المراد بالقرابة
2 - واستدلوا لإخراج الأب والأم وولد الصلب: بأنهم لا يسمون أقارب عرفا، بل القريب من ينتمي بواسطة.
3 - واستدلوا لإخراج الورثة إن كانت الوصية على قرابته: بعرف الشرع; لأن الوارث لا يوصى له، فيختص بالباقين.
[ ص: 260 ] ونوقش هذا: بأنه مردود شرعا ولغة:
الوجه الأول: أنه مردود شرعا، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا -رضي الله عنها-، لما نزل قوله تعالى: ابنته فاطمة وأنذر عشيرتك الأقربين .
الوجه الثاني: أن أصل الرجل وفروعه يدخلون في أقرب الأقارب، فكيف لا يكونون من الأقارب.
الوجه الثالث: دخول الأب والأم والولد خصوصا والورثة عموما في اسم القرابة، وصدقه عليهم، قال « وأقارب الرجل عشيرته الأدنون » . ابن منظور:
دليل القول الثالث: (كل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام ) :
1 - استدل القائلون بأن القرابة ما كان من قبل الأب وحده: بأن العرب لا تفهم من مطلق اسم القرابة إلا قرابة الأب; لأن العرب تفتخر بآبائها، بخلاف قرابة الأم، فإنهم لا يفتخرون بها، ولا يعدونها قرابة.
ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: « أن عرف الناس في اسم القرابة ينطلق على ما كان من الجهتين » .
الوجه الثاني: صدق اسم القرابة على ما كان من قبل الأم، وتناوله لهم، فيدخلون في عمومه.
[ ص: 261 ] الوجه الثالث: (227 ) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاخر -رضي الله عنه- فقال: بسعد بن أبي وقاص . هذا خالي، فليرني امرؤ خاله
قال -رحمه الله-: « وكان الترمذي من سعد بن أبي وقاص بني زهرة، وكانت أم النبي -صلى الله عليه وسلم- من بني زهرة، فلذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: هذا خالي » .
2 - واستدل القائلون بتناول القرابة لكل من يناسب الموصي إلى أقصى أب له في الإسلام: بأن الاسم يتناول كل قريب، إلا أنه لا يمكن العمل [ ص: 262 ] بعمومه; لتعذر إدخال جميع أولاد آدم -عليه السلام-، فتعتبر النسبة إلى أقصى أب في الإسلام; لأنه لما ورد الإسلام صارت المعرفة بالإسلام، والشرف به، فصار الجد المسلم هو النسب، فلا يعتبر من كان قبله.
ونوقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: أن تناول القرابة لكل من يناسب الموصي إلى أقصى أب في الإسلام، كان يستقيم في زمان صاحبي -رحمهم الله-; لأن أقصى أب كان قريبا، يصل إليه بثلاثة آباء، أو أربعة آباء، فأما في زماننا فلا يستقيم; لأن عهد الإسلام قد بعد. أبي حنيفة
قال الكاساني: « إن الوالد والولد لا يسميان قرابتين عرفا وحقيقة; لأن الأب أصل والولد فرعه وجزؤه، والقريب من غيره لا من نفسه » .
الوجه الثاني: مخالفته الظاهرة للعرف، فإن الواقف لا يريد أن يشمل بوقفه قرابته الذين ينتسبون إلى أقصى أب في الإسلام، مع تعددهم وانتشارهم إلى حد يتعذر معه إدراكه لهم، ومعرفته بهم، فضلا عن الرغبة في برهم، وصلتهم.
3 - قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين .
وجه الدلالة:
قال الكاساني: « عطف الأقربين على الوالد، والعطف يقتضي المغايرة في الأصل » .
[ ص: 263 ] وإذا أخرج الأب من أن يكون قريبا للابن خرج الابن من أن يكون قريبا للأب.
ونوقش: بأن إفراد الوالدين بالذكر لمزيد العناية بهما، والتأكيد على حقهما، لا لأنهما من غير القرابة.
ونوقش: بما نوقش به دليل الشافعية المتقدم.
4 - واستدل -رحمه الله-: قوله تعالى: لأبي حنيفة إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وقوله تعالى: وتقطعوا أرحامكم .
قال « فلما كان مأمورا بصلة القرابة، وإنما تجب الصلة ممن كان ذا رحم منه، فانصرفت الوصية إليه دون غيره; لأن القرابة المطلقة هي قرابة ذي الرحم المحرم; لاختصاصها بأحكام مخصوصة، من عدم جواز المناكحة، والعتق عند الملك، وعدم الرجوع في الهبة، ووجوب النفقة عند العشرة، فانصرفت الوصية إليه » . السرخسي:
5 - قال الكاساني: « القرابة المطلقة هي قرابة ذي الرحم المحرم، ولأن معنى الاسم يتكامل بها، وأما غيرها من الرحم غير المحرم فناقص، فكان الاسم للرحم المحرم لا لغيره; لأنه لو كان حقيقة لغيره فإما أن يعتبر الاسم مشتركا أو عاما، ولا سبيل إلى الاشتراك لأن المعنى متجانس، ولا إلى العموم لأن المعنى متفاوت، فتعين أن يكون الاسم حقيقة لما قلنا، ولغيره مجازا.
[ ص: 264 ] ونوقش هذا الدليل من وجوه:
الوجه الأول: « أن القريب اسم مشتق من معنى، وهو: القرب، وقد وجد القرب، فيتناول الرحم المحرم وغيره » .
الوجه الثاني: فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نزل قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين ، فإنه جمع قريشا، فعم وخص، وأنذرهم، وفيهم ذو الرحم المحرم وغيره.
(228 ) وروى لما نزل قوله تعالى: البخاري ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى ، أعطى أولاده، وأولاد عبد المطلب، وأولاد هاشم، ذكرهم وأنثاهم، فشمل بعطائه ذا الرحم المحرم وغيره.
الوجه الثالث: « أن اسم القرابة يقع على غيرهم عرفا وشرعا، وقد تحرم على الرجل ربيبته، وأمهات نسائه ، وحلائل آبائه وأبنائه، ولا قرابة لهم، وتحل له ابنة عمه وعمته، وابنة خاله وخالته، وهن من أقاربه » .
أدلة القول الرابع: (أولاده، وأولاد أبيه، وجده، وجد أبيه ) :
1 - استدل القائلون بأن المراد بالقرابة: أولاد الموصي وأبوه وجده وجد أبيه وأولادهم: بأن الله تعالى لما قال: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى ، قال في الشرح الكبير: « يعني: قربى النبي -صلى الله عليه وسلم-، أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- أولاده، وأولاد عبد المطلب، وأولاد هاشم، ذكرهم وأنثاهم، ولم [ ص: 265 ] يعط من هو أبعد منهم كبني عبد شمس وبني نوفل شيئا، ولم يعط قرابة أمه وهم بنو زهرة شيئا ....، ولم يعط منهم إلا مسلما، فحمل مطلق كلام الواقف على ما حمل عليه المطلق من كلام الله تعالى، وفسر بما فسر به » .
ونوقش هذا الاستدلال: بأن إعطاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض قرابته سهم ذوي القربى، لا يلزم منه حصر لفظ ذوي القربى فيهم، بل هو أوسع كما في أدلة الرأي الأول.
2 - قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم ، فلم يدخل فيه الكفار إذا كان الميت مسلما، وإذا لم يدخلوا في لفظ القرآن مع عمومه، لم يدخلوا في لفظ الواقف.
3 - أن الظاهر من حال الموصي أنه لا يريد الكفار; لما بينه وبينهم من عداوة الدين، وعدم الوصلة المانعة من الميراث ووجوب النفقة، ولذلك خرجوا من عموم اللفظ في الأولاد والإخوة، والأزواج، وسائر الألفاظ العامة في الميراث، فكذا هنا.
4 - أنه يسوي بين قريبهم وبعيدهم، وذكرهم وإناثهم ; لأن اللفظ يشملهم.
ه - ودليل اختصاص الوقف بمن يصله من أقاربه: بأن صلته إياهم في حال حياته قرينة دالة على إرادتهم بصلته هذه، فوجب حمل عموم لفظه على خصوص فعله.
[ ص: 266 ] الترجيح:
الراجح - والله أعلم - أن المراد بالقرابة كل من عرف بقرابته من جهة أبيه وأمه من المسلمين; لقوة دليله ، ومناقشة دليل القول المخالف.
قال يقسم على الأقرب فالأقرب بالاجتهاد. مالك:
لكن يستثنى من ذلك من يرث من قرابته; إذ لا وصية لوارث.