[ ص: 507 ] المبحث العاشر
المبطل العاشر: خلط الوصية بغيرها
المراد بالمسألة:
المراد بخلط الوصية بغيرها: إذا أوصى بشيء معين معلوم، ثم خلطه الموصي بغيره، مثل أن يوصي لزيد بمئة صاع من البر، فإذا خلطه بغيره، فهل هذا رجوع عن الوصية، أم لا؟ تحرير محل النزاع: خلط الموصى به بغيره له ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يخلط الموصى به بغيره، وأمكن تمييزه منه، كخلط البر بباقلاء، فهذا اتفق الفقهاء -رحمهم الله- على أنه لا يعتبر رجوعا; لإمكان التمييز بينهما.
الصورة الثانية: أن يخلط الموصي به بغيره، ولا يمكن تمييزه منه، مثل: خلط صاع من صبرة معينة بأجود منها، أو بأردأ منها، ومثل: خلط رطل من زيت معين بزيت آخر، وخلط طعام بطعام، ودقيق معين بدقيق من نوع آخر، وحنطة معينة بحنطة من نوع آخر.
[ ص: 508 ] فهذا الخلط قد اختلف الفقهاء في كونه رجوعا على قولين:
القول الأول: أن خلط الوصية بغيرها بأي حال كان لا يعتبر رجوعا في الوصية.
قال به المالكية .
القول الثاني: أن ذلك يعتبر رجوعا في الوصية.
قال به الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة .
قال ابن عابدين في الدر المختار: « وله: أي: للموصي (الرجوع عنها بقول صريح ) ... (أو ) فعل (يزيد في الموصى به ما يمنع تسليمه إلا به... وتصرف...يزيل ملكه ) ; فإنه رجوع، عاد لملكه ثانيا أم لا، (كالبيع والهبة ) ، وكذا إذا خلطه بغيره بحيث لا يمكن تمييزه » .
وقال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: « لو (أوصى بصاع حنطة معين ثم خلطه ) بما يتعذر تمييزه منه (فهو رجوع ) وإن خلط بأردأ منها ; لأنه أخرجه عن إمكان التسليم » .
وقال في المغني: « وإن وصى بشيء معين، ثم خلطه بغيره [ ص: 509 ] على وجه لا يتميز منه كان رجوعا; لأنه يتعذر بذلك تسليمه، فيدل على رجوعه ، فإن خلطه بما يتميز منه، لم يكن رجوعا; لأنه يمكن تسليمه » . ابن قدامة
الأدلة:
دليل القول الأول:
1 - أن الأصل بقاء الوصية.
2 - أن الخلط لا يعدم الموصى به، بل هو باق بعده، وإن كان مختلطا بغيره.
ونوقش: بأن الموصى به بعد خلطه بما لا يمكن تمييزه في حكم المعدوم; لتعذر تسليمه إلى الموصى له.
دليل القول الثاني:
أن الموصي عندما خلط الموصى به بغيره بحيث لا يمكن تمييزه، أخرجه عن إمكان التسليم، فلا يمكن تسليمه إلى الموصى له، فكان دليلا على رجوعه في الوصية.
ونوقش: بعدم التسليم، فالتسليم ممكن.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - هو القول الأول، وهو أن خلط الموصى به بغيره بحيث لا يعتبر رجوعا; لقوة دليله.
الصورة الثالثة: خلط الموصى به غير المعين، كما لو أوصى بقنطار قمح من صبرة، ثم خلطها بغيرها.
[ ص: 510 ] وقد اختلف فيه فقيل: ليس برجوع مطلقا، خلطها بمثلها، أو بخير منها ، أو دونها ; لأنه كان مشاعا وبقي مشاعا.
وقيل: إن خلطه بخير منه كان رجوعا; لأنه لا يمكن تسليم الموصى به إلا بتسليم خير منه ، ولا يجب على الوارث تسليم ما هو خير منه فصار متعذر التسليم، فتبطل الوصية; لتعذر تسليمها، بخلاف ما لو خلطها بمثلها أو دونها فإنه لا يعد رجوعا; لإمكان تسليمه بتسليم مثله أو ما دونه.