[ ص: 57 ] المبحث الرابع: اشتراط الواقف بيع الوقف، أو هبته، أو الرجوع فيه
اختلف العلماء في ومدى تأثيره على الوقف على ثلاثة أقوال هي: حكم اشتراط الواقف في وقفه أن يبيعه أو يهبه أو يرجع فيه متى شاء،
القول الأول: صحة الشرط والوقف معا.
وهذا هو قول المالكية، اختاره شيخ الإسلام.
قال الدردير: لأنه كالوصية بخلاف الواقف في الصحة، فلا رجوع له فيه قبل المانع ويجبر على التحويز، إلا إذا شرط لنفسه الرجوع فله ذلك» . «وللواقف في المرض الرجوع فيه;
القول الثاني: أن الوقف صحيح، والشرط باطل، فلا يجوز الرجوع فيه ولو شرطه.
وبه قال بعض الحنفية، وهو قول ضعيف عند الشافعية، [ ص: 58 ] والحنابلة، وهو قول الظاهرية.
القول الثالث: بطلان الشرط والوقف معا.
وهذا القول هو قول الحنفية، والصحيح عند الشافعية، وهو قول الحنابلة.
جاء في الفتاوى الهندية: «ولو شرط أن يبيعه ويجعل ثمنه في وقف أفضل إن رأى الحاكم بيعه أذن له فيه كذا في الوجيز، وذكر في وقفه: لو شرط أن يبيعها ويصرف ثمنها إلى ما رأى من أبواب الخير فالوقف باطل، ولو شرط في أصل الوقف أن يبيعه لم يبعه لا يجوز لمن وليه بعده أن يبيعه كذا في الذخيرة» . الخصاف
وجاء في مغني المحتاج: «(ولو وقف بشرط الخيار) لنفسه في إبقاء وقفه والرجوع فيه متى شاء، أو شرط لغيره أو شرط عوده إليه بوجه ما، كأن شرط أن يبيعه أو شرط أن يدخل من شاء ويخرج من شاء (بطل على الصحيح) قالالرافعي: كالعتق والهبة، قال السبكي: وما اقتضاه كلامه من بطلان العتق غير معروف، وأفتى القفال: بأن العتق لا يبطل بذلك; لأنه مبني على الغلبة والسراية، ومقابل الصحيح يصح الوقف ويلغو الشرط، كما لو طلق على أن لا رجعة له» .
[ ص: 59 ] وجاء في الإنصاف: «لو شرط في الوقف أن يبيعه أو يهبه أو يرجع فيه متى شاء بطل الشرط والوقف في أحد الأوجه، وهو الصحيح من المذهب نص عليه، وقدمه في الفروع وشرح الحارثي والفائق والرعايتين والحاوي الصغير، قال المصنف في المغني: لا نعلم فيه خلافا، وقيل: يبطل الشرط دون الوقف وهو تخريج من البيع وما هو ببعيد.
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: يصح في الكل، نقله عنه في الفائق» .
الأدلة:
أدلة القول الأول: (صحة الوقف، والشرط) : استدل لهذا القول بما يلي:
1 - الأدلة الدالة على صحة الشروط في عقد الوقف، ولا يحرم منها ولا يبطل إلا ما جاء الدليل على إبطاله وتحريمه.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن شرط بيع الوقف أو هبته أو الرجوع فيه مناف لمقصود عقد الوقف; إذ المقصود بقاؤه ولزومه، كاشتراط الولاء لغير المعتق، وقد أبطله الشارع.
وأجيب من وجهين:
الوجه الأول: أن البيع أو الهبة أو الرجوع المنافي لمقصود عقد الوقف هو الذي خلا عن شرط الواقف، عن الرجوع ونحو ذلك، أما ما اقترن بشرط الواقف بالبيع ونحوه، فلم يقصد الواقف دوامه ولزومه إلا على هذا الوجه.
الوجه الثاني: أن القياس على اشتراط الولاء لغير المعتق قياس مع الفارق; إذ لا يصح شرط الولاء لغير المعتق; لأن الولاء لحمة، أي: التحام [ ص: 60 ] بين المعتق والمعتق، وهو عصوبة معصوبة النسب، فلا يصح الولاء إلا للمعتق.
2 - الأدلة الدالة على شرط الرضا في العقود.
وجه الدلالة: أن الموقف لم يرض بإخراج هذا المال عن ملكه بالوقف إلا مع هذا الشرط.
3 - بيع حسان حصته من وقف من أبي طلحة معاوية رضي الله عنه.
قال ابن حجر: «يحتمل أن يقال شرط عليهم لما وقفها عليهم أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها، وقد قال بهذا الشرط بعض العلماء كعلي وغيره، والله أعلم» . أبو طلحة
ونوقش هذا الاستدلال: بأن الاحتمال الذي ذكره ابن حجر رحمه الله ضعيف جدا; إذ لم يقم الدليل عليه، أما بيع حسان لحصته فقد سبق مناقشته حينما استدل به من قال بجواز الرجوع في الوقف مطلقا، فلا حاجة لتكرار المناقشة هنا.
4 - قول رضي الله عنه: «لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم له لرددتها» . عمر
فإنه يحتمل أن يكون رضي الله عنه كان يرى بصحة الوقف ولزومه، إلا أن شرط الواقف الرجوع فله أن يرجع، ذكره ابن حجر. عمر
[ ص: 61 ] ونوقش هذا الاستدلال: أن هذا الاحتمال الذي ذكره ابن حجر ضعيف أيضا، فلا يوجد في سياق الخبر ما يفيد ذلك، ولم ينقل عن به أنه كان يرى ذلك، هذا بالإضافة إلى أنه قد سبق تضعيف هذا الخبر عن عمر رضي الله عنه ومناقشة استدلالهم به. عمر
5 - أنه وارد عن علي رضي الله عنه.