كما اختلفت الروايات في هذه الهبة فجاء في أكثرها أنها غلام، وروي أنها حديقة.
واختلف في وقتها، ففي رواية: «أنه وهب حين نفست امرأته ، وفي رواية: «أنه التوى بها سنة» ، وفي رواية: «بعد حولين» ، وفي رواية: بالنعمان» ، وفي أخرى: «فأخذ بيدي وأنا غلام» . «انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم»
وأجيب: بأن هذه الروايات وإن اختلفت ألفاظها لكنها متحدة المعنى، رضي الله عنه لم ينف الهبة، وإنما اختصر الرواية. [ ص: 222 ] وأما أنه جاء في رواية أنه «التوى بها سنة» ، وفي أخرى بعد حولين» ، فيجمع بينهما بأن المدة كانت سنة وشيئا، فجبر الكسر تارة وألغاه أخرى. فجابر
ويجمع بين قوله: ، وقوله: «فأخذ بيدي وأنا غلام» بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق، وحمله في بعضها لصغر سنه، أو عبر عن استتباعه إياه بالحمل. «انطلق بي أبي يحملني»
وجمع بعضهم بين كون العطية غلاما وبين كونها حديقة بالحمل على واقعتين: إحداهما: عند ولادة النعمان، وكانت العطية حديقة، والأخرى: بعد أن كبر، وكانت العطية غلاما.
إلا أنه يعكر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير بن سعد رضي الله عنه مع جلالته الحكم في المسألة حتى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيستشهد على العطية الثانية.
وجمع بينهما ابن حجر رحمه الله بأن عمرة لما امتنعت من تربية رضي الله عنه إلا أن يهب له شيئا يخصه به وهبه الحديقة المذكورة تطييبا لخاطرها، فارتجعها، ولم يقبضها منه أحد غيره، فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين، ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاما أو رضيت النعمان عمرة بذلك إلا أنها خشيت أن يرتجعه أيضا، فقالت له: «أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم» تريد تثبيت العطية، وأن تأمن من رجوعه فيها، ويكون مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم للإشهاد مرة واحدة، وهي الأخيرة.
وغاية ما فيه أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض، أو كان النعمان يقص بعض القصة تارة، وبعضها أخرى، فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه.
الوجه الثالث: أن العطية المذكورة لم تنجز، وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم، [ ص: 223 ] (214) فقد روى أخبرنا النسائي: قال: حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد الوليد، عن عن الأوزاعي، أن الزهري محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن حدثاه عن بشير بن سعد به، وفيه: . «إني نحلت ابني هذا غلاما فإن رأيت أن تنفذه أنفذته»
ونوقش هذا الاستدلال بأمرين:
الأمر الأول: بأن أكثر طرق الحديث ينابذ ما في هذه الرواية، ثم إن في أول الحديث: «نحلني أبي غلاما» ، وفي وسطه: ...فكيف يقال: لم يتم النحل، وأما قوله: «فإن أذنت لي...» فلعله نمى إلى علمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيز هذا النوع من العطايا، وما لا يجيزه رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معتبر، فلذلك جاء مستفسرا. «إني نحلت ابني هذا غلاما»
الأمر الثاني: قول بشير: «فإن أذنت لي أن أجيزه أجزته» قول صحيح، وقول مؤمن لا يعمل إلا ما أباحه له رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظاهره بلا تأويل، نعم إن أجازه النبي صلى الله عليه وسلم أجازه بشير، وإن لم يجزه عليه الصلاة والسلام رده بشير ولم يجزه كما فعله.
الوجه الرابع: أن النعمان كان كبيرا، ولم يكن قبض النحل فجاز لأبيه الرجوع.
[ ص: 224 ] وأجيب: بأن هذا خلاف أكثر طرق الحديث خصوصا قوله: «أرجعه» ، فإنه يدل على تقدم وقوع القبض.
ثم إن صغر النعمان أشهر من الشمس; لأنه ولد بعد الهجرة بلا خلاف بين أحد من أهل العلم.
وفي حديث رضي الله عنه قال: النعمان بن بشير ولا تطلق هذه اللفظة على رجل بالغ أصلا. «وأنا يومئذ غلام»
الوجه الخامس: أن قوله: «أرجعه» دليل على الصحة، ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع، وإنما أمره بالرجوع; لأن للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده، وإن كان الأفضل خلاف ذلك، ولكن رجح على ذلك فلذلك أمره به. استحباب التسوية
وأجيب: بأن معنى «أرجعه» أي: لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة.
وهذا هو الموافق لقوله: «فليس يصلح هذا» ، وقوله: «فرده» فإن الرد ظاهر في الفسخ، كما في قوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أي: مردود مفسوخ. [ ص: 225 ] الوجه السادس: أن قوله: إذا بالإشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنه قال: لا أشهد; لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم. «أشهد على هذا غيري»
وأجيب: بأنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة، ولا من أدائها إذا تعينت عليه، وقد صرح المحتج بهذا أن الإمام إذا شهد عند بعض نوابه جاز.