الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        الفرع الثاني: شروط الوصية بالكتابة :

        الشرط الأول: اشترط الشافعية نية الوصية في كتابة الوصية بناء على ما سبق من تقسيمهم الإيجاب إلى صريح وكناية، والكتابة من الكناية عندهم.

        ويظهر أن غيرهم لا يخالفهم في اشتراط النية، فلو كتب وصية ولم ينوها، سواء نوى غير الوصية كتجربة قلمه أو أطلق، لم تصح.

        إذ الوصية تبرع بالمال أو أمر بالتصرف، وهذا لا بد له من النية، ويدل لهذا ما سيأتي من اشتراط رضى الموصي.

        وأيضا النيابة تحتاج إلى نية وقصد.

        [ ص: 218 ] أما إن كانت الوصية بواجب فلا حاجة للنية; لوجوب إخراج الواجب مطلقا.

        الشرط الثاني: الشهادة على الوصية .

        اختلف في الاكتفاء بمجرد الكتابة في إثبات الوصية وتنفيذها، أو لا بد من الشهادة، على أقوال:

        القول الأول: الاكتفاء بها إذا عرف خط الموصي، سواء أشهد عليها أم لا.

        وهو قول أبي عبيد ، وإحدى الروايتين عن أحمد ، وهو المذهب عند الحنابلة .

        قال أحمد : "من مات ووجدت وصيته مكتوبة عند رأسه، ولم يشهد عليها وعرف خطه، وكان مشهور الخط، يقبل ما فيها".

        قال ابن القيم : "وقول الإمام أحمد : إن كان قد عرف خطه، وكان مشهور الخط ينفذ ما فيها، يرد ما قاله القاضي، فإن أحمد علق الحكم بالمعرفة والشهرة من غير اعتبار لمعاينة الفعل، وهذا هو الصحيح، فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف ذلك وتيقن كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ، واللفظ دال على القصد والإرادة، وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط، وذلك كما يعرض من اشتباه الصور والأصوات، وقد جعل الله سبحانه لخط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره كتميز صورته وصوته عن صورته وصوته، والناس يشهدون شهادة لا يستريبون فيها أن هذا خط فلان، وإن جازت محاكاته ومشابهته فلا بد من فرق، وهذا [ ص: 219 ] أمر يختص بالخط العربي، ووقوع الاشتباه والمحاكاة لو كان مانعا لمنع من الشهادة على الخط عند معاينته إذا غاب عنه لجواز المحاكاة".

        القول الثاني: أنه لا يعمل بها حتى يشهد عليها.

        وهو قول الحنفية ، والشافعية ، وإحدى الروايتين عن أحمد .

        القول الثالث: أنه لا يعمل بها إلا إذا أشهد الموصي الشهود على أن ما في الوثيقة المكتوبة بخطه هي وصيته، أو قال للشهود، أو للورثة: نفذوا ما فيها، سواء قال لهم ذلك بلسانه، أو كتب بخطه في وصيته: إذا مت فلينفذ ما كتب بخطي.

        وهو قول المالكية .

        ومثل ما كتب بخطه ما كتب بخط غيره إذا ثبت أنه قرأه على الشهود، أو قرئ عليه، فإنه لا يعمل به إلا إذا أشهد أن ذلك وصيته، أو قال: نفذوها.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه

        وجه الدلالة: دلت الآية على أن الكتابة وثيقة في المعاملات، وفائدة ذلك الاحتجاج بها، والاعتماد عليها عند الإنكار والجحود [ ص: 220 ] 2 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق: وقوله فيه: "ووصيته مكتوبة عنده" .

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن المراد بالكتابة الشهادة، وبأن فيه إضمارا، والتقدير: ووصيته مكتوبة مشهود عليها.

        وأجيب: بأن تأويل الكتابة في حديث ابن عمر بالشهادة، أو دعوى إضمار الشهادة فيها خلاف الأصل; لأن الأول مجاز بلا قرينة، والثاني إضمار بلا دليل، وكلاهما خلاف الأصل لا يصح حمل الحديث عليهما.

        أخذا بقاعدة: الحقيقة مقدمة على المجاز; لقاعدة: الاستقلال مقدم على الإضمار.

        3 - ما ورد من مكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك:

        (97) ما رواه البخاري ومسلم من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أخبره... "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل ، فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى" .

        ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم إشهاد.

        [ ص: 221 ] 4 - الآثار الواردة عن الصحابة في اعتبار الكتابة في الوصية، كما سبق، وسيأتي.

        5 - أن الكتابة كالخطاب، بل أشد دلالة على جزم الإرادة; لأن الإنسان قد يتلفظ سهوا وينطق خطأ، وقد يسبقه لسانه فيتكلم مزحا وهزلا، بخلاف الكتابة; فإن العقل متجه إليها، ويفكر في دلالتها ومعناها.

        أدلة القول الثاني: (الإشهاد):

        1 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم

        ونوقش الاستدلال: بأن الآية مختلف فيها؛ قيل: والشهادة هنا بمعنى الوصية; وقيل: بمعنى الحضور للوصية. وقال ابن جرير الطبري : هي هنا بمعنى اليمين، فيكون المعنى: يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكما يجب فيه على الشاهد يمين.

        وضعف ذلك ابن عطية ، واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود".

        2 - القياس على الشاهد والقاضي، فإن الشاهد إذا عرف خطه ولم يذكر شهادته لم يجز له أداؤها، ولا يعمل بها، والقاضي إذا عرف خطه ولم يتذكر حكمه لا يجوز له تنفيذه، فكذلك خط الموصي إذا عرف لم يجز الاعتماد عليه إلا بالإشهاد منه، أو بإقرار من ورثته; لاحتمال رجوعه، ولاحتمال التلبيس والتزوير في الخط.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس على مختلف فيه، فإن الراجح المعمول به في المذهب المالكي: أن الشاهد إذا عرف خطه ونسي شهادته [ ص: 222 ] يجب عليه أداؤها، ويعمل بها، ثم هناك فرق بين الشاهد والموصي يمنع صحة القياس، الشاهد ما زال حيا، فعدم تذكره لشهادته يخلق ريبة في الجملة، بخلاف الموصي فإنه قد مات.

        3 - ولأنه قد يكتبها غير عازم على تنفيذها.

        ونوقش هذا الاستدلال: باحتمال عدم العزم على الوصية عند الكتابة فهو خلاف الأصل.

        4 - أن الخطوط تتشابه ويصعب تمييزها فيحتمل التزوير والتدليس، وتطرق الاحتمال إلى الدليل يسقط الاستدلال به.

        ونوقش هذا الاستدلال: باحتمال التدليس، بأنه خلاف الأصل، ولأنه يرجع إلى الشك في وجود المانع، وهو لا أثر له في الحكم.

        وفي مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم : "إذا كتب وصيته بقلمه وتحقق أنه قلمه كفى ولو لم يشهد، بل الخط أبلغ من الختم; لأن الختم قد يزور عليه، وإن كان قد يوجد من يزور على الخط".

        الشرط الثالث: اشترط الشافعية : أن يعرب الموصي بالنية نطقا، أو ورثته بعد موته .

        وهذا فيه نظر; إذ يكتفى بمجرد النية.

        [ ص: 223 ] (98) لما رواه البخاري ومسلم من طريق علقمة بن وقاص الليثي ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" .

        الشرط الرابع: اشترط المتقدمون من الحنفية ، والشافعية : علم الشهود بما في كتاب الوصية .

        وحجته: أنه كتاب لا يعلم الشاهد بما فيه، فلم يجز أن يشهد عليه، ككتاب القاضي إلى القاضي.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن اشتراط الشهادة في كتاب القاضي إلى القاضي.

        قال ابن القيم : "وأول من سأل على كتاب القاضي البينة ابن أبي ليلى ، وسوار بن عبد الله ".

        القول الثاني: أنه تجوز الشهادة، وإن لم يعلم ما في الوصية إذا ثبت ذلك بخط الموصي.

        وبه قال الحنابلة .

        وحجته: ما تقدم من العمل بخط الموصي.

        القول الثالث: جواز ذلك.

        [ ص: 224 ] وبه قال أبو حنيفة استحسانا، والمالكية ، وهو احتمال عند الحنابلة .

        وحجته: ما تقدم من الدليل على عدم اشتراط الشهادة بصحة الوصية بالكتابة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية