الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        المسألة الثانية القبول بالفعل:

        يحصل القبول بالقول باتفاق الأئمة، وذلك أن يتلفظ الموصى له بلفظ يدل على قبول الوصية، كقوله: قبلت هذه الوصية أو رضيت بها، ونحو ذلك، ودليل ذلك: عموم أدلة الوصية.

        وجه الدلالة: حيث دلت هذه الأدلة على أن الوصية عقد، والعقود تنعقد بما دل عليها من الألفاظ.

        وفيها أمران:

        الأمر الأول: الإشارة، والكتابة.

        يحصل قبول الوصية بالإشارة ، كأن يخبر بالوصية فيشير برأسه، ونحو ذلك بالموافقة.

        والدليل على ذلك: ما تقدم من الأدلة على صحة إيجاب الوصية بالإشارة وقبولها من باب أولى.

        [ ص: 240 ] وكذلك يحصل قبول الوصية بالكتابة ، كأن يكتب ما يدل على قبولها والرضا بها.

        والدليل على ذلك: ما تقدم من الأدلة على صحة إيجاب الوصية بالكتابة، فقبولها من باب أولى.

        الأمر الثاني: التصرف في العين الموصى بها من قبل الموصى له :

        إذا تصرف الموصى له بالوصية بما يدل على القبول، كاستهلاكها بالأكل، أو استعمالها باللبس، والركوب، أو نقل الملكية فيها بالبيع، والوقف، والهبة، ونحو ذلك، فهل مثل هذا التصرف قبول أو لا؟اختلف العلماء - رحمهم الله - على قولين:

        القول الأول: أنه قبول.

        وهو قول جمهور العلماء.

        القول الثاني: أنه لا يعتبر قبولا.

        وهو قول الشافعية بناء على أصلهم من أن العقود لا تنعقد بالفعل.

        قال الرملي : " يشترط في قبول الوصية اللفظ، وما في معناه إشارة الأخرس".

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول: (أنها تنعقد بالفعل):

        استدل القائلون بصحة قبول الوصية بالفعل بالأدلة الآتية:

        1 - قوله تعالى: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقوله: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم

        [ ص: 241 ] (109) 2 - ما رواه أحمد من طريق عمارة بن حارثة ، عن عمرو بن يثربي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا ولا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفس منه، فقلت: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي، أجتزر منها شاة؟ فقال: إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وأزنادابخبت الجميش فلا تهجها، قال: يعني بخبت الجميش أرضا بين مكة والجار ليس بها أنيس " .

        [ ص: 242 ] (110) 3 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه" .

        وجه الدلالة من هذه الأدلة: أنها دلت على اشتراط الرضا، والتصرف بالوصية يدل عرفا على الرضا ; لأن اللفظ إنما يراد للدلالة على التراضي، فإذا وجد ما يدل عليه من المساومة والتعاطي قام مقامه، وأجزأ عنه لعدم التعبد فيه.

        4 - أن من تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة - رضوان الله عليهم - من أنواع المبايعات والمؤجرات والتبرعات، علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين، ولو استعملوا ذلك في عقودهم لنقل نقلا شائعا، ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله، ولم يتصور إهماله والغفلة عن نقله ; لأن العقود مما تعم بها البلوى.

        [ ص: 243 ] فلو اشترط لها صيغة معينة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم بيانا عاما للناس حتى لا يخفى عليهم حكمها، وإنما المنقول خلاف ذلك في آثار كثيرة، منها:

        أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى مسجده، والمسلمون بنوا المساجد على عهده وبعد موته، ولم يؤمر أحد أن يقول: وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا اللفظ،

        (111) روى البخاري من طريق عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان رضي الله عنه يقول:... سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى مسجدا - قال بكير : حسبت أنه قال: يبتغي به وجه الله - بنى الله له مثله في الجنة" .

        5 - أن أسماء العقود وردت في الكتاب والسنة معلقا بها أحكام شرعية، ولا بد لكل اسم حد يعرف به إما باللغة، كالشمس والقمر والبر والبحر، وإما بالشرع، كالمؤمن والكافر والمنافق، وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع: فالمرجع فيه إلى عرف الناس، كالقبض، ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدا، وليس لها حد في لغة العرف أيضا، وبما أن الأمر كذلك فيكون المرجع فيها إلى عرف الناس وعاداتهم.

        أدلة القول الثاني: (عدم صحة قبول الوصية بالفعل):

        استدل القائلون بعدم صحة قبول الوصية بالفعل بالأدلة الآتية:

        1 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم

        [ ص: 244 ] وجه الدلالة: أن الأصل في العقود التراضي.

        غير أن حقيقة الرضا لما كانت أمرا خفيا وضميرا قلبيا، اقتضت الحكمة رد الخلق إلى مرد كلي وضابط جلي، يستدل به عليه، وهو الإيجاب والقبول باللفظ الدالان على رضا العاقدين.

        ونوقش هذا الدليل: بأنه لا يوجد في الشرع ما يدل على اشتراط لفظ معين أو فعل معين يستدل به على التراضي، وقد علم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة؛ ولذلك يقال: إن في القرآن من الفوائد ما يدل على المقاصد.

        بل ثبت بالأدلة أن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يستعملون المعاطاة وسيلة للتعبير عن الرضا بالعقد، وهذا أمر معهود في ذلك العصر، وفي كل عصر ومصر.

        2 - أن المعاطاة في معنى ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من بيع المنابذة والملامسة.

        (112) روى البخاري ومسلم من طريق أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الملامسة والمنابذة، وبيع الحصاة" .

        (113) روى مسلم من طريق أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر" .

        [ ص: 245 ] والجامع بين هذه البيوع والمعاطاة وقوعها بغير لفظ، وكذا الوصية.

        ونوقش هذا الدليل: بعدم التسليم بالقياس; لأنه قياس مع الفارق.

        فبيع الملامسة هو: وقوع العقد باللمس.

        والمنابذة: وقوع العقد بنبذ الثوب ونحوه إلى المشتري.

        وكذلك بيع الحصاة هو: أن يضع عليه حصاة.

        فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع عقد البيع، أما المعاطاة فليست من جنس اللمس والمنابذة والحصاة; لأن العقد معلق في هذه البيوع على المخاطرة، ولا تعلق للمس والنبذ ووضع الحصاة بعقد البيع، فليست هذه الأفعال من موجبات العقد ولا من أحكامه، أما المعاطاة فهي تسليم وتسلم، وتسليم المبيع والثمن من حقوق البيع وأحكامه، وكذا التصرف في الوصية يدل على القبول وتمام العقد.

        3 - أن في المعاطاة نقلا للملك من غير لفظ دال عليه، وقد أحل الله البيع، والبيع اسم للإيجاب والقبول، وليس مجرد فعل بتسليم وتسلم; إذ للمسلم أن يرجع ويقول: قد ندمت، وما بعته; إذ لم يصدر مني إلا مجرد تسليم، وذلك ليس ببيع، وكذلك التصرف في الوصية.

        ونوقش هذا الدليل: بأنه مخالف لما عليه أهل اللغة، فليس البيع في اللغة اسما للإيجاب والقبول، وإنما هو مبادلة المال بالمال، وحقيقة المبادلة بالمعاطاة هي: الأخذ والإعطاء، أما التلفظ بالإيجاب والقبول فهو مجرد دليل على الرضا بالمبادلة الفعلية.

        [ ص: 246 ] ذلك قول الله سبحانه وتعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، والتجارة عبارة عن جعل الشيء للغير ببدل، وهو تفسير التعاطي.

        وقال سبحانه وتعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين أطلق سبحانه وتعالى اسم التجارة على تبادل ليس فيه قول البيع.

        وقال سبحانه وتعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، فقد سمى سبحانه وتعالى مبادلة الجنة بالقتال في سبيل الله تعالى اشتراء وبيعا; لقوله تعالى في آخر الآية: فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به

        وإن لم يوجد لفظ البيع.

        4 - أن العقود أنواع متباينة كالبيع والإجارة، والرهن، والهبة، والصدقة على عوض، والوصية، والصلح بالمال، ولكل منها ماهية تخصه، والرضا المقترن بالمعاوضة جنس شامل لجميع تلك الصور، فلا بد في معرفة كونه بيعا من هبة أو هبة من صدقة، أو رهنا من إجارة، أو وصية، ونحو ذلك من بيان كل منها باسم يخصه، وليس إلا القول المترجم عما في النفس، وإلا كان رجوعه بالبيان إلى غير ما جعل الله أمره إليه.

        ويناقش هذا الاستدلال: بأن التمييز بين العقود يكون باللفظ، وبالقرائن والظروف المحيطة بها، وبالعرف الغالب.

        فإذا ركب شخص سيارة أجرة، ودفع لصاحبها الثمن بعد وصوله مقصده [ ص: 247 ] ولم يحدث بينهما كلام، فالعقد إجارة، وإذا أعطى شخص صديقا له ليلة عرسه قلما أو ساعة ونحوهما، فالعقد هبة، وإذا دفع رجل إلى بائع الخبز ريالا وأعطاه به خبزا فالعقد بيع، وإذا أوصى له بكتاب ثم وقفه الموصى له كان ذلك قبولا للوصية، وهكذا.

        فالعرف والقرائن والظروف تعين على فهم المقصود بوضوح دون لبس أو غموض.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم بالصواب -: رجحان القول الأول، وهو صحة قبول الوصية عن طريق المعاطاة ; لقوة أدلة هذا القول، وضعف دليل القول الآخر; حيث لم تسلم من المناقشة والنقد.

        ولأن الألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو إيماء أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة مطردة لا يخل بها.

        ولأن القائلين بعدم صحة العقد عن طريق المعاطاة - كما هو المشهور عن الشافعية - لهم استثناءات؛ فاستثنوا الهدية، وصدقة التطوع مما يدل على عدم انضباط قولهم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية