الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              816 (باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ) .

                                                                                                                              وذكره النووي في الباب المتقدم.

                                                                                                                              (حديث الباب ) .

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ص 6- 8 ج 5 المطبعة المصرية .

                                                                                                                              [حدثنا يحيى بن يحيى، وشيبان بن فروخ. كلاهما عن عبد الوارث. قال يحيى: أخبرنا عبد الوارث بن سعيد عن أبي التياح الضبعي. حدثنا أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة. فنزل في علو المدينة. في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف. فأقام فيهم أربع عشرة ليلة. ثم إنه أرسل إلى ملإ بني النجار. فجاءوا متقلدين بسيوفهم. قال فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب.

                                                                                                                              [ ص: 215 ] قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته الصلاة. ويصلي في مرابض الغنم. ثم إنه أمر بالمسجد.

                                                                                                                              قال: فأرسل إلى ملإ بني النجار. فجاءوا فقال "يا بني النجار! ثامنوني بحائطكم هذا" قالوا: لا. والله! لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. قال أنس: فكان فيه ما أقول: كان فيه نخل، وقبور المشركين، وخرب. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع. وبقبور المشركين فنبشت. وبالخرب فسويت. قال: فصفوا النخل قبلة. وجعلوا عضادتيه حجارة. قال: فكانوا يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم. وهم يقولون:

                                                                                                                              اللهم إنه لا خير إلا خير الآخره فانصر الأنصار والمهاجره

                                                                                                                              .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح) .

                                                                                                                              (عن أنس بن مالك ) رضي الله عنه: (قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، فنزل في "علو" المدينة ) .

                                                                                                                              بضم العين، وكسرها، لغتان مشهورتان.

                                                                                                                              (في حي يقال لهم: "بنو عمرو بن عوف" فأقام فيهم، أربع عشرة ليلة، ثم إنه أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا، متقلدين بسيوفهم، قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله. حتى ألقى بفناء "أبي أيوب" ؛ قال: فكان [ ص: 216 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم ) .

                                                                                                                              قال أهل اللغة: هي مباركها، ومواضع مبيتها، ووضعها أجسادها على الأرض للاستراحة.

                                                                                                                              قال ابن دريد: ويقال ذلك أيضا لكل دابة من ذوات الحوافر، والسباع.

                                                                                                                              واستدل بهذا الحديث مالك، وأحمد، وغيرهما، ممن يقول بطهارة بول المأكول وروثه.

                                                                                                                              "وفيه" أنه لا كراهة في الصلاة في مراح الغنم بخلاف أعطان الإبل.

                                                                                                                              (ثم إنه أمر بالمسجد ) بفتح الهمزة والميم. وعلى البناء للمجهول، وكلاهما صحيح.

                                                                                                                              (قال: فأرسل إلى ملأ بني النجار ) يعني: أشرافهم، (فجاءوا. فقال: "يا بني النجار! ثامنوني بحائطكم هذا" ) أي: بايعوني.

                                                                                                                              (قالوا: لا والله! لا نطلب ثمنه إلا إلى الله ) .

                                                                                                                              هكذا في الصحيحين، وغيرهما.

                                                                                                                              وعن الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه منهم بعشرة دنانير، دفعها عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

                                                                                                                              [ ص: 217 ] (قال أنس: فكان فيه ما أقول: كان فيه نخل، وقبور المشركين، وخرب) بفتح الخاء، وكسر الراء.

                                                                                                                              وروي بكسر الخاء، وفتح الراء، وكلاهما صحيح. وهو ما "تخرب من البناء".

                                                                                                                              قال الخطابي: لعل صوابه: بضم الخاء، جمع "خربة" بالضم وهي: الخروق في الأرض.

                                                                                                                              أو لعله: "حرث".

                                                                                                                              قال عياض: ما أدري ما اضطره إلى هذا؟ يعني: أن هذا تكلف لا حاجة إليه. فإن الذي ثبت في الرواية صحيح المعاني لا حاجة إلى تغييره لأنه كما أمر بقطع النخل لتسوية الأرض، أمر "بالخرب" فرفعت رسومها، وسويت مواضعها، لتصير جميع الأرض مبسوطة مستوية للمصلين.

                                                                                                                              وكذلك فعل بالقبور.

                                                                                                                              (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بالنخل" فقطع ) .

                                                                                                                              "فيه" جواز قطع الأشجار المثمرة للحاجة والمصلحة، لاستعمال خشبها؛ أو ليغرس موضعها غيرها، أو لخوف سقوطها على شيء تتلفه، أو لاتخاذ موضعها مسجدا، أو قطعها في بلاد الكفار إذا لم يرج فتحها. لأن فيه [ ص: 218 ] نكاية وغيظا لهم، وإضعافا، وإرغاما.

                                                                                                                              (وبقبور المشركين: فنبشت ) .

                                                                                                                              "فيه" جواز نبش القبور الدارسة، وأنه إذا أزيل ترابها المختلط بصديدهم، ودمائهم، جازت الصلاة في تلك الأرض. وجواز اتخاذ موضعها مسجدا إذا طيبت أرضه.

                                                                                                                              "وفيه" أن الأرض التي دفن فيها الموتى، ودرست، يجوز بيعها. وأنها باقية على ملك صاحبها، وورثته من بعده، إذا لم توقف. (وبالخرب فسويت ) بالأرض.

                                                                                                                              (قال: فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة ) .

                                                                                                                              "العضادة" بكسر العين؛ هي جانب الباب.

                                                                                                                              (قال: فكانوا يرتجزون ) .

                                                                                                                              "فيه" جواز الارتجاز، وقول الأشعار، في حال الأعمال، والأسفار، ونحوها. لتنشيط النفوس، وتسهيل الأعمال، والمشي عليها.

                                                                                                                              واختلف أهل العروض والأدب في "الرجز"، هل هو شعر أم لا؟ .

                                                                                                                              واتفقوا على أن "الشعر" لا يكون إلا بالقصد. أما إذا جرى كلام موزون بغير قصد فلا يكون شعرا.

                                                                                                                              وعليه يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك. لأن الشعر حرام عليه صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              [ ص: 219 ] (ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، وهم يقولون:

                                                                                                                              اللهم لا خير إلا خير الآخره فانصر الأنصار والمهاجره

                                                                                                                              ) .

                                                                                                                              وهذا القول كان رجزهم. وما أحسن هذا الرجز!.

                                                                                                                              وقد عامل معهم عز وجل بخير الآخرة، ونصرتهم في الدنيا، وأجاب دعاءهم في ذلك.




                                                                                                                              الخدمات العلمية