الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                                                        السنن الكبرى للنسائي

                                                                                                                        النسائي - أحمد بن شعيب النسائي

                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        حديث الإفك

                                                                                                                        9079 - أخبرنا أبو داود سليمان بن سيف الحراني قال : حدثنا يعقوب - وهو ابن إبراهيم بن سعد - قال : حدثنا أبي ، عن صالح وهو ابن كيسان ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، قال : وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصا وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة ، وبعض حديثهم يصدق بعضا ، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض ، قالوا : قالت عائشة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، [ ص: 203 ] فقالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزل الحجاب ، فكنت أحمل في هودج ، وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ، دنونا من المدينة قافلين ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني ، أقبلت إلى رحلي ، فالتمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني ، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفافا ، لم يهبلن ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم ، وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت به ، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان [ ص: 204 ] صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ، والله ما تكلمنا كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول ، قال عروة : كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول : إنه قد قال :


                                                                                                                        فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

                                                                                                                        قالت عائشة : فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ، لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يقول : كيف تيكم ؟ ثم ينصرف ، فذلك يريبني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت حين نقهت [ ص: 205 ] فخرجت معي أم مسطح على المناصع ، وكانت متبرزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأولى ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ، فانطلقت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ قالت : أي هنتاه ، أو لم تسمعي ما قال : قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا على مرضي ، قالت : فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : كيف تيكم ؟ فقلت له : ائذن لي أن آتي أبوي ، وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبوي فقلت لأمي : يا أمتاه ، ماذا يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية هوني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ، لها ضرائر ، إلا كثرن عليها ، فقلت : سبحان الله ، أو لقد تحدث الناس بهذا ؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي .

                                                                                                                        [ ص: 206 ] فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي ، يستشيرهما في فراق أهله ، فأما أسامة ، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم لهم في نفسه ، فقال أسامة : أهلك ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علي فقال : يا رسول الله ، لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : أي بريرة ، هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ، ما رأيت عليها قط أمرا أغمصه ، أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن ، فيأكله .

                                                                                                                        قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ، فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول ، وهو على المنبر فقال : يا معشر المسلمين ، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما يدخل على أهلي إلا معي ، فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال : يا رسول الله ، أنا أعذر منه ، فإن كان من الأوس ، ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ؟ قالت : وقام رجل من الخزرج - وكانت أم حسان [ ص: 207 ] ابنة عمه من فخذه - وهو سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج ، قالت : وكان قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ليقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فثار حيان : الأوس والخزرج ، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت .

                                                                                                                        قالت : وبكيت يومي ذلك كله ، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، وأصبح أبواي عندي ، وقد بقيت ليلتين ويوما ، لا أكتحل بنوم ، ولا يرقأ لي دمع ، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي ، فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس ، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، ولقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : أما بعد ، يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب [ ص: 208 ] فاستغفري الله ، وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، وقلت لأبي : أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال : قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت وأنا جارية حديثة السن ، لا أقرأ من القرآن كثيرا : إني - والله - لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، ولئن قلت لكم : إني بريئة ، لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني ، فوالله لا أجد لي مثلا ولا لكم ، إلا أبا يوسف حين قال : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ثم تحولت ، فاضطجعت على فراشي .

                                                                                                                        والله يعلم حينئذ أني بريئة ، وإن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن - والله - ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها .

                                                                                                                        قالت : فوالله ، ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان ، وهو في يوم [ ص: 209 ] شات ، من ثقل القرآن الذي أنزل عليه قال : فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : يا عائشة ، أما الله فقد برأك ، فقالت لي أمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه ، وإني لا أحمد إلا الله ، قالت : وأنزل الله : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم العشر الآيات كلها .

                                                                                                                        فلما أنزل الله هذا في براءتي ، قال أبو بكر الصديق ، وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ، فأنزل الله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم فقال أبو بكر : بلى ، والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح الذي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا .

                                                                                                                        قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري ، فقال لزينب : ماذا علمت أو رأيت ؟ قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك
                                                                                                                        .

                                                                                                                        قال ابن شهاب : فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        الخدمات العلمية