فصل في ذكر عبادة بعض هذه الأمة الإسلامية الأوثان
وقد تقدم الكلام على ذلك في الجملة
في باب: رد الإشراك في العبادات
nindex.php?page=treesubj&link=32423_32420_29435_28975قال تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=51ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت [النساء: 51].
قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر الفاروق: «الجبت»: السحر، و«الطاغوت»: الشيطان، وكذلك قال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، وغيرهم.
زاد
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: «الجبت»: الشيطان بالحبشية، وعنه أيضا: «الجبت»: الشرك، وعنه: «الجبت»: الأصنام، وعنه: «الجبت»:
حيي بن أخطب. وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي: «الجبت»: الكاهن.
وقال عكرمة، وأبو مالك: «الجبت»: الشيطان. وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد: «الجبت»:
كعب بن الأشرف.
قال
الجوهري: «الجبت»: كلمة تقع على الصنم، والكاهن، والساحر، ونحو ذلك.
وعلى هذا
nindex.php?page=treesubj&link=28667_28697كل ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله، كائنا ما كان، من الأوثان، والأصنام، والأنصاب، والقبور، والمشاهد، وغيرها، فهو جبت وطاغوت.
ويؤيده قول الخليل -عليه السلام-:
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=17إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا [العنكبوت: 17] مع قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=71قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين [الشعراء: 71] وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=95أتعبدون ما تنحتون [الصافات: 95] فعلم من هنا أن «الوثن» يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله، و«الوثن»: الجبت، والطاغوت.
[ ص: 328 ] وفيه: أن الإيمان بهما في هذه الآية، هل هو اعتقاد قلب، أو موافقة أصحابها مع بعضها ومعرفة بطلانها، وأن هذا يوجد في هذه الأمة؟.
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60وعبد الطاغوت [المائدة: 60] قال
أحمد بن يحيى: جمع «عابد» كبازل وبزل، وشارف وشرف، وكذلك عبد جمع عابد، ومثله عباد.
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=21قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا [الكهف: 21] المراد: أنهم فعلوا مع الفتية بعد موتهم ما يذم فاعله؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=668281«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» أراد: تحذير الأمة من أن يفعلوا مثل فعلهم.
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656775أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟».
أخرجه الشيخان، وهذا سياق
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم.
و«السنن» -بفتح السين- بمعنى: الطريق، و«القذة» بضم القاف واحدة القذذ، وهو ريش السهم.
والمعنى: إنكم تتبعون طريقهم في كل ما فعلوه، وتتشبهون بهم فيه كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى.
وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث آخر:
nindex.php?page=hadith&LINKID=664935«حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية، لكان في أمتي من يفعل ذلك».
أراد صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تدع شيئا مما كان يفعله أهل الكتاب إلا فعلته كله، لا تترك منه شيئا.
ومن هنا قال
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة: من فسد [من] علمائنا، ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه من النصارى. انتهى.
قال في «فتح المجيد»: فما أكثر الفريقين! لكن من رحمة الله ونعمته أن جعل
[ ص: 329 ] هذه الأمة، لا تجتمع على ضلالة؛ لحديث
nindex.php?page=showalam&ids=99ثوبان -رضي الله عنه- الآتي قريبا. وانتهى.
قلت: عدم اتباع بعض هذه الأمة لهم صحيح، وإنما الشأن في أكثر هذه الأمة، وإنك إذا تتبعت مراسم القوم ومواسمهم، رأيت أنه لا سنن يؤثر ممن كان قبلنا إلا وقد تلبس به أكثر هذه الأمة، بل جميعها، وهو أعم من العبادات والعادات.
هذه
nindex.php?page=treesubj&link=24594المساجد على القبور، والموالد للنبي -صلى الله عليه وسلم- والاحتفال بها وبالأعراس، ونحوها للموتى، إنما اشتقوها من سنن هؤلاء المشركين، واتخذوها عبادة وحسنة بين المسلمين.
فما أحسن قول أهل العلم: إن كل كفر مضى عليه الزمان ودرس، صار إسلاما، فليس في الدنيا شرك من الإشراك، ولا بدعة من البدعات، ولا كفر من الكفريات، إلا وأصلها من الأمم الماضية المشركين، وأهل الملل المبتدعين، ثم دب هذا الداء في هذه الأمة؛ كما قيل: الأصول تسري في الفروع.
فيا لله العجب من عدم مبالاة هذه الأمة بهذه الأمة! مع تنبيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وإخباره -عليه السلام- أمته بها.
وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=99ثوبان عند
البرقاني في «صحيحه» وأصله في «صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم» مرفوعا:
nindex.php?page=hadith&LINKID=664525«إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي المشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابا، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي». nindex.php?page=showalam&ids=99ثوبان: هو مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات
بحمص سنة 45هـ،
والبرقاني: هو الحافظ الكبير أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة 336هـ، ومات سنة 425هـ.
قال الخطيب: كان ثبتا ورعا، لم نر في شيوخنا أثبت منه، صنف مسندا، ضمنه ما اشتمل عليه «الصحيحان» وجمع حديث
الثوري، وشعبة، وطائفة.
[ ص: 330 ] والمراد بالأئمة المضلين: الأمراء، والعلماء، والعباد الذين يحكمون في هذه الأمة بغير علم، فيضلونهم، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=67وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا [الأحزاب: 67].
وكان بعض هؤلاء يقول لأصحابه: من كان له حاجة، فليأت إلى قبري، فإني أقضيها له، ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب، ونحو ذلك.
وهذا هو الضلال البعيد، يدعو أصحابه إلى أن يعبدوه من دون الله، ويسألوه قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم.
وقد قال سبحانه في كتابه العزيز:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=12يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=13يدعو لمن ضره أقرب من نفعه [الحج: 12- 13].
وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=3واتخذوا من دونه آلهة إلى قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=3ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا [الفرقان: 3].
وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=17فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه [العنكبوت: 17]. وأمثال هذه في القرآن كثيرة، تبين الهدى من الضلال.
ومن هذا الضرب: من يدعي أنه يصل مع الله إلى حال تسقط عنه التكاليف، ويقول: إن
nindex.php?page=treesubj&link=28680الأولياء يدعون، أو يستغاث بهم في حياتهم وبعد مماتهم، وإنهم ينفعون، أو يضرون، ويدبرون، أو يتصرفون، على سبيل الكرامات، وإنه يطلع على اللوح المحفوظ، ويأخذ من المعدن، ولا يحتاج إلى ظاهر هذه الشريعة، ويعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم، وإن
nindex.php?page=treesubj&link=28808_24594بناء المساجد والقباب على قبور الأولياء والصلحاء، وإيقادها بالسرج، ونحو ذلك جائز، وإن تغطية الأجداث الصالحة بالغلف والأردية، ونصب الأحجار المكتوبة عليها، وإيثار الأسفار إلى زيارتها مستحسنة.
فكل هذا من الغلو القبيح، والإفراط المذموم، والشرك المردود؛ لأنه من جنس العبادة لغير الله تعالى، وعبادة غيره سبحانه شرك بواح، وكفر صراح.
[ ص: 331 ] ومنهم من يقول لمريديه: إن تصلوا، فحسن، وإن لم تصلوا، فما عليكم.
ومنهم من
nindex.php?page=treesubj&link=28806يضع عن معتقديه بعض فرائض الله، ويحل لهم ما حرمه الله تعالى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على هذا الهذيان والطغيان، فما أكثره!.
ومنهم من يقول لأصحابه: إن كل من لا شيخ له، لا نجاة له في الآخرة، ولا غوث له في الدنيا. وهذا هو الكفر البحت، والمحادة لله ولكتابه ولرسوله.
وهل حاجة لأحد ممن أسلم وجهه لله أن يتخذ شيخا غير من جعله الله شيخ الأنبياء والرسل، وقضى على لسانه كل ما حرمه وأحله، وبلغ جميع ما أنزل إليه ربه في كتابه العزيز، ولم يغادر صغيرا ولا كبيرا، من بر وإثم إلا أخبر به أمته، وأرشدهم إلى كل خير، وحذرهم عن كل شر كائن إلى يوم القيامة، وهو سيد المرسلين، وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم؟!
ولما كان حيا كان شيخا بنفسه المقدسة، ولما توفي، فسنته قدوة للمقلدين، وأسوة للمسلمين أجمعين.
ولا نعني بهذا الكلام إنكار بيعة الإسلام بالسادة الكرام على إرادة الإنابة إلى الله تعالى، واختيار التقوى منه سبحانه، فهذا شأن آخر.
قال في «فتح المجيد»: أتى بلفظ «إنما» الذي يأتي للحصر؛ بيانا لشدة خوفه على أمته من الأئمة الضالين، وما وقع ذلك في خلد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا على طريق إطلاع الله تعالى له على بعض غيوبه؛ من أنه سيقع نظير ما في الحديث قبله من قوله:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656775«لتتبعن سنن من كان قبلكم».
وقد بين الله في كتابه، الصراط المستقيم، الذي هو سبيل المؤمنين الموحدين.
nindex.php?page=treesubj&link=19061فكل من أحدث حدثا ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو ملعون، وحدثه مردود عليه؛ كما قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=691229«من أحدث حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا». [ ص: 332 ] وقال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=660250«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد» وقال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=675914«كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».
وهذه أحاديث صحيحة، وعليها مدار أصول الدين وأحكامه.
وقد بين الله هذا الأصل في مواضع من كتابه العزيز، فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=3اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء [الأعراف: 3] وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=18ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها [الجاثية: 18)، ونظائر ذلك في القرآن كثيرة.
وعن
زياد بن حدير، قال: قال لي
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر -رضي الله عنه-: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق في الكتاب، وحكم الأئمة المضلين. رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14274الدارمي.
وقال
يزيد بن عميرة: كان
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل -رضي الله عنه- لا يجلس مجلسا للذكر إلا يقول: الله حكم قسط، هلك المرتابون.
وفيه: واحذروا زينة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق.
قلت
nindex.php?page=showalam&ids=32لمعاذ: وما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة والمنافق قد يقول كلمة الحق؟.
قال: قال لي: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه؛ فإنه لعله يراجع الحق، وتلق الحق إذا سمعته؛ فإن على الحق نورا. رواه
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود وغيره. انتهى.
قلت: وقد كثر الأئمة المضلون في هذه الأمة منذ زمن طويل، وهم في هذا الزمن أكثر من كل شيء، ولا منجي منهم إلا الله. اللهم أنج المؤمنين من هؤلاء المشركين.
وأما وقع السيف في هذه الأمة، فاعلم أن بدايته كان بقتل
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان -رضي الله عنه- ثم لم يرفع إلى هذا الزمان، في عصر من الأعصار، وقطر من الأقطار،
[ ص: 333 ] ولا يرفع إلى يوم القيامة، ولكن قد يكثر، وقد يقل، ويكون في جملة، ويرتفع عن أخرى.
وأما عبادة هذه الأمة الأوثان، فحي واحد الأحياء، وهي القبائل، وفي رواية
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبي داود: nindex.php?page=hadith&LINKID=702206«حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين» والمعنى: إنهم يكونون معهم، ويرتدون -برغبتهم- عن أهل الإسلام، ولحوقهم بأهل الشرك والطغيان.
وهذا مشاهد اليوم، فإنك ترى الناس الكثيرين صاروا مسيحيين في الزي والكلام، وآثروا صحبة الطغام اللئام، يحبون سنن من ليسوا من أهل الإسلام، ويرغبون عن المسلمين، وعن أوضاع الدين.
ومعنى «الفئام» مهموزة: الجماعات الكثيرة، قاله أبو السعادات. وفي رواية أبي داود:
nindex.php?page=hadith&LINKID=702260«حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان».
والحديث نص في لحوق بعض هذه الأمة أو أكثرها بالمشركين في آخر الزمان، قبل قيام الساعة.
ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور، الجاحدين لما يقع منهم من الشرك بالله، بعبادتهم الأولياء وقبورهم، وهي الأوثان لهم في الحقيقة، وإن أنكروا على ذلك؛ لجهلهم بحقيقة التوحيد، وما يناقضه من الشرك والتنديد.
فالتوحيد هو أعظم مطلوب، والشرك هو أعظم الذنوب.
وكل مشرك ملحق بعبدة الأوثان، كائنا من كان، وفي أي مكان كان.
فإن «الوثن» يعم كل ما يعبد من دون الرحمن من الجماد والنبات والحيوان.
وفي معنى هذا الحديث في «الصحيحين» عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656583«لا تقوم الساعة حتى تضرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة» الحديث. «وذو الخلصة»: طاغية
دوس التي كانوا يعبدونها في الجاهلية.
روى
nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر، قال: إن عليه الآن بيتا مبنيا مغلقا.
[ ص: 334 ] قال
العلامة ابن القيم -رحمه الله- في قصة هدم اللات لما أسلمت ثقيف: فيه: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، وكذلك حكم المشاهد التي بنيت على القبور، والتي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة «اللات»، و«العزى»، ومناة، وأعظم شركا عندها، وبها منها، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس؛ لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية، بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. انتهى.
زاد في «فتح المجيد»: قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وقبله، فما بعده أعظم فسادا. انتهى.
وأقول: جاء هذا الفساد من بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخير، ولم يكن زمن من هذه الأزمنة إلى زماننا هذا إلا وقد زادت فيه غربة الإسلام وقوة الشرك والآثام، إلى أن فني في هذا العصر أكثره، ولم يبق منه إلا الاسم والرسم، وصار الملك تحت أيدي غير الإسلام، وصار علماء المسلمين اليوم يجادلون فيما بينهم، ولا يرفعون رأسا إلى من سواهم، حتى يردوا عليهم، أو يقووا ما درس من الملة، بل همتهم النقض على أبناء جنسهم، بمجرد كونهم من أهل الاتباع، خارجين عن تقليد الإمام أبي حنيفة -رضي الله عنه- مثلا.
وإن رد على هؤلاء المجادلين أحد من أهل الكتاب، أو الرافضة مثلا، فلا
[ ص: 335 ] يجيبون عليه أبدا، إنما يسارعون إلى أهل الحق وطردهم لسانا وبيانا، وهم في ذلك أطيش من ذباب، وأجهل من غراب.
وأما هدم الطواغيت، فكان هذا الفعل من سلف هذه الأمة على الوجه النافذ، حتى إنك ترى آثارهم باقية إلى الآن.
كم هدم ملوك الإسلام من معابد الهنود واليهود، وبنوا هناك مساجد! وكم قلعوا منصة التعزية، وخرقوا الضرائح القرطاسية، وجعلوا مكانها مدارس العلم بخلوص النية! وكم محوا نصبا وأحجارا، وكسروا أوثانا وأصناما، وجعلوها مكانا لعبادة الله ودرس العلم!.
وأما الآن، فكم من مسجد يهدم أو يهان، ويبنى مكانه بيع وصوامع، بلا نكير من إنسان! فهذا كله من آثار حكم الأئمة المضلين، وسطوة الفرق الضالين، والله أعلم بما سيكون بعد هذا.
وأين من يستطيع أن يقول عند ذلك: من ذا؟ وما ذا؟.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ عِبَادَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْأَوْثَانَ
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ
فِي بَابِ: رَدِّ الْإِشْرَاكِ فِي الْعِبَادَاتِ
nindex.php?page=treesubj&link=32423_32420_29435_28975قَالَ تَعَالَى: nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=51أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النِّسَاءِ: 51].
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ الْفَارُوقُ: «الْجِبْتُ»: السِّحْرُ، وَ«الطَّاغُوتُ»: الشَّيْطَانُ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمْ.
زَادَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ: «الْجِبْتُ»: الشَّيْطَانُ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: «الْجِبْتُ»: الشِّرْكُ، وَعَنْهُ: «الْجِبْتُ»: الْأَصْنَامُ، وَعَنْهُ: «الْجِبْتُ»:
حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ. وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشَّعْبِيِّ: «الْجِبْتُ»: الْكَاهِنُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو مَالِكٍ: «الْجِبْتُ»: الشَّيْطَانُ. وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16879مُجَاهِدٍ: «الْجِبْتُ»:
كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ.
قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: «الْجِبْتُ»: كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الصَّنَمِ، وَالْكَاهِنِ، وَالسَّاحِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=28667_28697كُلُّ مَا قُصِدَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَائِنًا مَا كَانَ، مِنَ الْأَوْثَانِ، وَالْأَصْنَامِ، وَالْأَنْصَابِ، وَالْقُبُورِ، وَالْمَشَاهِدِ، وَغَيْرِهَا، فَهُوَ جِبْتٌ وَطَاغُوتٌ.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-:
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=17إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [الْعَنْكَبُوتِ: 17] مَعَ قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=71قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشُّعَرَاءِ: 71] وَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=95أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصَّافَّاتِ: 95] فَعُلِمَ مِنْ هُنَا أَنَّ «الْوَثَنَ» يُطْلَقُ عَلَى الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِمَّا عُبِدَ مَنْ دُونِ اللَّهِ، وَ«الْوَثَنُ»: الْجِبْتُ، وَالطَّاغُوتُ.
[ ص: 328 ] وَفِيهِ: أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ هُوَ اعْتِقَادُ قَلْبٍ، أَوْ مُوَافَقَةُ أَصْحَابِهَا مَعَ بَعْضِهَا وَمَعْرِفَةُ بُطْلَانِهَا، وَأَنَّ هَذَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ؟.
قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [الْمَائِدَةِ: 60] قَالَ
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: جَمْعُ «عَابِدٍ» كَبَازِلٍ وَبَزَلٍ، وَشَارِفٍ وَشَرَفٍ، وَكَذَلِكَ عُبَّدٌ جَمْعُ عَابِدٍ، وَمِثْلُهُ عِبَادٌ.
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=21قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الْكَهْفِ: 21] الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَعَ الْفِتْيَةِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=668281«لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» أَرَادَ: تَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ فِعْلِهِمْ.
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=44أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656775أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟».
أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَهَذَا سِيَاقُ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مُسْلِمٍ.
وَ«السَّنَنُ» -بِفَتْحِ السِّينِ- بِمَعْنَى: الطَّرِيقِ، وَ«الْقُذَّةُ» بِضَمِّ الْقَافِ وَاحِدَةُ الْقُذَذِ، وَهُوَ رِيشُ السَّهْمِ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ تَتَّبِعُونَ طَرِيقَهُمْ فِي كُلِّ مَا فَعَلُوهُ، وَتَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ فِيهِ كَمَا تُشْبِهُ قُذَّةُ السَّهْمِ الْقُذَّةَ الْأُخْرَى.
وَقَدْ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=664935«حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَأْتِي أُمَّهُ عَلَانِيَةً، لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ».
أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُمَّتَهُ لَا تَدَعُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَّا فَعَلَتْهُ كُلَّهُ، لَا تَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئًا.
وَمِنْ هُنَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16008سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ فَسَدَ [مِنْ] عُلَمَائِنَا، فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا، فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى. انْتَهَى.
قَالَ فِي «فَتْحِ الْمَجِيدِ»: فَمَا أَكْثَرَ الْفَرِيقَيْنِ! لَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ
[ ص: 329 ] هَذِهِ الْأُمَّةَ، لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ لِحَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=99ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الْآتِي قَرِيبًا. وَانْتَهَى.
قُلْتُ: عَدَمُ اتِّبَاعِ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهُمْ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّكَ إِذَا تَتَبَّعْتَ مَرَاسِمَ الْقَوْمَ وَمَوَاسِمَهُمْ، رَأَيْتَ أَنَّهُ لَا سَنَنَ يُؤْثَرُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَنَا إِلَّا وَقَدْ تَلَبَّسَ بِهِ أَكْثَرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ جَمِيعُهَا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ.
هَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=24594الْمَسَاجِدُ عَلَى الْقُبُورِ، وَالْمَوَالِدُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالِاحْتِفَالُ بِهَا وَبِالْأَعْرَاسِ، وَنَحْوُهَا لِلْمَوْتَى، إِنَّمَا اشْتَقُّوهَا مِنْ سَنَنِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَاتَّخَذُوهَا عِبَادَةً وَحَسَنَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
فَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ كُلَّ كُفْرٍ مَضَى عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَدَرَسَ، صَارَ إِسْلَامًا، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شِرْكٌ مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَلَا بِدْعَةٌ مِنَ الْبِدْعَاتِ، وَلَا كُفْرٌ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ، إِلَّا وَأَصْلُهَا مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْمِلَلِ الْمُبْتَدِعِينَ، ثُمَّ دَبَّ هَذَا الدَّاءُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ كَمَا قِيلَ: الْأُصُولُ تَسْرِي فِي الْفُرُوعِ.
فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ عَدَمِ مُبَالَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ! مَعَ تَنْبِيهِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ، وَإِخْبَارِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أُمَّتَهُ بِهَا.
وَفِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=99ثَوْبَانَ عِنْدَ
الْبُرْقَانِيِّ فِي «صَحِيحِهِ» وَأَصْلُهُ فِي «صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مُسْلِمٍ» مَرْفُوعًا:
nindex.php?page=hadith&LINKID=664525«إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمُ السَّيْفُ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي الْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ كَذَّابًا، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدِي». nindex.php?page=showalam&ids=99ثَوْبَانُ: هُوَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَاتَ
بِحِمْصَ سَنَةَ 45هـ،
وَالْبُرْقَانِيُّ: هُوَ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ الْخَوَارِزْمِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ 336هـ، وَمَاتَ سَنَةَ 425هـ.
قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَ ثَبْتًا وَرِعًا، لَمْ نَرَ فِي شُيُوخِنَا أَثْبَتَ مِنْهُ، صَنَّفَ مُسْنَدًا، ضَمَّنَهُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ «الصَّحِيحَانِ» وَجَمَعَ حَدِيثَ
الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ، وَطَائِفَةٍ.
[ ص: 330 ] وَالْمُرَادُ بِالْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ: الْأُمَرَاءُ، وَالْعُلَمَاءُ، وَالْعُبَّادُ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيُضِلُّونَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=67وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الْأَحْزَابِ: 67].
وَكَانَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ، فَلْيَأْتِ إِلَى قَبْرِي، فَإِنِّي أَقْضِيهَا لَهُ، وَلَا خَيْرَ فِي رَجُلٍ يَحْجُبُهُ عَنْ أَصْحَابِهِ ذِرَاعٌ مِنْ تُرَابٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَهَذَا هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو أَصْحَابَهُ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَسْأَلُوهُ قَضَاءَ حَاجَاتِهِمْ، وَتَفْرِيجَ كُرُبَاتِهِمْ.
وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=12يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=13يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الْحَجِّ: 12- 13].
وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=3وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِلَى قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=3وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا [الْفُرْقَانِ: 3].
وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=17فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [الْعَنْكَبُوتِ: 17]. وَأَمْثَالُ هَذِهِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، تُبَيِّنُ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ.
وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ: مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ يَصِلُ مَعَ اللَّهِ إِلَى حَالٍ تَسْقُطُ عَنْهُ التَّكَالِيفُ، وَيَقُولُ: إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28680الْأَوْلِيَاءَ يُدْعَوْنَ، أَوْ يُسْتَغَاثُ بِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ، وَإِنَّهُمْ يَنْفَعُونَ، أَوْ يَضُرُّونَ، وَيُدَبِّرُونَ، أَوْ يَتَصَرَّفُونَ، عَلَى سَبِيلِ الْكَرَامَاتِ، وَإِنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَيَأْخُذُ مِنَ الْمَعْدِنِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَيَعْلَمُ أَسْرَارَ النَّاسِ وَمَا فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28808_24594بِنَاءَ الْمَسَاجِدِ وَالْقِبَابِ عَلَى قُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَإِيقَادَهَا بِالسُّرُجِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنَّ تَغْطِيَةَ الْأَجْدَاثِ الصَّالِحَةِ بِالْغُلْفِ وَالْأَرْدِيَةِ، وَنَصْبَ الْأَحْجَارِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَيْهَا، وَإِيثَارَ الْأَسْفَارِ إِلَى زِيَارَتِهَا مُسْتَحْسَنَةٌ.
فَكُلُّ هَذَا مِنَ الْغُلُوِّ الْقَبِيحِ، وَالْإِفْرَاطِ الْمَذْمُومِ، وَالشِّرْكِ الْمَرْدُودِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِبَادَةُ غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ شِرْكٌ بَوَاحٌ، وَكُفْرٌ صُرَاحٌ.
[ ص: 331 ] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لِمُرِيدِيهِ: إِنْ تُصَلُّوا، فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ تُصَلُّوا، فَمَا عَلَيْكُمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28806يَضَعُ عَنْ مُعْتَقِدِيهِ بَعْضَ فَرَائِضِ اللَّهِ، وَيَحِلُّ لَهُمْ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، عَلَى هَذَا الْهَذَيَانِ وَالطُّغْيَانِ، فَمَا أَكْثَرَهُ!.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَا شَيْخَ لَهُ، لَا نَجَاةَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا غَوْثَ لَهُ فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا هُوَ الْكُفْرُ الْبَحْتُ، وَالْمُحَادَّةُ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ.
وَهَلْ حَاجَةٌ لِأَحَدٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ شَيْخًا غَيْرَ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ شَيْخَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَقَضَى عَلَى لِسَانِهِ كُلَّ مَا حَرَّمَهُ وَأَحَلَّهُ، وَبَلَّغَ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَ إِلَيْهِ رَبُّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَلَمْ يُغَادِرْ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا، مِنْ بِرٍّ وَإِثْمٍ إِلَّا أَخْبَرَ بِهِ أُمَّتَهُ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَحَذَّرَهُمْ عَنْ كُلِّ شَرٍّ كَائِنٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
وَلَمَّا كَانَ حَيًّا كَانَ شَيْخًا بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ، فَسُنَّتُهُ قُدْوَةٌ لِلْمُقَلِّدِينَ، وَأُسْوَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ.
وَلَا نَعْنِي بِهَذَا الْكَلَامِ إِنْكَارَ بَيْعَةِ الْإِسْلَامِ بِالسَّادَةِ الْكِرَامِ عَلَى إِرَادَةِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاخْتِيَارَ التَّقْوَى مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَهَذَا شَأْنٌ آخَرُ.
قَالَ فِي «فَتْحِ الْمَجِيدِ»: أَتَى بِلَفْظِ «إِنَّمَا» الَّذِي يَأْتِي لِلْحَصْرِ؛ بَيَانًا لِشِدَّةِ خَوْفِهِ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الضَّالِّينَ، وَمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي خَلَدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا عَلَى طَرِيقِ إِطْلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى بَعْضِ غُيُوبِهِ؛ مِنْ أَنَّهُ سَيَقَعُ نَظِيرُ مَا فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656775«لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ».
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، الَّذِي هُوَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ.
nindex.php?page=treesubj&link=19061فَكُلُّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ مَلْعُونٌ، وَحَدَثُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ؛ كَمَا قَالَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=691229«مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا». [ ص: 332 ] وَقَالَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=660250«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ» وَقَالَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=675914«كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».
وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْكَامُهُ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ هَذَا الْأَصْلَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=3اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الْأَعْرَافِ: 3] وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=18ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا [الْجَاثِيَةِ: 18)، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
وَعَنْ
زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ، قَالَ: قَالَ لِي
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ فِي الْكِتَابِ، وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ. رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14274الدَّارِمِيُّ.
وَقَالَ
يَزِيدُ بْنُ عُمَيْرَةَ: كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ إِلَّا يَقُولُ: اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ، هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ.
وَفِيهِ: وَاحْذَرُوا زِينَةَ الْحَكِيمِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ الضَّلَالَةَ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ.
قُلْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=32لِمُعَاذٍ: وَمَا يُدْرِينِي رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ وَالْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟.
قَالَ: قَالَ لِي: اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْتَبِهَاتِ الَّتِي يُقَالُ: مَا هَذِهِ؟ وَلَا يَثْنِيكَ ذَلِكَ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ يُرَاجِعُ الْحَقَّ، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ؛ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا. رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11998أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ. انْتَهَى.
قُلْتُ: وَقَدْ كَثُرَ الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ، وَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَنِ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا مُنَجِّيَ مِنْهُمْ إِلَّا اللَّهُ. اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ.
وَأَمَّا وَقْعُ السَّيْفِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ بِدَايَتَهُ كَانَ بِقَتْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=7عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ثُمَّ لَمْ يُرْفَعُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ، فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، وَقُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ،
[ ص: 333 ] وَلَا يُرْفَعُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ قَدْ يَكْثُرُ، وَقَدْ يَقِلُّ، وَيَكُونُ فِي جُمْلَةٍ، وَيَرْتَفِعُ عَنْ أُخْرَى.
وَأَمَّا عِبَادَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَوْثَانَ، فَحَيٌّ وَاحِدُ الْأَحْيَاءِ، وَهِيَ الْقَبَائِلُ، وَفِي رِوَايَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=11998أَبِي دَاوُدَ: nindex.php?page=hadith&LINKID=702206«حَتَّى يَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ» وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ يَكُونُونَ مَعَهُمْ، وَيَرْتَدُونَ -بِرَغْبَتِهِمْ- عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلُحُوقُهُمْ بِأَهْلِ الشِّرْكِ وَالطُّغْيَانِ.
وَهَذَا مُشَاهَدٌ الْيَوْمَ، فَإِنَّكَ تَرَى النَّاسَ الْكَثِيرِينَ صَارُوا مَسِيحِيِّينَ فِي الزِّيِّ وَالْكَلَامِ، وَآثَرُوا صُحْبَةَ الطَّغَامَ اللِّئَامَ، يُحِبُّونَ سَنَنَ مَنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَيَرْغَبُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ أَوْضَاعِ الدِّينِ.
وَمَعْنَى «الْفِئَامِ» مَهْمُوزَةً: الْجَمَاعَاتُ الْكَثِيرَةُ، قَالَهُ أَبُو السَّعَادَاتِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=702260«حَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ».
وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي لُحُوقِ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ أَكْثَرِهَا بِالْمُشْرِكِينَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ.
فَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ بِخِلَافِهِ مِنْ عُبَّادِ الْقُبُورِ، الْجَاحِدِينَ لِمَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، بِعِبَادَتِهِمُ الْأَوْلِيَاءَ وَقُبُورَهُمْ، وَهِيَ الْأَوْثَانُ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ أَنْكَرُوا عَلَى ذَلِكَ؛ لِجَهْلِهِمْ بِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَا يُنَاقِضُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّنْدِيدِ.
فَالتَّوْحِيدُ هُوَ أَعْظَمُ مَطْلُوبٍ، وَالشِّرْكُ هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ.
وَكُلُّ مُشْرِكٍ مُلْحَقٌ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَفِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَ.
فَإِنَّ «الْوَثَنَ» يَعُمُّ كُلَّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ مِنَ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ.
وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656583«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْرِبَ أَلْيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ» الْحَدِيثَ. «وَذُو الْخَلَصَةِ»: طَاغِيَةُ
دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=13053ابْنُ حِبَّانَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ، قَالَ: إِنَّ عَلَيْهِ الْآنَ بَيْتًا مَبْنِيًّا مُغْلَقًا.
[ ص: 334 ] قَالَ
الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي قِصَّةِ هَدْمِ اللَّاتِ لَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ: فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْقَاءُ مَوَاضِعِ الشِّرْكِ وَالطَّوَاغِيتِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى هَدْمِهَا وَإِبْطَالِهَا يَوْمًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَشَاهِدِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْقُبُورِ، وَالَّتِي اتُّخِذَتْ أَوْثَانًا تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْأَحْجَارِ الَّتِي تُقْصَدُ لِلتَّبَرُّكِ وَالنَّذْرِ، لَا يَجُوزُ إِبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِزَالَتِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ «اللَّاتِ»، وَ«الْعُزَّى»، وَمَنَاةٍ، وَأَعْظَمُ شِرْكًا عِنْدَهَا، وَبِهَا مِنْهَا، فَاتَّبَعَ هَؤُلَاءِ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَسَلَكُوا سَبِيلَهُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، وَغَلَبَ الشِّرْكُ عَلَى أَكْثَرِ النُّفُوسِ؛ لِظُهُورِ الْجَهْلِ، وَخَفَاءِ الْعِلْمِ، وَصَارَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَالسُّنَّةُ بِدْعَةً، وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، وَطُمِسَتِ الْأَعْلَامُ، وَاشْتَدَّتْ غُرْبَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَلَّ الْعُلَمَاءُ، وَغَلَبَ السُّفَهَاءُ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَاشْتَدَّ الْبَأْسُ، وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ.
وَلَكِنْ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعِصَابَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، بِالْحَقِّ قَائِمِينَ، وَلِأَهْلِ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ مُجَاهِدِينَ، إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. انْتَهَى.
زَادَ فِي «فَتْحِ الْمَجِيدِ»: قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ وَقَبْلَهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَعْظَمُ فَسَادًا. انْتَهَى.
وَأَقُولُ: جَاءَ هَذَا الْفَسَادُ مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْخَيْرِ، وَلَمْ يَكُنْ زَمَنٌ مِنْ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا إِلَّا وَقَدْ زَادَتْ فِيهِ غُرْبَةُ الْإِسْلَامِ وَقُوَّةُ الشِّرْكِ وَالْآثَامِ، إِلَى أَنْ فَنِيَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَكْثَرُهُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الِاسْمُ وَالرَّسْمُ، وَصَارَ الْمُلْكُ تَحْتَ أَيْدِي غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَصَارَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ يُجَادِلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَا يَرْفَعُونَ رَأْسًا إِلَى مَنْ سِوَاهُمْ، حَتَّى يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ، أَوْ يُقَوُّوا مَا دَرَسَ مِنَ الْمِلَّةِ، بَلْ هِمَّتُهُمُ النَّقْضُ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ، بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الِاتِّبَاعِ، خَارِجِينَ عَنْ تَقْلِيدِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَثَلًا.
وَإِنْ رَدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوِ الرَّافِضَةِ مَثَلًا، فَلَا
[ ص: 335 ] يُجِيبُونَ عَلَيْهِ أَبَدًا، إِنَّمَا يُسَارِعُونَ إِلَى أَهْلِ الْحَقِّ وَطَرْدِهِمْ لِسَانًا وَبَيَانًا، وَهُمْ فِي ذَلِكَ أَطْيَشُ مِنْ ذُبَابٍ، وَأَجْهَلُ مِنْ غُرَابٍ.
وَأَمَّا هَدْمُ الطَّوَاغِيتِ، فَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْوَجْهِ النَّافِذِ، حَتَّى إِنَّكَ تَرَى آثَارَهُمْ بَاقِيَةً إِلَى الْآنِ.
كَمْ هَدَمَ مُلُوكُ الْإِسْلَامِ مِنْ مَعَابِدِ الْهُنُودِ وَالْيَهُودِ، وَبَنَوْا هُنَاكَ مَسَاجِدَ! وَكَمْ قَلَعُوا مِنَصَّةَ التَّعْزِيَةِ، وَخَرَقُوا الضَّرَائِحَ الْقِرْطَاسِيَّةَ، وَجَعَلُوا مَكَانَهَا مَدَارِسَ الْعِلْمِ بِخُلُوصِ النِّيَّةِ! وَكَمْ مَحَوْا نُصُبًا وَأَحْجَارًا، وَكَسَرُوا أَوْثَانًا وَأَصْنَامًا، وَجَعَلُوهَا مَكَانًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَدَرْسِ الْعِلْمِ!.
وَأَمَّا الْآنَ، فَكَمْ مِنْ مَسْجِدٍ يُهْدَمُ أَوْ يُهَانُ، وَيُبْنَى مَكَانُهُ بِيَعٌ وَصَوَامِعُ، بِلَا نَكِيرٍ مِنْ إِنْسَانٍ! فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ آثَارِ حُكْمِ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، وَسَطْوَةِ الْفِرَقِ الضَّالِّينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا سَيَكُونُ بَعْدَ هَذَا.
وَأَيْنَ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ ذَلِكَ: مَنْ ذَا؟ وَمَا ذَا؟.