الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في أقسام اللعان على نفي الولد]

                                                                                                                                                                                        واللعان على نفي الولد على سبعة أقسام: يصح في أربعة، ويختلف في ثلاثة:

                                                                                                                                                                                        فيصح إذا اجتمع الاستبراء والرؤية، وأتت به من بعد الرؤية لستة أشهر فصاعدا.

                                                                                                                                                                                        والثاني: أن ينفيه بالأمد وإن لم يدع رؤية ولا استبراء، فيقول: لم أصبها منذ كذا؛ لأمد لا يلحق به الولد لأكثر من أربع سنين أو خمس أو سبع على الاختلاف في ذلك.

                                                                                                                                                                                        والثالث: أن يقول لم أصبها بعدما وضعت ولدا كان قبل هذا، مما يعلم أنه بطن ثان.

                                                                                                                                                                                        والرابع: أن يقول لم تلديه.

                                                                                                                                                                                        فهذه أربعة أقسام لا خلاف فيها.

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب فيمن قال لامرأته- ولم يكن رأى منها حملا حتى وضعت: لم تلدي هذا الولد، وقالت: قد ولدته، فقال: إن انتفى منه لاعن، وإن قال: هو ولدي ولم تلديه لحق به ولم يلاعن. [ ص: 2443 ]

                                                                                                                                                                                        وأرى إن هو نفاه، ثم نكل عن اللعان لم يحد؛ لأنه لم يقذفها، وإنما قال: التقطته ونسبته إلي، ولأن صفة لعانه أن يشهد في الأربع أنها لم تلده لا غير ذلك، فهو لم يثبت عليها زنى ولا ادعاه، ولا لعان عليها، وتبقى زوجة على حالها.

                                                                                                                                                                                        واختلف في نفيه بالاستبراء بانفراده من غير رؤية، وفي نفيه بالرؤية بانفرادها من غير استبراء إذا أتت به من بعد الرؤية لستة أشهر، وفي نفيه إذا كانت حين الرؤية ظاهرة الحمل، أو لم تكن ظاهرة الحمل أو أتت به لدون ستة أشهر، فأما نفيه بالاستبراء فقال مالك مرة: ينفيه به. ورأى مرة ألا ينفى به: لأن الحيض يأتي على الحمل، وهو قول أشهب في كتاب محمد.

                                                                                                                                                                                        واختلف بعد القول بجواز نفيه بالاستبراء، فقال مالك والمغيرة يجزئ في ذلك حيضة، وقال أيضا: لا ينفيه إلا بثلاث، وذكر ابن الماجشون في كتابه عن المغيرة أنه قال: ينفيه بثلاث حيض، وقال أيضا: لا [ ص: 2444 ] ينفيه إلا بخمس سنين. يريد: بالأمد لا بالاستبراء.

                                                                                                                                                                                        واختلف عن مالك في نفيه بالرؤية بانفرادها إذا كان الزوج قد أصابها في ذلك الطهر وأتت به لستة أشهر فأكثر، فقال المغيرة في المدونة في هذا ينفيه.

                                                                                                                                                                                        واختلف عن ابن القاسم في هذا الأصل، فقال في كتاب محمد فيمن باع أمة قد أصابها وأصابها المشتري في ذلك الطهر، فأتت بولد من بعد وطء الثاني لستة أشهر فأكثر إنه للثاني، وإن كان أصابها هذا اليوم والآخر غدا فعلى هذا يكون للزوج أن ينفيه باللعان الثاني كما قال المغيرة، والمعروف في هذا أن تدعى له القافة. فجعل مالك له أن ينفيه لظاهر حديث عويمر أنه نفاه للرؤية، ولم يذكر استبراء، وخصه مرة بالقياس؛ لأنهما ماءان اختلطا، حلال وحرام، فلم يجز أن يحمل على أنه للحرام دون الحلال.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد بن عبد الحكم: كيف إذا اجتمع الحلال والحرام يحكم به للحرام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بالولد للفراش في ولد زمعة، وقال لسودة: "احتجبي منه" لما رأى من شبهه بعتبة، وهذا الاحتجاج صحيح قياسا [ ص: 2445 ] على التي تتزوج في عدتها قبل حيضتها، أو تأتي بولد لستة أشهر من يوم أصاب الثاني أنه للأول، ولا يدعى له القافة، فهو في الزنا أبين ألا يجعل للثاني، إلا أن للزوج أن يقول: قد جعل للزوج الأول إذا تزوجت في العدة مخرج، لئلا يلحق به ولد غيره بالقافة، ولم يجعل له ذلك في الزنا، بل يقال له: تمنع من نفيه باللعان، ولا يدعى له القافة، ويلحق به مع إمكان أن يكون جميعه من الزنا.

                                                                                                                                                                                        وقال الليث بن سعد: تدعى له القافة، فإن ألحق بالزنا لم ينسب إليه.

                                                                                                                                                                                        ويحتمل أن يكون حمل حديث ولد زمعة أن يكون اشتركا فيه، وكان الغالب شبهه بزمعة، وللآخر بعض الشبه: لأن وطء عتبة كان في الكفر، وقد كان النسب يلحق فيه بالزنا، وتدعى فيه القافة للحرائر، وإذا لم يكن من نفيه بالرؤية لم يحد لقذفها، وكان له أن يلاعن لسقوط الحد؛ لأنه يقول: ذكرت ذلك خيفة من لحوق النسب، ولا علم لي بما تقدم من حملها، ولا أرى أن ينفى بالاستبراء بانفراده؛ لأن من قول مالك وأصحابه يصح أن تحيض، وإنما اختلف في القدر الذي تترك له الصلاة، وهل أول الحمل وآخره سواء.

                                                                                                                                                                                        وقال في المعتدة تقول: حضت ثلاث حيض ثم تأتي بولد، وتقول إن المرأة [ ص: 2446 ] تهراق الدم على الحمل: إن الولد للزوج، وإذا صح أن الحامل تحيض، لم يصح نفيه بالاستبراء؛ لأن الزوج لا علم له من زناها، وليس عنده أكثر من أنها حاضت.

                                                                                                                                                                                        فإن قيل: يلزم على هذا ألا تحل للأزواج؛ لأنها على شك من البراءة. قيل: لا تمنع؛ لأن ذلك نادر، فلا تمنع من أجل النادر.

                                                                                                                                                                                        فإن قيل: قد جعلت الولد للنادر إذا أصابها الثاني بعد حيضة، وأتت به لستة أشهر من وطء الثاني أن الولد للثاني، والوضع لستة أشهر نادر.

                                                                                                                                                                                        قيل: لما اجتمع الشيئان: حيض والغالب منه البراءة، وحدوث وطء بعده- جعل الولد للمحدث؛ لأن الحيضة فصلت بين الوطأين. وإذا لم ينف الولد بالاستبراء لم يحد؛ لأنه يقول: ظننت أن الاستبراء دليل على أنه ليس مني، كما لو أنكر لونه فلم يصح نفيه بذلك، لم يحد.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا لاعن للرؤية ثم ظهر حمل، فقال ابن القاسم: يكون ذلك اللعان الذي كان- نفيا للولد.

                                                                                                                                                                                        وقاله أشهب في كتاب محمد، وقال ابن الماجشون لا ينفيه إلا بلعان ثان: لأن اللعان لم يكن للولد ولولا ذلك لم يكن عليه أن يسأل عن [ ص: 2447 ] الاستبراء، وقاله أصبغ. وهذا راجع إلى الخلاف المتقدم، فعلى القول: إنه يكتفي في لعانه للنفي بقوله: زنت يجزئ اللعان الأول، وعلى القول أنه يقول: وما هذا الحمل مني، ولقد استبرئت يلتعن لعانا ثانيا يثبت ذلك فيه، وإن أكذب نفسه في اللعان الثاني لحق به الولد، ولم يحد؛ لأن اللعان الأول لم يسقط إلا على ما ذكره عبد الوهاب.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا أكذب نفسه في الرؤية هل يحد؛ لأنه يعود إلى النفي بالاستبراء بانفراده؟ فعلى القول إنه لا ينتفي يحد للأول: لأن الرؤية لم تصح لإكذابه نفسه، والنسب لم يسقط لانفراده عن الرؤية.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا التعن لعانا واحدا للرؤية ولنفي النسب، ثم استلحق الولد، فقال محمد: إذا استلحق الولد؛ فإن كان لاعن للرؤية أو للرؤية ولإنكار الولد، لم يحد، وإن كان لإنكار الولد وحده حد.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في المدونة: إذا لاعن للرؤية ثم ظهر حمل، فقال: قد كنت استبرأت منه، فانتفى منه بذلك، ثم أكذب نفسه في الاستبراء إنه يحد.

                                                                                                                                                                                        والأول أحسن؛ لأن الرؤية والاستبراء شيئان، وليس كذبه في أحدهما كذبا في الآخر، ولو رجع عن الرؤية لحد. [ ص: 2448 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية