الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في دعوى المرأة الغصب]

                                                                                                                                                                                        وإن ادعت امرأة على رجل الغصب، فإنها لا تخلو من خمسة أوجه: إما أن تشهد بينة بمعاينة الوطء، أو على اعتراف الغاصب بذلك، أو على اغتصابه لها وغيبته عليها، أو تأتي متعلقة به تدمي وتدعي أنه أصابها، أو تدعي ذلك عن يوم فرط.

                                                                                                                                                                                        فإن كانت الشهادة على معاينة الوطء لم تستحق الصداق بأقل من شهادة أربعة; لأنها شهادة على زنا، فإن كان دون ذلك كانوا قذفة، وسقطت شهادتهم ورجع إلى دعواها وهل هي متعلقة به، ولا يسقط دعواها لأجل سقوط الشهادة، بل هي زيادة في قوة دعواها.

                                                                                                                                                                                        وإن كانت الشهادة على إقراره جاز في ذلك شهادة رجلين، وهو قول ابن القاسم في كتاب محمد؛ لأن الشهادة -وإن لم تتم في إقامة الحد عليه في أحد القولين- فإن الصحيح أن العدالة قائمة; لأنهما لم يشهدا على معاينة، وإذا لم تسقط العدالة قضي بها في المال.

                                                                                                                                                                                        وإن شهد واحد على اعترافه حلفت واستحقت وفيه اختلاف، وهو بمنزلة شاهد على السرقة، فإن الشهادة تتضمن مالا واحدا، فيحلف المسروق منه ويستحق المال ويسقط الحد. [ ص: 2494 ]

                                                                                                                                                                                        وإن شهد شاهدان على معاينة غيبته عليها على وجه الغصب، كان القول قولها في الإصابة، واختلف في يمينها وألا تحلف أحسن إلا أن تكون بكرا، فينظر إليها النساء.

                                                                                                                                                                                        وإن لم تكن بينة وأتت متعلقة به، فإنه يعتبر في ذلك ثلاثة أحوال: حال الرجل هل يشبهه ذلك؟ وحال المرأة هل هي من أشراف الناس أو دنيئة؟ والثالث: هل هي بكر أو ثيب؟ والجواب على هذه الحالات ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فحالة تستحق الصداق ولا تحد لقذف الرجل، وحالة لا تستحق صداقا ولا تحد لقذفه، وحالة لا تستحق صداقا وتحد له، وكيف تصرف الحال فيهما فإن حد الزنا ساقط عنهما، وإنما يتردد الأمر في الصداق وحد القذف، فإن ادعت ذلك على من يعرف بمثل ذلك أو يشبهه وإن لم يعرف به، سقط الحد عنها لقذفه، واختلف في الصداق، فإن ادعته على من لا يشبهه لصلاحه ودينه لم يكن لها صداق، واختلف في حدها لقذفه.

                                                                                                                                                                                        فأما الصداق فإن ادعت الغصب على من هو معروف بذلك أو [ ص: 2495 ] تعلقت به، ففيه أربعة أقوال: فقال مالك في المدونة: ينظر في ذلك السلطان. ولم يوجب شيئا ولا أسقطه. وقال في كتاب محمد: لها صداق المثل ولا يمين عليها بكرا كانت أو ثيبا، وقال أشهب وعبد الملك: لها الصداق بعد اليمين. وقال ابن القاسم: لا صداق لها وإن أتت تدمى، ويؤدب الرجل أدبا موجعا، وذكر عن مالك مثله.

                                                                                                                                                                                        وأرى إن كانت ممن لها القدر، وكانت بكرا وأتت تدمي، أن تأخذ ذلك بغير يمين، وإن كانت ثيبا أو بكرا لا قدر لها أخذته بيمين، وإن كانت ثيبا لا قدر لها ولا يعرها ذلك أن لا شيء لها، ويحلف المدعى عليه.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا نظر إليها النساء فقلن: هي عذراء، فقال أشهب: لا شيء لها، وهذا مثل أحد قولي مالك في الزوجة إذا أرخى الستر وادعت المسيس وهي بكر أنه ينظر إليها النساء فيعمل على ما يقوله النساء. وقال أصبغ: لا يرجع إلى قولهن. والأول أحسن; لأنه قد تبين كذبها بشهادة من يرجع إلى قولهن في أمور الفرج، ولأنها تتهم أن تلطخ نفسها بدم تستحق الصداق به وتلطخ من لا يشبهه ذلك، وقد يحملها على الدعوى من يريد أذى المدعى عليه إذا كانت لا قدر لها، وكذلك إذا تبين أنها ليست بحديثة الاقتضاض وأتت تدمى. [ ص: 2496 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف في حدها إذا ادعت ذلك على الرجل الصالح على ثلاثة أقوال: فقال عبد الملك في كتاب ابن حبيب: لا تحد لما بلغت من فضيحة نفسها، وقال مالك وابن القاسم في كتاب محمد: تحد. وقال أصبغ: إن جاءت تدمي لم تحد، وفرق بين البكر والثيب. وهذا أحسن إذا كانت ذات قدر; لأنه قام لها دليلان: بضعها وشاهد الدم، وقام له هو دليل بحاله، فتقابلت الأدلة، فدليلاها يسقطان الحد، ودليله يسقط الصداق.

                                                                                                                                                                                        وفي الثيب إشكال، وأرى إن كانت معروفة بالخير ألا تحد، وإن كانت لا قدر لها ولا يعرها ذلك حدت، ولو كان الرجل ممن برز بالفضل والخير لحدت على أي حالة كانت من الموضع والقدر، فلو ادعت ذلك على مثل أبان أو سفيان الثوري لحدت.

                                                                                                                                                                                        وإذا شهدت البينة على معاينة الإصابة ولم تتم الشهادة لنقصهم عن الأربع أو كانت متعلقة به وقضي لها بالصداق، لم تحد وإن كان ممن لا يشبهه ذلك; لأن الشهادة شبهة لها ما لم يكن ممن برز في الفضل حسبما تقدم، فلا صداق لها، ولها شبهة في سقوط الحد إذا كانت من أهل الخير. [ ص: 2497 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية