الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في عتق أحد الشريكين ، ومن أعتق نصيبا من عبد جميعه له

                                                                                                                                                                                        قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من أعتق شركا له في عبد وله مال قوم عليه قيمة العدل ، وأعطي شركاؤه حصصهم ، وأعتق عليه ، وإلا فقد عتق بعد منه ما عتق" .

                                                                                                                                                                                        واستكمال العتق حق لله سبحانه ، فلو رضي العبد والشريك بتركه ، لم يجز .

                                                                                                                                                                                        واختلف قول مالك : هل يكون بقية العبد عتيقا بنفس العتق الأول أو بعد الحكم؟ وفرق الحكم مرة وقال : إن كان له جميعه كان عتيقا بنفس العتق وإن لم يحكم به ، وإن كان شريكا فحتى يحكم .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ : الأحسن ألا يكون عتيقا في الموضعين إلا بعد الحكم ، لقوله -عليه السلام- : "قوم . . . وأعتق عليه" هذا أمر ، وإن وقع العتق وليس في الحديث أنه بعتق الشريك يصير جميعه عتيقا ، فإن قيل : فليس في الحديث أيضا أنه رقيق حتى يعتق ، قيل : الأصل الرق فلا يصير الباقي عتيقا إلا بلفظ لا احتمال فيه ، فإن لم ينظر فيه حتى قتل أو جرح أو قذف كان على أحكام العبيد حتى يستكمل ، وقد قيل : إنه بنفس التقويم يصير عتيقا ، وهذا وهم; لأن عتق البعض يتضمن شيئين ، حقا لآدمي في أخذ ملكه منه بالقيمة ، وحقا لله تعالى في إكمال العتق [ ص: 3782 ] فالحكم بأحدهما ليس بحكم في الآخر . وإذا حكم على الشريك صار بمنزلة لو كان له جميعه ، والصحيح من المذهب بعد أن يكون جميعه للمعتق ألا يكون بقيته حرا إلا بعد الحكم ، وللشريك أن يعتق نصيبه ولا يقومه .

                                                                                                                                                                                        ومعنى الحديث أن يصير جميعه عتيقا إذا طلب ذلك المتمسك ، فإن اختار الشريك أن يعتق ثم انتقل إلى التقويم ، لم يكن ذلك له إلا برضا المعتق; لأنه أسقط حقه عنه .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا اختار التقويم ، ثم انتقل إلى العتق ، فقيل : ليس ذلك له ، وقال عند ابن حبيب : له ذلك . وقاله ابن القاسم وابن الماجشون ومحمل هذا القول ألا مقال في ذلك للعبد فيقول : لا يستكمل إلا على الأول وذلك للمعتق الأول لأنه يقول صار في في ذلك حق لاستكمال الأجر والولاء .

                                                                                                                                                                                        قال محمد : ويقوم على أنه عبد لا عتق فيه . يريد : لأن العتق عيب في باقي العبد وهو أدخل ذلك العيب فعليه فيه قيمة نصيب صاحبه سالما قبل ذلك العيب ويقوم كم يسوى لو بيع كله; لأن بيع الجملة أثمن ، وإن أعتق بإذن الشريك لم يكن له سوى القيمة يوم الحكم على أن نصفه حر ولا شيء له إذا كان معسرا ، وإن تأخر الاستكمال حتى تغير سوقه كان لمن لم يعتق قيمة عيب المعتق يوم أعتق وله قيمة النصف معيبا يوم الحكم ، فإن مات العبد قبل الاستكمال أو قال الشريك : أنا أعتق ولا أقوم أو كان المعتق معسرا اتبع المعتق بقيمة العيب في ذمته ولو لم يكن للشريك مقال لموضع عيب العتق لم يكن [ ص: 3783 ] للقول : إنه يقوم على أنه لا عتق فيه- وجه ومقتضى الحديث في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فقد عتق منه ما عتق" ، على ما يتعلق به من حق الله تعالى دون ما يتعلق به من حق الشريك ، ولا يقوم عليه لأجل ذلك العيب الذي أدخل مع العسر فيستكمل العبد العتق فقال محمد : ذلك له ، وحمل الحديث في ترك الاستكمال لحق الشريك خاصة .

                                                                                                                                                                                        وقال غيره في كتاب أمهات الأولاد من المدونة : ليس ذلك له ، وهو أحسن لأن الأصل لو لم يرد الحديث ألا شيء له على المعتق سوى القدر الذي تقرب به إلى الله سبحانه ، فأمر باستكمال النصيب الآخر مع اليسر وإذا كان معسرا لم يلزمه سوى ما تقرب به إلى الله ولا تعمر ذمته بسواه ، وقد حمل بعض أهل العلم الحديث على الندب ، وإن كان موسرا بالبعض قوم عليه بقدر ما هو موسر به إلا أن يشاء الشريك أن يعتق ذلك الجزء فذلك له ولا شيء عليه غيره .

                                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                                        ويباع عليه في الاستكمال شوار بيته وفضول ثيابه ، ويترك له ثياب ظهره وعيشه الأيام .

                                                                                                                                                                                        وقال عبد الملك بن الماجشون في المبسوط : إذا ادعى الفقر ، وليس له مال ظاهر سئل جيرانه ومن يعرفه ، فإن قالوا : لا نعرف له شيئا ، حلف وترك . [ ص: 3784 ]

                                                                                                                                                                                        قال سحنون : وجميع أصحابنا على ذلك إلا في اليمين ، فإنه لا يستحلف عندهم .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ : وهذه المسألة أصل في كل ما لم يكن أصله معاوضة أنه لا يضيق الأمر فيه كالمداينة ، وإذا كان موسرا ، فلم يقوم عليه حتى عسر سقطت القيمة .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان معسرا فلم يحاكمه حتى أيسر ، فقال : كان مالك يقول : يقوم عليه ، قال : ثم قال : إذا كان يعلم الناس والعبد والشريك بعسره فلا شيء عليه . وهو أحسن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من أعتق عبدا وله مال" ثم قال : "وإلا فقد عتق منه ما عتق" فعلق الحكم بما يكون يوم العتق من اليسر والعسر ، وعلى هذا يجري الجواب إذا كان موسرا ، ثم أعسر بأمر بين ثم أيسر ، فلا يستكمل عليه ولو شك فيه وقال : كنت معسرا ومعلوم أن الذي في يديه فائدة كان القول قوله ، ولا يستكمل في الفائدة; لأنه مال محدث فلا يقوم فيه للشك فيما قبله ، هل كان له مال والقيمة مع اليسر على النقد ، فإن تراضيا بالقيمة مؤجلة ، لم يجز ودخله الربا وفسخ الدين في الدين ، وإن تراضيا بالتأخير مع العسر جاز; لأنه بيع باختيار ، وإن أعتق المتمسك بعض [ ص: 3785 ] نصيبه بتلا أيضا أكمل بقية نصيبه عليه ، فإن لم يستتم عليه حتى مات استتم على الأول .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ : القياس ألا يعتق منه على الثاني إلا ما عتق ويقوم الباقي على الأول; لأن الثاني يقول : كان لي أن أقوم عليك الجميع ، فأنا أسقط حقي في البعض وأقوم ما بقي .

                                                                                                                                                                                        وأيضا فإنه قد اختلف في العبد يكون بين ثلاثة نفر فيعتق الأول وهو معسر ، ثم يعتق الثاني وهو موسر أنه لا قيمة على الثاني ، وعلى هذا لو كان العبد بين اثنتين فأعتق أحدهما نصيبه وهو معسر ، ثم أعتق الثاني نصف نصيبه وهو موسر أنه لا يستتم عليه ، وإن أعتق الأول وهو موسر بنصف نصيب صاحبه كان من لم يعتق بالخيار بين أن يعتق نصف نصيبه وهو القدر الذي استحق العبد أن يعتق منه على الأول ، ولا يستكمل عليه نصيبه; لأنه قد يسبق فيه العتق ، ولم يرده بعتقه هذا فسادا ، وبين أن يقوم عليه بقدر ما هو موسر به ويتمسك بالباقي رقيقا . [ ص: 3786 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية