الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في مسائل ممنوعة في بيوع الآجال وأخرى محل خلاف]

                                                                                                                                                                                        بيوع الآجال تمنع إذا تضمنت سلفا بزيادة، أو ما كان في معناه من دفع قليل ليرجع إليه كثير، واختلف إذا عري من الزيادة في أربع مسائل:

                                                                                                                                                                                        في الصرف المستأخر، والمراطلة، والمبادلة المستأخرة، وأسلفني وأسلفك.

                                                                                                                                                                                        وأما المبادلة، فقال ابن القاسم فيمن باع ثوبا بمائة محمدية إلى شهر ثم اشتراه بمائة يزيدية إلى ذلك الأجل: لا خير فيه، فكأنه باعه محمدية بيزيدية إلى أجل. وقال ابن القاسم وعبد الملك في المجموعة فيمن باع سلعة بمائة دينار قائمة إلى شهر ثم ابتاعها منه بمائة مثقال إلى ذلك الأجل أو أبعد منه: فلا بأس به، ولا يتهم أحد على مثل ذلك، وأما عين بمائة مثقال نقدا فلا خير فيه، وإن كان إلى شهر فلا بأس به. فعلى هذا يجوز إذا باع [ ص: 4179 ] ثوبا بمائة محمدية إلى شهر ثم اشتراه بمائة يزيدية إلى ذلك الأجل أو أبعد منه، ولا يجوز بيزيدية نقدا.

                                                                                                                                                                                        وأما المراطلة، فقال ابن القاسم وعبد الملك في المجموعة: إذا باع سلعة بعشرة عتق إلى شهر، ثم اشتراها بعشرة هاشمية نقدا، والهاشمية أكثر عددا وهي بزيادتها مثل العتق المؤخرة أو أكثر منه، فلا بأس به، وإن لم تكن مثلها فلا خير فيه. قال: وإن باعها بمائة عتق تنقص خروبة خروبة إلى شهر، ثم اشتراها بمائة هاشمية رديئة وازنة نقدا، فإن كان في زيادة وزنها ما يحمله وجوه العتق فأكثر جاز، وإلا لم يجز. وهذا خلاف قول ابن القاسم في منع المحمدية باليزيدية، بل المنع في المراطلة أقوى من المنع في المبادلة؛ لأن المراطلة فيها مبايعته، والمبادلة فيها تفضل من صاحب المحمدية على صاحب اليزيدية.

                                                                                                                                                                                        والقول بالجواز في جميع ذلك أحسن؛ لأن التهمة في بيوع الآجال أن يقدم قليلا ليأخذ كثيرا، ولا تهمة في هذه المراطلة والمبادلة؛ لأنه في معنى من خسر يخسر الصبر، ولا يزداد شيئا. [ ص: 4180 ]

                                                                                                                                                                                        وأما الصرف فإن باع بدراهم ثم يشتريها بدنانير، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                        فقال ابن القاسم في المدونة: إذا كان البيع الأول بأربعين درهما إلى شهر، ثم اشتراها بدينارين وصرف الدينارين أربعون درهما: لا يعجبني، وإن اشتراها بعشرين دينارا جاز؛ لأنهما سلما من التهمة. وقال أشهب: لا يجوز، وإن اشتراها بعشرين دينارا. وعلى قول ابن القاسم وعبد الملك في المجموعة يجوز وإن اشتراها بدينارين، وهو أحسن؛ لأنه يخسر الصبر، ولا يعود إلى يده أكثر مما خرج منها. وقال ابن القاسم في كتاب محمد فيمن باع من رجل سلعة بعشرة إلى شهر ثم ابتاعها منه بخمسة نقدا، وخمسة إلى شهرين: لا بأس به.

                                                                                                                                                                                        وكرهه عبد الملك وزعم أن البائع دفع خمسة لينتفع بها المشتري شهرا، ثم يردها إليه ليدفع إليه المشتري معها عند الشهر خمسة أخرى إلى شهرين فيقع في معاملتهما: أسلفني وأسلفك.

                                                                                                                                                                                        قال محمد: ويتهم أهل العينة في بيوع النقود، وبيوع الآجال فيما فعلاه في أول المبايعة من قبل رجوع السلعة المبيعة، وغير أهل العينة يتهمون في بيوع الآجال فيما عملاه من الصفقة الثانية، ولا ينظر إلى ما مضى من انتفاع [ ص: 4181 ] المشتري بما نقد قبل الصفقة الثانية، فمن باع السلعة بالنقد، ثم اشتراها بأكثر منه نقدا أو إلى أجل، جاز إلا من أهل العينة.

                                                                                                                                                                                        وإن باع سلعة بخمسة نقدا وخمسة إلى شهر، ثم اشتراها منه بستة نقدا، وبخمسة إلى شهر فلا خير فيه إن كانا من أهل العينة؛ لأنه أدخل التهمة فيما كان انتقد دفع خمسة وأخذ ستة، وإن لم يكن من أهل العينة جاز؛ لأن البائع بخس دينارا، وإن اشتراه بخمسة فأقل نقدا جاز. وإن اشتراه بستة إلى تسعة نقدا، لم يجز؛ لأن الزائد على الخمسة الأولى مدفوع في خمسة فهو سلف بزيادة، وإن اشتراه بعشرة نقدا، جاز. قال ابن القاسم فيمن باع عبدين بمائة دينار إلى سنة، ثم اشترى أحدهما بتسعة وتسعين نقدا أو بدينار نقدا، أو بخمسين نقدا: لم يجز ويدخله بيع وسلف.

                                                                                                                                                                                        وقوله: في بيع وسلف، يحسن إذا اشتراه بخمسين ولا يحسن إذا اشتراه بدينار، ولا يتهم أن يبيع بتسعة وتسعين ليسلف دينارا، وأبعد في التهمة أن يشتريه بتسعة وتسعين؛ لأنه لا يتهم أن يبيع بدينار لسلف مائة إلا دينارا. [ ص: 4182 ]

                                                                                                                                                                                        وإن اشتراه بخمسين فسخت البيعتان في العبدين جميعا على قول عبد الملك، ويرد العبد الباقي في يد المشتري إن كان قائما أو قيمته إن كان فائتا، وإن كانت القيمة أكثر من خمسين لإنكار المتبايعين أن يكونا عقدا على بيع وسلف، فإن اعترفا أنهما عقدا على بيع وسلف كانت القيمة ما لم تكن أكثر من الخمسين، وإن أنكرا أن يكونا عملا على بيع وسلف، وكانت قيمة العبد الباقي في يد المشتري ستين دينارا أو ما أشبه ذلك مضى البيع فيه بخمسين؛ لأنه لا يتهم أن يبيع ما قيمته ستون بخمسين، ويسلف خمسين. ولو استرجع العبد بائعه بخمسين إلى أبعد من الأجل، لم يجز، وإن كانت قيمته ستين؛ لأنه يتهم أن يترك العشرة وهي فضل في قيمة العبد، لمكان ما سلفه المشتري وهي الخمسون، وإن كانت قيمته أربعين، جاز، وإن اشتراه بمائة إلى أبعد من الأجل، لم يجز، ويدخله سلف بزيادة.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن باع ثوبا بعشرة إلى شهر، ثم اشتراه بخمسة نقدا، وبثوب من نوعه أو من غير نوعه نقدا: لا خير فيه.

                                                                                                                                                                                        قال: ويدخله بيع وسلف؛ لأن ثوبه رجع إليه، وباع ثوبا بخمسة على أن يسلفه خمسة، وهذا يحسن إذا كانت قيمة الثوب الثاني أربعة فيشتريه منه بخمسة ليسلفه خمسة، فإن كانت قيمته خمسة منع حماية، فإن فات مضى، ولا يتهم أن يبيع ما يساوي خمسة نقدا بخمسة إلى أجل فيسلف خمسة فيخسر [ ص: 4183 ] الصبر بالخمسة والسلف، وإن كانت قيمته ستة كان أبين في الجواز، وأبعد من التهمة.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن باع ثوبين بعشرة إلى شهر فاشترى أحدهما بثوب نقدا وبخمسة نقدا: لا خير فيه، ويدخله بيع وسلف. ويعتبر في هذا نحو ما تقدم في الأولى من قيمة الثوبين هل قيمتهما أربعة أو خمسة، أو أكثر، وكذلك الجواب في الذي باع ثوبا بعشرة محمدية إلى شهر، ثم اشتراه بثوب نقدا، أو بخمسة يزيدية إلى ذلك الأجل، قال: لا خير فيه، وعلى قوله في المجموعة: ينظر إلى قيمة الثاني على حسب ما تقدم.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية