الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في المساقاة الفاسدة

                                                                                                                                                                                        ولا تجوز المساقاة على أن يبدأ أحدهما بمكيلة، ثم الباقي بينهما أنصافا أو أثلاثا، ولا بأس أن يساقى على أن لأحدهما جزءا من عشرة أو أكثر، والباقي بينهما نصفين; لأن ذلك يرجع إلى جزء معلوم: لأحدهما خمسة ونصف، وللآخر أربعة ونصف.

                                                                                                                                                                                        قال مالك في "مختصر ما ليس في المختصر": إن قال: اسق هذا النخل وأصلحه وألقحه ولك من كل نخلة عذق، فلا خير فيه، فإن قال: لك من كل نخلة مد جاز. فأجرى الجواب في هذا مجرى الجعالة فيمن قال: بع هذا ولك من ثمنه درهم، فهو إن باع أخذ الدرهم من ذلك الثمن، وإن لم يبع أو باع وذهب الثمن منه قبل أن يوصله إلى ربه- لم يكن له شيء، وكذلك الثمرة إن سلمت أخذ ذلك المد، وإن لم تسلم فلا شيء له.

                                                                                                                                                                                        وإن قال: اسق هذين الحائطين على أن ثمرة هذا لك، وهذا لي- لم يجز; لأنه غرر، فقد يصيب أحدهما ويخطئ الآخر، فإن نزل كان أجيرا فيهما، وهذا قول ابن القاسم، فأما ما عمله لصاحب الحائط فله أجره ولا خلاف في ذلك.

                                                                                                                                                                                        ويختلف فيما عمله لنفسه إن أجيحت ثمرته، وألا شيء له أحسن; لأن صاحب الحائط لم يساقه فيه، وإنما باع منه ثمرة بيعا فاسدا، فإن أجيحت لم يكن له في ذمة البائع شيء، وإن سلمت الثمرة كان له أجر مثله ما لم يجاوز الثمرة. [ ص: 4715 ]

                                                                                                                                                                                        وإن قال: ثمرة هذا الحائط بيننا، وثمرة هذا الآخر لي أو لك - لم يجز، ويكون للعامل أجره في ثمرة الحائط الذي شرطا ثمرته لأحدهما حسب ما تقدم. فإن شرطاها لصاحب الحائط كان له أجره وإن جاوزت الثمرة. وإن شرطاها للعامل كان له أجره ما لم يجاوز الثمرة.

                                                                                                                                                                                        ويختلف في الذي شرطا ثمرته بينهما هل يكون فيه أجيرا أو على مساقاة مثله؟ وأرى أن يكون للعامل الأقل من المسمى، أو مساقاة المثل، إن شرطا المنفرد لصاحب الحائط، وإن شرطاه للعامل كان له الأكثر.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب: إذا كانت المساقاة على أن البرني بينهما وما سواه لصاحب الحائط: كان في البرني على مساقاة المثل. وفي الآخر أجيرا.

                                                                                                                                                                                        وإن كان ما سواه للعامل كان أجيرا في الجميع; لأن الزيادة إذا كانت لرب المال أخف; لأنه يعود إلى تقليل جزء الثاني، وإذا كانت الزيادة للعامل كان أجيرا; لأنه شرط أن تكون الزيادة من غير الحائط.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن دفع نخلا مساقاة خمس سنين وفيها بياض على أن يعمله العامل لنفسه أول سنة، ثم يرجع البياض إلى صاحب الحائط يعمله لنفسه لم يجز لأنه غرر، قال: وكذلك لو كانا حائطين يعملهما العامل سنة ثم يجد أحدهما، ويعمل في الآخر سنة لم يجز. [ ص: 4716 ]

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب: إن فات بالعمل قبل مساقاتهما جميعا أول سنة فإن قيل: النصف، كان له فيهما في تلك السنة النصف، ثم يقال: ما مساقاة الذي بقي في يديه وحده سنتين؟ فإن قيل: الثلث; كان له في هذه السنة وحدها الثلث. وهذا صحيح; لأنه قد استحق النصف في أول سنة قبل أن يشرع في الثاني، ثم قوم الثاني عامين; لأن مساقاة الحائط عاما واحدا، بخلاف مساقاته عامين; لأن السنين يحمل بعضها عن بعض كما قيل فيمن ساقى حائطا عامين مساقاة فاسدة فعمل عاما، فلا ينزع من يده حتى يتم العام الآخر.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن ساقى حائطا ثلاثة أعوام وفيه في العام الأول ثمرة قد طابت كان أجيرا في العام الأول، وفي العامين على مساقاة المثل، فإن نظر في ذلك في أول عام ولم تجد الثمرة أعطي أجر مثله ولم يمكن من التمادي، وإن لم ينظر في ذلك حتى شرع في العام الثاني لم ينتزع منه حتى يتم الثالث.

                                                                                                                                                                                        وهذا الجواب في كل موضع يرجع فيه إلى أجر المثل فإنه يعطى أجره عن الماضي، ولا يمكن من التمادي. وكل موضع يكون فيه على مساقاة المثل لا ينتزع منه بعد العمل حتى يتم ما دخل فيه; لأن مساقاة المثل إنما يأخذها جزءا من عين الثمرة، فلو أخرج قبل تمامها ذهب عمله باطلا، والإجارة متعلقة بالذمة دنانير أو دراهم، فإذا خرج قبل تمام العمل لم يذهب عمله باطلا.

                                                                                                                                                                                        وأرى في كل موضع يرد فيه إلى مساقاة مثله تكون مساقاة المثل فيه أكثر من المسمى [ ص: 4717 ] أن يرد في عمله كله إلى إجارة المثل; لأنه إن أعطي الزائد على المسمى كان قد بيع على صاحب الحائط من الثمرة ما لم يبعه منها، وإن قصر العامل على المسمى ظلم، إلا أن يرضى العامل بالمسمى ويسقط مقاله في الزائد، أو يرضى صاحب المال أن يدفع ذلك الزائد ثمرة، أو يكون الزائد الشيء اليسير.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك فيمن له حائط تهور بئره ولجاره بئر، فقال له جاره: أنا آخذ حائطك مساقاة وأسقيه بمائي: لا بأس به، قال ابن القاسم: فأجاز هذا على وجه الضرورة.

                                                                                                                                                                                        قال ابن عبدوس: قال سحنون: معنى ذلك إذا كان الماء الذي يسقي به هو فضل بئره; لأن لصاحبه أن يأخذه منه على ما أحب أو كره. فأجازه مالك لأنه لم يزد ذلك عليه بالمساقاة شيئا، ثم سمعته بعد ذلك يقول: ما يعجبني مسألة مالك; لأنه إنما له أن يأخذ ماءه حتى يصلح بئره، وهذا يتركها ولا يعمل. [ ص: 4718 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية