الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [فيما يبيح الجمع]

                                                                                                                                                                                        واختلف في الوجه الذي يبيح الجمع، فقال مالك: لا يجمع إلا أن يجد به السير، ويخاف فوات أمر. وسوى في ذلك بين الجمع عند الزوال، أو الظهر في آخر الوقت والعصر في أول الوقت، وقال ابن حبيب: يجوز ذلك إذا أراد قطع السفر، وقال أشهب في كتابه: يجوز ذلك اختيارا. وللحاضر من غير سفر أن يؤخر الظهر فيصليها في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها. [ ص: 451 ]

                                                                                                                                                                                        قال: وذلك أن يصلي الظهر وقد صار ظل كل شيء مثله. ويبتدئ صلاتها إذا كان الفيء قامة. وإذا صلاها أقام وصلى العصر، أو يصلي المغرب وقد غاب الشفق، وإذا صلاها أقام الصلاة وصلى العشاء.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك عند ابن شعبان: يكره الجمع في السفر للرجال، ويرخص فيه للنساء. وقال أيضا: إذا ارتحل المسافرون عند الزوال فلا يجمعون. يريد: إن كان نزولهم قبل الغروب فلا يجمعون.

                                                                                                                                                                                        وقول أشهب: إنه يجوز الجمع إذا كان يصلي هذه في آخر وقتها والعصر في أول وقتها اختيارا للمسافر والمقيم - حسن. ولا خلاف أن تأخير الظهر إلى آخر وقتها اختيارا جائز، ولا يجوز تقدمة العصر أول وقت الظهر، ولا تأخير الظهر فيصلى قبل الاصفرار إلا لضرورة. وإذا كان ذلك فلا يجوز إلا للضرورة، مثل أن يخاف على نفسه إذا نزل، أو يتكلف مشقة في لحوقه بأصحابه. وإن كان وحده أو معه النفر اليسير ينزلون لنزوله - فلا يباح ذلك له.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا كان يخف عليه اللحوق بهم إلا أنه يصلي فذا، وإن صلى قبل أن يرحل صلى جماعة; قياسا على الجمع ليلا لأجل المطر، فقدم مالك مرة فضيلة الجماعة على فضيلة الوقت، ومنعه مرة. وكذلك تأخير الظهر ليصليها مع العصر في الاصفرار- لا يجوز إلا للضرورة أن يخاف أن يتأخر عن أصحابه، أو يكون وحده ويخاف ذهاب دابته. وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك [ ص: 452 ] ثلاثة أحاديث:

                                                                                                                                                                                        أحدها: حديث أنس قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى آخر وقت العصر، ثم نزل فجمع، وإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب". أخرجه البخاري ومسلم. وزاد مسلم عن أنس قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عجل به السير أخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق".

                                                                                                                                                                                        والثاني: حديث معاذ قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا، وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب".

                                                                                                                                                                                        والثالث: صلاته -صلى الله عليه وسلم- بعرفة والمزدلفة: قدم العصر حين زالت الشمس; [ ص: 453 ] لأنهم يركبون في الوقوف ولا يدفعون حتى تغرب الشمس، وأخر المغرب; لأن الوقت يدخل عليهم وهم ركبان فلا ينزلون إلا بالمزدلفة.

                                                                                                                                                                                        ومحمل الحديث أنه كان إذا زالت الشمس قبل أن يرحلوا - صلى الظهر خاصة على ما يكون نزوله منه قبل الاصفرار، ومحمل الحديث في الجمع على ما كان يعلم أن نزوله يكون بعد غروب الشمس، وكذلك في الليل يحمل ما روي عنه أنه كان يجمع إذا غربت الشمس، وهو في المنهل على ما يعلم أنه ينزل بعد طلوع الفجر، ولو كان نزوله قبل ذهاب نصف الليل- صلى المغرب وحدها.

                                                                                                                                                                                        ويصح أن يحمل الحديث في صلاة الظهر وحدها فيما يكون نزوله بعد الاصفرار وقبل الغروب، وقد جمع الصلاتين بعرفة حين زالت الشمس; لأنهم يتلبسون بأمر لا ينقضي إلا لغروب الشمس، وأخر المغرب بالمزدلفة; لأن الشمس تغرب وهم ركبان ويصلون قبل ذهاب نصف الليل. [ ص: 454 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية