الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في اتباع السارق بقيمة السرقة، ومن سرق من رجل ثم سرق من آخر كيف يدخل بعضهم على بعض؟ وهل يدخل المسروق منه على غرماء السارق؟

                                                                                                                                                                                        وإذا لم يقطع السارق اتبع بما سرق في العسر واليسر، وإذا قطع والسرقة قائمة، كان لصاحبها أن يأخذها .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا استهلكها أو تلفت من يديه، فقال مالك وابن القاسم: إذا كان موسرا من يوم سرق إلى يوم قطع أغرم القيمة وإن أعسر بعد القطع لم يسقط عنه الغرم، وإن كان موسرا يوم سرق، ثم أعسر قبل القطع أو كان قبل القطع معسرا فقطع وهو موسر، أو كان موسرا يوم سرق ويوم قطع وأعسر فيما بين ذلك، لم يتبع بشيء .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب: لا يتبع بشيء إلا أن يتمادى يسره بعد القطع إلى يوم يحكم عليه بالقيمة. وقال أبو محمد عبد الوهاب: قال بعض شيوخنا: القيمة مع القطع استحسان، والقياس أن لا يلزمه شيء; لأنه لو لزمه الغرم مع اليسر للزمه مع العسر، وإنما استحسن ذلك لجواز أن يكون قد قبض لها ثمنا [ ص: 6111 ] واختلط بماله .

                                                                                                                                                                                        وحكى ابن شعبان قولا رابعا أنه يتبع مع القطع، وإن كان معسرا قال: وهو قول غير واحد من أهل المدينة; لأن القطع حق لله -عز وجل- لا يعفى عنه، وإن تاب السارق، وحسنت توبته والغرم حق لآدمي وحقوق الله تعالى لا تسقط حق الآدمي، كما يجب على الزاني المحصن يريد: إذا اغتصب امرأة، الصداق مع الرجم .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رحمه الله-: في هذه المسألة نص وقياس معارض للنص ، فالنص قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا غرم على صاحب السرقة إذا أقيم عليه الحد" ذكره النسائي . فعلى هذا لا يغرم موسرا كان أو معسرا لأن الحديث لم يفرق، ولا نختلف أن هذه التسمية في الغرم لا تختص بالمعسر وأنه متى أخذ العوض من الموسر سمي غارما، ولهذا قال من ذكر عنه أبو محمد عبد الوهاب: الغرم استحسان. وأما قولهم: إن ذلك لإمكان البيع وأنه خلط الثمن بماله، فصحيح ولا يعترض ذلك إذا وجد السرقة بعينها; لأنه لا يقع عليه متى أخذ عين الشيء اسم غارم. [ ص: 6112 ]

                                                                                                                                                                                        وأما القياس فإنه يغرم مع العسر قياسا على المحصن يغتصب المرأة، فإنه يغرم وإن مرت به حالة هو فيها معسر; لأن حقوق الآدميين في المتلفات والغصوب لا تسقطها حقوق الله تعالى متى أقيم عليه عقوبة ذلك الفعل، فيقدم القياس مع كون الحديث مختلفا في سنده .

                                                                                                                                                                                        ويختلف في إغرامه مع العسر وعدم القطع إذا كان المسروق منه مقرا أنه ممن وجب عليه القطع، وذلك في ثلاث مسائل:

                                                                                                                                                                                        إحداها: إذا لم تثبت السرقة إلا بشاهد.

                                                                                                                                                                                        والثانية: إذا لم تكن بينة وقال السارق: سرقت من غير حرز. وقال المسروق منه: من حرز.

                                                                                                                                                                                        والثالثة: أن تذهب يمينه بأمر من الله سبحانه فمذهب ابن القاسم في هذا الأصل أنه يتبع في الذمة وإن كان معسرا يوم سرق أو يوم يقام عليه الحد .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب: لا يتبع; لأن المسروق منه يقر أن حكمه القطع، وأنه ظلم في امتناعه من القطع ، واستشهد في ذلك أنه لو شهدت عليه بينة بالسرقة، [ ص: 6113 ] فلم يحكم عليه بالقطع حتى مات، أنه لا يتبع في يسر حدث ، والقول الأول أحسن وإنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يجتمع عليه الأمران: مصيبة في عضوه، والغرم فإذا عدم القطع لأمر ما اتبع، وكذلك إذا مات فإنه يتبع على قول ابن القاسم، ولا يسقط عنه الغرم إلا مع وجود النكال بالقطع، ومثله إذا اعترف لرجل بسرقة قد أخذها من حرز ثم رجع وأتى بعذر يسقط القطع، ولا يسقط حقوق الآدميين، فإنه يتبع عند ابن القاسم، ولا يتبع عند أشهب، وأن يتبع أحسن، وإذا كانت السرقة مما لا قطع فيها; لأنها أقل من ربع دينار، أو ربع دينار وأخذت من غير حرز اتبع بها، وإن كان معسرا قولا واحدا .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية