الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لبول ولا لغائط

                                                                                                                                                                                        ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لبول ولا لغائط إذا كان في الصحاري، واختلف عن مالك في ذلك في المدن، فأجازه في " المدونة" ، وقال في " مختصر" ابن عبد الحكم: ذلك في الصحاري والسطوح التي يقدر على الانحراف فيها، فأما المراحيض التي قد عملت على ذلك فلا بأس . فأمره في الحاضرة بالانحراف عن القبلة، إلا أن تكون أبنية فتكون ضرورة.

                                                                                                                                                                                        قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : لأن الأبنية قد تضيق ولا يمكن إلا على تلك الصفة .

                                                                                                                                                                                        واختلف في تعليل الحديث فقال من نصر القول الأول: إن ذلك لحق من يصلي في الصحاري من الملائكة وغيرهم; لئلا ينكشف إليهم. [ ص: 65 ]

                                                                                                                                                                                        واحتج بحديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: " ارتقيت على بيت حفصة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين لحاجته مستدبر الكعبة مستقبل بيت المقدس" .

                                                                                                                                                                                        وقيل: إن ذلك لحرمة القبلة تعظيما لها وتشريفا. وهذا تستوي فيه الصحاري والمدن، وهو أحسن.

                                                                                                                                                                                        قال أبو أيوب: " فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت إلى القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله" .

                                                                                                                                                                                        وعلى من أحب بناء ذلك أن يجعله لغير القبلة إلا أن لا يتسنى ذلك له; لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تستقبلوا القبلة لبول ولا لغائط ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا" .

                                                                                                                                                                                        فنص على القبلة ألا ينكشف إليها بقبل ولا دبر، ويلزم من قال النهي لأجل المصلين أن يجيز لمن جلس لحاجته أن ينكشف بقبله أو دبره للقبلة إذا سدل ثوبه لناحية المصلي هنالك، فيكون قد خالف نص الحديث، ولا يجوز الخروج عن النص على القبلة إلى المصلين إلا بنص أو دليل. والاحتجاج بحديث ابن عمر - رضي الله عنه - غير صحيح لوجوه: [ ص: 66 ]

                                                                                                                                                                                        أحدها: أنه إذا نهى أمته عن شيء وفعله كان فعله مقصورا عليه، وكان الواجب على الناس امتثال ما أمروا به أو نهوا عنه من ذلك.

                                                                                                                                                                                        والثاني: أنه إذا ورد حديثان تعارضا، أحدهما نازلة في عين، والآخر مطلق لجميع الناس، وجب المصير إلى العام; لإمكان أن تكون لتلك النازلة علة أوجبت خروجها عن الأصل، وفعله - صلى الله عليه وسلم - ذلك مرة كنازلة في عين.

                                                                                                                                                                                        والثالث: إذا كان مضمون أحد الحديثين يفتقر إلى توقيف والآخر لا يفتقر إلى ذلك وجب المصير إلى ما لا يفتقر إلى توقيف ، وصفة جلوس الإنسان لا تفتقر إلى توقيف ذلك، فالواجب الأخذ بما ورد من النهي في ذلك; لأنه نقل عن الأصل ، وأوجب حكما.

                                                                                                                                                                                        والرابع: أنه إن كان فعله ذلك متقدما كان الحكم إلى الآخر، وإن كان متأخرا فإنه يجب أن يبين لأمته - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                        والخامس: أنه لا يختلف أن مجرد النهي لا يقتضي موضعا مخصوصا ولا يجوز أن يحمل أنه خصه بمثل هذا بما فعله في بيته ليطلع عليه في تلك الحال، والواجب أن ينزه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ولا يحسن أن ينسب مثل ذلك إلى أحدنا، فكيف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                        والسادس: أنه ترك أمته على ما نهاهم عنه، ولا علم عنده هل علم ذلك منه أحد أو لا; وفي مسند البزار قال علي - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من جلس يبول قبالة القبلة فذكر فتحول عنها إجلالا لها لم يقم من مجلسه ذلك حتى يغفر [ ص: 67 ] الله له" .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في الجماع مستقبل القبلة: لا بأس به. قال: لأن مالكا لم ير بأسا بالمراحيض في المدائن وإن كانت مستقبلة القبلة .

                                                                                                                                                                                        والجواب عن ذلك في المدائن والقرى; لأنه الغالب، والشأن في كون أهل الإنسان معه ، وهذا إذا كانا منكشفين فيمنع في الصحاري، ويختلف في المدن. وإن كانا مستترين جاز في الموضعين جميعا.

                                                                                                                                                                                        وقال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجرد تجرد العيرين" . [ ص: 68 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية